المنشورات

الرجال والنساء الهومرية

كان المجتمع الآخي مجتمعاً أبوياً استبدادياً، يمتزج به جمال المرأة وغضبها بحنان الأبوة وحبها القويين (1). وكان الأب من الوجهة النظرية صاحب السلطان الأعلى، وكان له أن يتخذ من السراري ما يشاء (2)، وأن يقدمهن لضيوفه، وأن يضع أطفاله على قمم الجبال ليموتوا أو يذبحهم قرباناً للآلهة الغضاب. وهذه السلطة الأبوية المطلقة لا تستلزم حتماً أن يكون المجتمع الذي تسوده مجتمعاً وحشياً، بل كان ما تعنيه أن هذا المجتمع لم يبلغ نظام الدولة فيه مبلغاً يكفي لحفظ النظام الاجتماعي، وأن الأسرة فيه تحتاج في خلق هذا النظام الاجتماعي إلى القوى التي آلت فيما بعد إلى الدولة حين أممت حق القتل. وكلما تقدم التنظيم الاجتماعي وارتقى نقص سلطان الأب، وتفككت وحدة الأسرة، ونمت الحرية والفردية. ولقد كان الرجل الآخي في الحياة العملية رجلاً معقولاً في أغلب الأحوال، يصغي في صبر وأناة إلى فصاحة أهل منزله ويخلص إلى أبنائه.
وكان مركز المرأة في نطاق هذا الإطار الأبوي أرقى في بلاد اليونان الهومرية منه في أيام بركليز. فهي تضطلع بدور رئيسي في القصص والملاحم من خطبة بلبس لهبوداميا Hippodameia إلى رقة إفجينيا وحقد إلكترا. فلا الحجاب ولا البيت بمانع لها من الخروج، بل نراها تسير حرة بين الرجال والنساء على السواء، وتشترك أحياناً في مناقشات الرجال الجدية كاشتراك هلن مع منلوس وتلمكس. ولم يكن الزعماء الآخيون إذا أرادوا أن يستثيروا غضب الشعب على طروادة يلجئون إلى المبادئ السياسية أو العنصرية أو الدينية، بل كانوا يستثيرونه بجمال النساء؛ ومن أجل ذلك كان وجه هلن الجميل هو الحجة التي تذرعوا بها لإثارة حرب تهدف إلى امتلاك الأرض وإلى التجارة؛ ولولا المرأة لكان بطل هومر جلفاً فظاً ليس له هدف يعيش من أجله، فهي تعلمه شيئاً من الأدب والمثالية ودماثة الأخلاق.
وكان الشراء طريقة الزواج، وكان الثمن عادة أثواراً أو ما يساويها يؤديه الخطيب إلى والد الفتاة. ويحدثنا الشاعر عن "العذراء حالبة الماشية" (56). ولم يكن الخطيب وحده هو الذي يؤدي ثمن العروس، بل كان والدها يؤدي لها أحياناً بائنة قيمة. وكانت حفلة الزفاف عائلية واجتماعية معاً، وكان من مظاهرها كثرة الطعام، والرقص والمرح الذي تنطلق فيه الألسنة. "وكانوا يسيرون بالعروسين في وهج المشاعل من حجراتهما ويخترقون بهما المدينة وسط أغاني العرس العالية. وكان الشبان يرقصون وهم يدورون، وتعلو بينهم نغمات الناي والقيثارة (57) " - ألا ما أشبه الليلة بالبارحة. ومتى تزوجت المرأة أصبحت من فورها ربة بيتها ونالت من التكريم بقدر ما تنجب من الأبناء. وكان الحب بمعناه الحقيقي - أي بوصفه حناناً وشوقاً - يأتي إلى اليونان كما يأتي إلى الفرنسيين بعد الزواج لا قبله، فلم يكن هو الشرارة التي تنطلق باتصال جسمين أو تقاربهما، بل كان ثمرة الاشتراك الطويل في العناية بالبيت وشؤونه. وفي الزوجة الهومرية من الوفاء بقدر ما في زوجها من عدمه. وليس في أشعار هومر إلا ثلاث زانيات - هن كليتمنسترا، وهلن، وأفرديتي؛ ولكن الصورة التي يرسمها لهن لا تنطبق على المرأة العادية، وإن انطبقت على الإلهات في تلك الأيام.
وكانت الأسرة الهومرية التي أثرت فيها هذه العوامل (إذا صرفنا النظر عن مغالاة الأقاصيص التي لا وجود لها في أشعار هومر) نظاماً سليماً يستريح له الإنسان ويسر منه، أكثر نسائها مهذبات رقيقات وأكثر أطفالها مخلصون أوفياء. ولم يكن عمل الأمهات مقصوراً على إنجاب الأبناء، بل كن يقمن فيها بكثير من الأعمال: فكن يطحنّ الحب، ويمشطن الصوف، ويغزلن، وينسجن، ويطرزن. ولم يكن يخطن كثيراً لأن معظم الملابس لم تكن بحاجة إلى الخياطة، كما كان الطبخ في العادة من أعمال الرجال. وكن فضلاً عن هذه الأعمال يلدن الأطفال ويربينهم، ويعالجهن ما يصيبهم من أذى، ويسوين ما يقوم بينهم من خصام، ويعلمنهم عادات القبيلة وأخلاقها وتقاليدها الموروثة. ولم تكن عندهم كتب؛ فكانت الأسرة والحالة هذه أحسن نظام يرتضيه الصبيان. وكانت البنات يتعلمن الفنون المنزلية على حين يتعلم الأولاد الصيد والحرب؛ فكان الولد يدرب على صيد السمك وعلى السباحة، وحرث الأرض، ونصب الشراك وترويض الحيوانات، وتصويب السهام والحراب، وأن يعنى بنفسه في كل ما يعترضه من الأحداث في حياته التي لم يكن للقوانين فيها السلطان الكامل على الأهلين. وإذا شب أكبر أبناء الأسرة من الذكور وبلغ سن الرجولة أصبح في غيبة أبيه رب الأسرة المسئول عنها؛ فإذا تزوج جاء بزوجته إلى بيت أبيه. وهكذا تتجدد الأجيال جيلاً بعد جيل، يتغير في خلالها أفراد الأسرة على مر الأيام وتبقى الأسرة محتفظة بكيانها ووحدتها، وقد تظل محتفظة بهما عدة قرون، تضع في بوتقة البيت التي ينصهر فيها الأفراد قواعد النظام والأخلاق التي لا بد منها لقيام الحكومات على اختلاف أنواعها. 











مصادر و المراجع :

١- قصة الحضارة

المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)

تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر

ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين

الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس

عام النشر: 1408 هـ - 1988 م

عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید