المنشورات

العودة إلى الوطن

وهنا تختتم القصيدة العظيمة خاتمة فجائية، كأن الشاعر قد قام بنصيبه من القصة العامة ورأى من واجبه أن يترك ما بقي منها ينشده شاعر غيره. وتقص الآداب بعدئذ كيف رمي باريس أكليز وهو واقف إلى جانب المعركة بسهم اخترق مؤخرة قدمه، وهو الجزء الوحيد من جسمه الذي تؤثر فيها السهام، فأرداه قتيلاً، وكيف سقطت طروادة آخر الأمر نتيجة لخدعة الحصان الخشبي.
وكان النصر الذي أحرزه المنتصرون سبباً في هزيمتهم، فعادوا منهمكين محزونين إلى أوطانهم بعد حنين إليها طويل. وتحطمت كثير من السفن التي أقلتهم، وارتطم بعضها بشواطئ البلاد الأجنبية وأنشأ من فيها مستعمرات يونانية في آسيا وجزائر بحر إيجة وإيطاليا (73). ولما أقبلت هلن "الإلهة بين النساء" على منلوس بجلال جمالها الهادئ عاد حبها إلى قلبه، وكان قد أقسم أن يقتلها حين يظفر بها، وسره أن يعود بها إلى إسبارطة لتكون ملكته فيها. ولما عاد أجممنون إلى ميسيني "عانق أرض بلاده وقبلها وذرفت عينه الدمع السخين" (74)، ولكن كلتمنسترا تزوجت في غيبته ابن عمه إجيسثس وأجلسته على العرش، فلما أن دخل أجممنون القصر قتلاه.
وأدعى إلى الأسى من هذا عودة أديسيوس، وأكبر ظننا أن شاعراً آخر غير هومر قد قص قصته في ملحمة أقل قوة وبطولة من الإلياذة (1)، ولكنها أسلس منها وأرق وأجمل، وتقول الأديسة إن أديسيوس تحطمت سفينته على ساحل جزيرة أجيجيا Ogygia، وهي جزيرة مسحورة شبيهة بجزيرة تهيتي Tahiti، تحكمها ملكة إلهة تدعى كلبسو Calypso، شغفها حباً فاستبقته عندها ثماني سنين يحن فيها أشد الحنين إلى زوجته بلني وابنه تلمكس اللذين ينتظرانه في أتكا على أحر من الجمر.
وتقنع أثينة زيوس بأن يأمر كلبسو بإطلاق سراح أديسيوس، وتطير الإلهة إلى تلمكس وتستمع إلى قصته الساذجة وتعطف عليه، فتعرف كيف أقبل أمراء أتكا والجزائر الخاضعة لها على بنلبي يتوددون لها ويسعون إلى زواجها ليظفروا بعد ذلك الزواج بعرش أتكا، وكيف يعيشون في قصف ومرح في قصر أديسيوس ويستمتعون بخيراته (2) ويأمر تلمكس الخُطَّاب بأن يعودوا إلى ديارهم، ولكنهم يسخرون من شبابه، فيخرج سراً على ظهر سفينة يبحث عن أبيه؛ وتحزن بنلبي لبعد زوجها وابنها، وتستمهل خاطبيها بأن تعدهم أنها ستتزوج واحداً منهم بعد أن تتم نسيج غزلها، ولكنها تنقض منه في الليل ما تعمله بالنهار (3) ويزور تلمكس نسطور في بيلس و (4) منلوس في إسبارطة ولكن أحداً منهما لا يستطيع أن يدله على مكان أبيه. ويرسم الشاعر صورة جذابة لهلن وقد استقرت في بيتها خاضعة، ولكنها لا تزال تستمتع بجمالها الرباني، وقد غفر لها زوجها خطاياها من زمن بعيد، وتقول إنها حين سقطت طروادة كانت قد سئمت المقام في المدينة (1). 

(5) وهنا يدخل أديسيوس القصة لأول مرة. فقد كان "يجلس على ساحل جزيرة كلبسو"، وقد جف الدمع من عينيه وغاض ماء حياته الحلوة من شدة حزنه وحنينه إلى وطنه. نعم إنه كان يقضي ليله في الكهوف الجوفاء مضطجعاً على الرغم منه بجوار كلبسو، ينام وهو كاره بجوار الحورية المشتاقة، ولكنه كان يقضي النهار جالساً على الصخور والرمال، يبكي ويتوجع وينظر إلى البحر المضطرب" (78) وتستبقيه كلبسو ليلة أخرى تأمره بعدها أن يصنع رمثاً ويبحر فيه منفرداً.
(6) ويكافح أديسيوس البحر كفاحاً طويلاً ثم ينزل في أرض فيشيا الخرافية (ولعلها كرسيرا - كورفو Corcyra-Corfu) حيث تعثر عليه العذراء نوسكا Nausica وتأخذه إلى قصر أبيها الملك ألسنوس، وتعشق الفتاة البطل الجريء المفتول العضلات، وتفضي بسرها إلى أترابها فتقول لهن: "استمعن إليَّ أيتها العذارى ذوات الأذرع الجميلة البيضاء .... لقد كان هذا الرجل يبدو لي منذ قليل غير وسيم، أما الآن فهو في نظري كالآلهة التي تستقر في السماء الواسعة. ألا ليت رجلاً كهذا يصبح لي زوجاً، يقيم هنا، ألا ليته يرضي أن يقيم هنا معي" (79). (7 - 8) ويعجب ألسنوس بأديسيوس أشد الإعجاب فيعرض عليه أن يزوجه نوسكا، ويعتذر أديسيوس ولكنه يسره أن يقص عليه قصة عودته من طروادة.
(11) فيقول للملك: إن سفنه قد دفعتها الرياح عن طريقها إلى أرض أكلة (اللوطس)، وإن هؤلاء قدموا لرجاله فاكهة اللوطس الحلوة فنسي الكثيرون منهم أوطانهم وحنينهم إليها، حتى لم يجد أديسيوس بداً من أن يرغمهم على العودة إلى سفنهم. وساروا من هنا إلى أرض السيكلوبين الجبابرة العور، الذين لا يقومون بعمل ولا يخضعون لقانون، ويعيشون في جزيرة تكثر فيها الحبوب والفاكهة البرية. ووقعوا في كهف السيكلوب بليفيمس Polyphemus فأكل عدداً منهم، وأنقذ أديسيوس من بقي بأن أنام الوحش الجبار بعد أن أسكره، ثم حرق بالنار عينه الوحيدة. (10) ثم ركب الجوالون البحر مرة أخرى وأوغلوا فيه حتى وصلوا إلى أرض اللستريجونيين Laestrygonians، وكان هؤلاء أيضاً من أكلة اللحوم البشرية فلم تنج منهم إلا سفينة أديسيوس. ووصل هو ومن كان معه في السفينة إلى جزيرة إينيا Aenea حيث أغوت سرس Circe الإلهة الجميلة الغدارة معظم رفاقه بغنائها الجميل فدخلوا كهفها، ثم خدرتهم ومسختهم فصاروا خنازير. وأوشك أديسيوس أن يذبحها، ولكنه غير رأيه ورضي بحبها، ثم عاد هو ورفاقه إلى صورتهم البشرية وأقاموا مع سرس سنة كاملة. (11) أبحروا بعدها مرة أخرى ووصلوا إلى أرض يغشاها الظلام السرمدي تبين لهم أنها مدخل الجحيم (هيدس Hades) ، وفيها تحدث أديسيوس إلى أطياف أجممنون وأكليز ووالدته. (12) ثم واصلوا سيرهم ومروا بجزيرة السيرينات Sirens، وهناك أنجى أديسيوس رجاله من أغانيهن المغوية بأن وضع شمعاً في آذانهم. ثم تحطمت سفينته في مضيق سلا Scylla وكربديس Charybdis ( مسينا؟) ولم ينج ممن كانوا فيها إلا هو وحده، وقد نجا ليعيش تسع سنين أخرى في جزيرة كلبسو.
(13) ويتأثر ألسنوس بقصة أديسيوس وتدفعه شفقته عليه فيأمر رجاله أن ينقلوه بحراً إلى أتكا، على أن يعصبوا عينيه لئلا يعرف مكان أرضهم الهنيئة ويدل الناس عليها. وفي أتكا تقود الإلهة أثينة السائح الجوال إلى كوخ يوميوس Eumaeus راعي خنازيره. (14) ويستقبله الراعي ويكرمه إكراماً حاتمياً، وإن كان لا يعرفه. (15) وتقود أثينة تلمكس إلى هذا الكوخ نفسه (16) ويكشف أديسيوس عن نفسه لولده. (17) ويبكيان كلاهما "وينتحبان بحرقة وبأعلى صوتيهما"، ويفضي الوالد لولده بخدعة يقتل بها جميع الذين تقدموا لخطبة زوجته. 

(17 - 18) ويدخل القصر في زي متسول، ويرى الخاطبين يأكلون ويتمتعون بماله، وتغلي مراجل الغضب في صدره حين يعلم أنهم يضاجعون خادماته بالليل وإن كانوا يغازلون بنلبي بالنهار. (19 - 20) ويحتقره الخاطبون ويهينونه ولكنه يرد أذاهم بقوته وصبره. (21) وكان الخاطبون وقتئذ قد كشفوا حيلة النسيج التي خدعتهم بها بنلبي، وأرغموها على أن تفرغ منه، وتوافق على أن تتزوج من يستطيع منهم أن يشد وتر قوس أديسيوس المعلق على أحد جدران القصر، ويرمي منه بسهم يمر من فتحات اثنتي عشرة بلطة مصفوفة في صف واحد. ويحاولون جميعاً أن يفعلوا هذا ولكنهم لا يفلحون، ويطلب أديسيوس أن تتاح له الفرصة ليجرب حظه ويفلح فيما أخفقوا فيه. (22) ثم يلقي عن نفسه القناع ويكشف عن حقيقة أمره وهو غضبان آسف، ويصوب سهامه إلى صدور الخاطفين ويقتلهم جميعاً بمعونة تلمكس، ويوميس، وأثينة. (23) ويلقي صعوبة شديدة في إقناع بنلبي أنه هو أديسيوس، ذلك أن من أصعب الأمور أن تتخلى امرأة عن عشرين خاطباً من أجل زوج واحد. (24) ويواجه هجمات أبناء الخاطبين، ويستل سخائم صدورهم ويستعيد ملكه.
وفي هذه الأثناء كانت أشد المآسي في القصص اليوناني تجري في مجراها. ذلك أن أرستيز Arestes بن أجممنون كان وقتئذ قد بلغ رشده، وأثارت أخته إلكترا ثائرته فأخذ بثأر أبيهما وقتلا أمهما وعشيقها. وقضي أرستيز بعدئذ سنين كثيرة يضرب في الأرض وهو ذاهب العقل حتى جلس آخر الأمر على عرش أرجوس - ميسيني (حوالي عام 1167 ق. م)، وضم بعدئذ إسبارطة إلى ملكه (1). ولكن بيت بلوبس Pelops أخذ بعد اعتلائه العرش في الاضمحلال، ولعل هذا الاضمحلال قد بدأ من أيام أجممنون نفسه، وكان هذا الزعيم قد اتخذ الحرب وسيلة لضم شتات ملك كان وقتئذ ينفرط عقده. غير أن انتصاره كان الضربة القاضية عليه لأن من كان معه من الزعماء لم يعد منهم إلا القليل، وشقت كثير من الممالك عصا الطاعة وخرجت على كثيرين ممن لم يصحبوه من الزعماء. ولم يكد ينتهي العهد الذي بدأ بحصار طروادة حتى كانت قوة الآخيين قد أنهكت ونضب معين الحياة من جسم أبناء بلوبس، وأخذ الشعب يترقب في صبر وأناة ظهور أسرة جديدة. 












مصادر و المراجع :

١- قصة الحضارة

المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)

تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر

ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين

الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس

عام النشر: 1408 هـ - 1988 م

عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید