ترى كيف كان هؤلاء الآخيون الأشداء السريعو الانفعال يُحكمون؟ لقد كانوا في السلم تحكمهم الأسرة وفي الأزمات تحكمهم العشيرة. والعشيرة جماعة من الناس ينتسبون إلى أصل واحد ويدينون بالطاعة إلى رئيس واحد، وحصن هذا الرئيس هو منشأ المدينة ومركزها، حتى إذا ما أصبح سلطانه سنة متبعة وشريعة معترفاً بها، تجمعت حول هذا الحصن عشيرة بعد عشيرة حتى يتكون من مجموعها مجتمع سياسي من ذوي القربى. وإذا تطلب الرئيس عملاً إجماعياً من عشيرته أو مدينته دعا أحرارها الذكور إلى اجتماع عام وعرض عليهم اقتراحاً قد يقبلونه وقد يرفضونه، ولكن أعظم الأعضاء شأناً هم الذين يستطيعون أن يقترحوا تغييره. ولقد كانت هذه الجمعية القروية العنصر الديمقراطي الوحيد في هذا المجتمع الأرستقراطي الإقطاعي، وكان أعظم أعضائها فائدة للدولة أفصحهم لساناً وأقدرهم على التأثير في عامة الشعب. وإنا لنشهد منذ ذلك الوقت البعيد في الشيخ نسطور الذي "يسيل صوته من لسانه أحلى من الشهد (62) "، وفي أوديسيوس المخاتل الذي تقع كلماته "على الناس وقع هشائش الثلج (63) "، نشهد فيهما بداية ذلك السيل من الفصاحة الذي قُدّر له أن يبلغ في بلاد اليونان مستوى أرفع مما بلغه في أية حضارة أخرى، والذي قضى في آخر الأمر على هذه الحضارة القضاء الأخير.
وإذا تطلب الأمر أن تعمل العشائر مجتمعة فإن رؤساءها يطيعون أوامر أقواهم سلطاناً، ويتخذونه ملكاً عليهم، ويدينون له بالطاعة هم وجيوشهم من الأحرار وأتباعهم من العبيد. وكان أقرب الرؤساء إلى الملك مسكناً، وأكبرهم مقاماً عنده، يسمون "صحابة الملك"، وهذا هو الاسم الذي أطلق عليهم أيضاً في مقدونية أيام فليب وفي معسكر الإسكندر. وكان هؤلاء الأعيان يستمتعون في البول boule أو المجلس بحرية القول ويخاطبونه حين يوجهون له القول على أنه "الأول بين الأنداد". ومن هذه الهيئات المختلفة - الجمعية العامة، ومجلس الأعيان، والملك - نشأت دساتير العالم الغربي الحديث كله على كثرتها واختلاف أنواعها وأسمائها.
وكان للملك سلطان عظيم ولكنه ضيق الحدود. فهو ضيق في الرقعة التي يظلها لأن مملكته صغيرة، وهو ضيق في زمانه لأن الملك معرض لأن يخلعه المجلس أو أن يخلع استناداً إلى حق سرعان ما اعترف به الآخيون وهو حق من عساه أن يكون أقوى من الملك سلطاناً. وفيما عدا هذا فقد كان حكم الملك وراثياً وكانت حدود سلطانه غير واضحة المعالم. وهو قبل كل شيء زعيم عسكري شديد العناية بجيشه لأنه إذا عدمه تبينت للناس أخطاؤه. وهو يحرص على أن يكون هذا الجيش حسن العدة، والطعام، والتدريب، لديه ذخيرة من السهام المسمومة (64)، والحراب، والخوذ، والجراميق، والرماح، والتروس، والدروع، والعربات الحربية. وهو الحكومة بأجمعها طالما كان الجيش يحميه، يجمع في يديه التشريع والتنفيذ والقضاء، وهو كاهن الدين الأكبر الذي يقرب القرابين باسم الشعب، أوامره هي القانون، وأحكامه نهائية لا معقب لها، ولم يكن لفظ القانون قد وجد بعد (65). ومن تحته المجلس الذي يجتمع أحياناً ليفصل في المنازعات الخطيرة؛ وكأنما كان هذا المجلس يضع التقاليد التي تسير عليها جميع المحاكم فيما بعد، فكان يبحث عن السوابق ويحكم على غرارها. وكان للسوابق الغلبة على القانون لأن السابقة مستمدة من العادة، والعادة هي الأخت الكبرى للقانون تنازعه سلطانه. على أن المحاكمات على أنواعها نادرة في المجتمع الهومري، وقلما نسمع فيه عن هيئات عامة للقضاء، بل كان على كل أسرة أن تدفع الأذى عن نفسها وتثأر لنفسها، وكانت أعمال العنف كثيرة تسود المجتمع.
ولم يكن من عادة الملك أن يجني الضرائب ليقيم بها دعائم ملكه، بل كان يتلقى من حين إلى حين "هدايا" من رعاياه؛ ولو أنه كان يعتمد على هذه الهدايا وحدها لكان ملكاً فقيراً بحق؛ أما مورده الأكبر فكان في أغلب الظن مستمداً من الرسوم التي يفرضها على ما ينتزعه جنوده وسفنه من الأسلاب في البر والبحر. ولعل هذا هو السبب الذي من أجله وُجد الآخيون في عصر متأخر كالقرن الثالث عشر قبل الميلاد في مصر وفي كريت. فكانوا في مصر قراصنة غير ناجحين وفي كريت فاتحين عابرين. ثم نسمع عنهم فجأة وهم يستثيرون غضب الشعب بقصة عن السبي المذل، ويجمعون بذلك قوى القبائل جميعها، ويجندون مائة ألف محارب، ويبحرون بأسطول ضخم منقطع النظير مكون من نحو ألف سفينة ليجربوا حظهم ضد حراب آسيا على سهول طروادة وتلها.
مصادر و المراجع :
١- قصة الحضارة
المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)
تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر
ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين
الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس
عام النشر: 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون
تعليقات (0)