المنشورات

حصار طروادة

تُرَى هل حوصرت طروادة بحق؟ لسنا نعلم أكثر من أن كل مؤرخ يوناني وكل شاعر يوناني، وأن كل سجل في معبد يوناني إلا القليل الذي لا يستحق الذكر، وكل قصة يونانية - من أن هذه كلها تسلم بلا جدال بأن طروادة حوصرت؛ وأن علم الآثار قد كشف لنا عن المدينة المخربة مضاعفة عدة مرار؛ وأن القصة وأبطالها لا تزال في هذه الأيام كما كانت في آخر القرن الماضي تعد في جوهرها قصة صحيحة (66). وقد جاء في نقش مصري خلفه رمسيس الثالث أن "الجزائر كانت قلقة مضطربة" حوالي 1196 ق. م (67)، وفي بلني إشارة إلى رمسيس "الذي سقطت طروادة في أيامه" (68). ويرجع إرتشثنيز Eratosthenes العالم الإسكندري العظيم تاريخ هذا الحصار إلى عام 1194 ق. م مستنداً في ذلك إلى الأنساب المتواترة التي نسقها المؤرخ - الجغرافي هِكتِيُوس Hecataeus في أواخر القرن السادس قبل الميلاد.
ويتفق الفرس الأقدمون والفينيقيون مع اليونان في قولهم إن تلك الحرب العظمى قد استعرت نارها لأن أربعة من النساء الحسان قد اختطفن من بلادهن. فالمصريون على حد قولهم اختطفوا أيو Io من أرجوس، واليونان اختطفوا أوربا Europa من فينيقية، وميديا من كلكيز Colchis؛ أليس من الإنصاف والحالة هذه أن يختطف باريسُ (1) هلن؟ (69) ويأبى استسيكورس في سنيه الأخيرة بعد أن تاب وأناب، كما يأبى هيرودوت ويوربديز من بعده، أن يعترفوا بأن هلن قد غادرت بلادها إلى طروادة؛ وكل ما في الأمر أنها ذهبت إلى مصر مكرهة وأقامت فيها اثنتي عشرة سنة حتى جاءها منلوس. ويتساءل هيرودوت قائلاً: هل من الناس من يصدق أن الطرواديين يحاربون عشر سنين من أجل امرأة واحدة؟ ويعزو يوربديز إرسال الحملة إلى ازدياد السكان في بلاد اليونان أكثر مما تتحمله مواردها، واضطرار أهلها بسبب هذه الزيادة إلى الهجرة والتوسع (70). ألا ما أقدم الأسباب الحديثة التي تبرر بها الرغبة في القوة والسلطان.
على أنه لا يبعد أن تكون قصة شبيهة بهذه القصة قد استعين بها على جعل هذه المغامرة مستساغة لدى اليوناني العادي، وذلك بأن الناس في حاجة إلى الألفاظ الطنانة إذا أريد منهم أن يضحوا بحياتهم. ومهما تكن أسباب الحرب الظاهرة، فإن الذي لا شك فيه أن حقيقة أمرها وجوهرها لم تكن إلا نزاعاً بين طائفتين تتنازعان السيطرة على مضيق الهسبنت والأراضي الغنية المحيطة بالبحر الأسود، وكانت بلاد اليونان بأجمعها وغرب آسيا على بكرة أبيها ترى أنها نزاع حاسم؛ واحتشدت أمم اليونان الصغيرة لمساعدة أجممنون، كما أرسلت شعوب آسيا الصغرى العون بعد العون لطروادة. وكانت الحرب في حقيقة أمرها بداية الكفاح الذي تجدد في مراثون وسلاميس، وعند إسوس وأربيلا، وعند تور وغرناطة، وعند ليبنتو وفينا ....
وليس في وسعنا أن نذكر من أحداث الحرب وما بعدها غير ما يقصه علينا الشعراء اليونان ومؤلفو المسرحيات منهم، ونحن نقبل ما يقولون على أنه أدب أكثر مما هو تاريخ، وهذا في حد ذاته مبرر قوي لاعتباره جزءاً من قصة الحضارة. فنحن نعلم أن الحرب بشعة وأن الإلياذة جميلة، وأن الفن (إذا عكسنا قول أرسطاطاليس) قد يجعل الرعب - ويطهره تبعاً لذلك- بما يخلعه عليه من معنى وشكل ظريف. ولسنا نقصد بقولنا هذا أن الإلياذة قد وصلت إلى حد الكمال في شكلها، إذ الحقيقة أن تركيبها مهلهل غير رصين، وأن القصص فيها متناقض تارة وغامض تارة أخرى، وأن خاتمتها ليست خاتمة بالمعنى الصحيح. غير أن كمال كل جزء على حدته يعوض ما في مجموعها الكلي من اضطراب، والقصة رغم عيوبها الصغرى لا تقل في مستواها عن مسرحيات التاريخ العظمى، ولعلها لا تقل عن مستوى التاريخ نفسه.
(1) %=@تشير الأعداد المحصورة بين قوسين إلى كتب الإلياذة. @ نرى اليونان في مستهل القصيدة وقد قضوا في حصار طروادة تسع سنين دون أن يظفروا بها: وقد غلبهم اليأس والحنين إلى الوطن، وفتك بهم المرض. وقد وقفوا طويلاً عند أوليس Oulis لأن المرض وسكون الريح في البحر قد حالا بينهم وبين مواصلة السير، وأثار أجممنون غضب كلتمنسترا، وهيأ السبيل لسوء مصيره بأن ضحى بابنتهما إفجينيا لكي تهب الريح. وكان اليونان قد وقفوا في أماكن متفرقة في طريقهم ليأخذوا حاجتهم من الطعام والسراري، فأخذ أجممنون الحسناء كريسيس Chryseis وأخذ أكليز بريسيس البارعة الجمال؛ ثم يقول عراف إن أبلو يمنع النصر عن اليونان لأن أجممنون قد اعتدى على عفاف ابنة كاهنه كريسز Chryses. فيرد أجممنون كريسيس لأبيها ولكنه يواسي نفسه ويخلق في القصة موقفاً مثيراً بأن يرغم بريسيس على أن تفارق أكليز وتحل محل كريسيس في الخيمة الملكية. ويدعو أكليز الجمعية العامة إلى الانعقاد، ويشكو إليها أجممنون وهو غاضب ثائر، وينطبق بأول كلمة في الإلياذة ويثير الموضوع الذي يتردد فيها مراراً وتكراراً، ويقسم أنه لن يمد هو أو جنوده يداً لمساعدة اليونان. (2) ثم ننتقل بعدئذ إلى استعراض سفن الجيوش المتجمعة وقبائلهم، ثم (3) نشاهد منلوس المتعجرف يبارز باريس مبارزة يراد بها وضع حد للقتال؛ ويتهادن الجيشان مهادنة المتحفزين، ويشترك بريام مع أجممنون في تقديم القربان إلى الآلهة. ويظفر منلوس بباريس ولكن أفرديتي تنقذه وتختطفه في سحابة ثم تلقيه على فراش زوجته بعد أن تعطره وتمسحه بالمساحيق الربانية. وتأمره هلن أن يعود إلى القتال ولكنه يعرض عليها بدلا من هذا أن "يصرفا الوقت في الفراش". وتتغلب على هلن شهوتها فتجيبه إلى طلبه (4)، ويعلن أجممنون انتصار منلوس، ويلوح أن الحرب قد وضعت أوزارها، ولكن الآلهة تعقد مجلساً على جبل أولمبس للتشاور في الأمر كما يتشاور البشر، وتقرر أنها في حاجة إلى أن يسفك فوق ما سفك من الدماء. ويقترع زيوس لمصلحة السلم ولكنه يسحب صوته وينقلب مرتاعاً حين توجه زوجته هيرا خطابها إليه، وتقترح أن تسمح لزيوس بأن يدّك ميسيني وأرجوس وإسبارطة دكاً إذا وافق على تدمير طروادة. ويبدأ القتال من جديد ويهلك عدد كثير من الرجال تمزق أجسامهم السهام أو الحراب أو السيوف "ويخيم الظلام على أعينهم".
(5) وتشترك الآلهة في هذه اللعبة المرحة لعبة التقتيل والتقطيع، فتنفذ حربة ديوميد في جسم أريس إله الحرب الرهيب، ويصيح صيحة كأنها صادرة من تسعة آلاف رجل"، ويسرع إلى زيوس ليبثه شكواه.
(6) وتعقب ذلك فترة يودع فيها هكتر البطل الطروادي زوجته أندرمكا وداعاً حاراً قبل عودته إلى القتال. وتخاطبه بصوت رقيق قائلة: "حبيبي، إن بسالتك ستؤدي إلى هلاكك؛ إنك لا ترحم طفلك ولا ترحمني، أنا التي سأكون عما قريب أرملة، لقد قتل أبي وأمي وإخوتي جميعاً، ولكنك أنت يا هكتر أبي وأمي، وأنت زوج شبابي، فأشفق عليَّ إذن وأقم هنا في البرج". فيرد عليها بقوله: "إني أعلم حق العلم أن مآل طروادة هو السقوط، وأرى بعين الخيال أحزان إخواني وأحزان الملك؛ غير أني لا أحزن من أجلهم؛ أما الذي يكاد يزلزل كياني فهو أن أراك أسيرة رقيقة في أرجوس؛ ولكني مع هذا لن أحجم عن القتال (71) " ويصرخ ابنه الطفل أستياناكس Astyanax، الذي قدر له أن يلقيه اليونان المنتصرون من فوق أسوار المدينة بعد قليل فيسقط على الأرض جثة هامدة، يصرخ مرتاعاً حين يبصر الريش يتماوج في خوذة أبيه. فيرفع البطل خوذته حتى يستطيع أن يضحك، ويبكي ويصلي للطفل الحائر المندهش. ثم يتخذ طريقه إلى المعركة. (7) ويبارز أجاكس Ajax ملك سلاميس. ويستميت البطلان في القتال ثم يفترقان في المساء بعد أن يتبادلا الثناء والهدايا. يالها من زهرة مجاملة تسبح في بحر من الدماء. (8) وبعد أن يقضي الطرواديون يوماً كاملاً ينتقلون فيه من نصر إلى نصر يأمر هكتر المحاربين بالكف عن القتال ليستريحوا.
هكذا خطب فيهم هكتر؛ وحياه الطرواديون بأعلى أصواتهم وصفقوا له بأكفهم. ثم رفعوا النير عن جيادهم الحربية والعرق يتصبب من أجسامها وعقل كل منهم جواديه بالسيور بجوار عربته، وجاء من المدينة بالثيران والضأن السمين؛ وقدم هكتر لهم النبيذ وهو يخاطبهم بأعذب الألفاظ وأرقها .... وجاءهم بالحب من البيوت، وجمع الرجال وقود النار، وحمل الهواء الرائحة الذكية من السهل إلى السماء، وسهر من كانوا على جانبي الميدان الليل الطويل يملأ الأمل صدورهم، وأوقدوا نار المراقبة، وعلا لهب النيران الكثيرة التي أوقدها الطرواديون مروضو الخيول بجوار إلْيوم بين السفن السود ونهر زنثوس Thanathus، وتلألأت تلألؤ النجوم حول آية الليل، فكان منظراً من أعجب المناظر، وسكنت الريح، ولاحت قمم الجبال والرؤوس، وظهرت الخلوات التي بين الجبال، وبدت السماء الواسعة ذات الجلال، وتلألأت نجومها التي يخطئها الحصر على قلب الراعي الذي أضناه النصب. وفي هذه الأثناء كانت خيل القتال المتعبة تلوك القمح والشعير الأبيض بالقرب من مركباتها تنتظر مقدم الفجر فوق عرشه الجميل (74).
(9) ويشير نسطور ملك ببلوس الإيلية على أجممنون أن يرد بريسيس إلى أكليز، ويجيبه أجممنون إلى طلبه، ويعد أكليز بأن يعطيه نصف بلاد اليونان إذا انضم مرة أخرى إلى المحاصرين، ولكن أكليز يظل غاضباً. (10) ويفاجئ أديسيوس وديوميد معسكر الطرواديين بهجمة في أثناء الليل يقتلان فيها اثني عشر من رؤساء العشائر. (11) ويقود أجممنون جنده ويستبسل في القتال ويُجرح ثم ينسحب من الميدان. (12) ويلتف الأعداء حول أوديسيوس فيقاتلهم قتال الأسود، ويشق له أجاكس ومنلوس الطريق وينجيانه ليقاسي فيما بعد حياة مريرة (12 - 13) ويتقدم الطرواديون إلى الأسوار التي أقامها اليونان حول معسكرهم. (14) فتنزعج هيرا وتصمم على إنقاذ اليونان، فتدهن بالزيت وتتعطر وتلبس أفخر الثياب، وتتمنطق بمنطقة أفرديتي المقوية؛ وتغوي زيوس فيضاجعها، ويعمد بوسيدن في هذه الأثناء إلى مساعدة اليونان علىطرد الطرواديين (15). وتظل الحرب سجالاً فيصل الطرواديون إلى سفن اليونان، وهنا تصل حماسة الشاعر ذروتها وهو يقص علينا كيف كان اليونان يحاربون مستيئسين وهم يتراجعون تراجعاً سيؤدي بهم إلى الهلاك.
(16) ويقنع بتركلوس حبيب أكليز هذا البطل فيسمح له بأن يقود جنوده لمحاربة طروادة، ويقتله هكتر بيده. (17) ويحارب أجاكس حرباً شديدة فوق جثة الشاب القتيل. (18) ويسمع أكليز بموت بتركلوس فيصمم آخر الأمر على القتال، وتقنع أمه الإلهة ثيتيس الحداد الإلهي هفستوس Hephaestus بأن يصنع له أسلحة جديدة ودرعاً سابغة ضخمة. (19) ويتصالح أكليز مع أجممنون، (20) ويقاتل إينياس ويوشك أن يقتله لولا أن بوسيدن ينقذه ليتخذ منه فرجيل موضوعاً لشعره. (21) ويقتل أكليز عدداً كبيراً من الطرواديين ويقذف بهم إلى الجحيم مودعين بخطب يتحدث فيها عن نسبهم. وتواصل الآلهة القتال: فتقذف أثينة أريس بحجر يطرحه أرضاً وتحاول أفرديتي وهي في زي جندي أن تنقذه، فتضربها أثينة ضربة على صدرها الجميل تلقيها على الأرض. وتصفع هيرا أرتميس على أذنيها، أما بوسيدين وأبلو فيكتفيان بحرب الألفاظ. (22) ويوليّ الطرواديون الأدبار من أكليز عدا هكتر وحده؛ ويشير بريام وهكيبا على هكتر أن يبقى وراء أسوار المدينة ولكنه يرفض مشورتهما، حتى إذا تقدم أكليز نحوه ولي الأدبار فجأة؛ ويطارده أكليز حول أسوار طروادة ويطوف بها ثلاث مرات؛ ثم يقف هكتر ليلاقي عدوه فيخر صريعاً.
(23) وفي ختام هذه المسرحية تحرق جثة بتركلوس بالمراسم الفخمة؛ ويضحي أكليز من أجله بعدد كبير من الماشية، وباثني عشر من أسرى الطرواديين وبشعره هو الطويل. ويقيم اليونان الألعاب تكريماً له و (24) يجر أكليز جثة هكتر خلف مركبته ثلاث مرات حول كومة الحريق. ويقبل بريام بموكبه وحزنه يرجو أن يسمح له بجثة ولده، ويرق قلب أكليز له، ويرضى بعقد هدنة تدوم اثنى عشر يوماً، ويسمح للملك الشيخ بأن يأخذ جثة ولده بعد تطهيرها ودهنها بالزيت، ويعود بها إلى طروادة. 










مصادر و المراجع :

١- قصة الحضارة

المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)

تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر

ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين

الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس

عام النشر: 1408 هـ - 1988 م

عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید