لننظر إلى خريطة للعالم القديم ونطّلع فيها على جيران بلاد اليونان القديمة، ونعني ببلاد اليونان أو هلاس جميع البلاد التي كان يسكنها في الزمن القديم شعوب تتكلم اللغة اليونانية.
ولنبدأ بالنظر إلى الأصقاع التي دخل منها إلى تلك البلاد كثير من الغزاة - فوق تلال إبيروس وعلى طول وديانها. وما من شك في أن أسلاف اليونان قد أقاموا في تلك الأماكن كثيراً من السنين، لأنهم أنشأوا في ددونا dodona مزاراً لزيوس إله السماء المرعد. ولقد ظل اليونان حتى القرن الخامس يتلقون الوحي في هذا المكان ويقرأون ما تريده الآلهة في غليان المراجل أو حفيف أوراق البلوطة المقدسة (1). ويخترق نهر أكرون الجزء الجنوبي من إبيروس وسط أخاديد بلغت من الظلمة والعمق درجة جعلت شعراء اليونان يصفونها بأنها مدخل الجحيم أو أنها هي الجحيم نفسها. وكان معظم أهل إبيروس في أيام هومر يتكلمون اللغة اليونانية ويتبعون الأساليب اليونانية، ثم طغت عليهم موجات جديدة من الهمج أهل الشمال وحالت بينهم وبين المدينة.
وإلى شمال إبيروس على ساحل البحر الأدرياوي تقع إليريا Illyria، وكانت في الوقت الذي نتحدث عنه بلاداً قليلة السكان أهلها من الرعاة يبيعون الماشية والعبيد بملح الطعام (2). وعلى هذا الساحل عند إبدمنوس Epidamnus ( وهي ديركيوم Dyrrachium الرومانية ودرزو الحالية) أنزل قيصر جنوده وهو يطارد بمبي. وعلى الجانب الآخر من البحر الأدرياوي اغتصب اليونان السواحل الجنوبية من القبائل المستوطنة هناك، وأدخلوا الحضارة في إيطاليا، (وقد عادت تلك القبائل في آخر الأمر فاكتسحتهم، وابتلعت معهم بلادهم الأصلية وضمت بلادهم إلى إمبراطورية لم يسبق لها مثيل في تاريخ العالم). وكان من وراء جبال الألب الغاليون، الذي أخلصوا الود فيما بعد لمساليا (مرسيليا)؛ وفي الطرف الغربي من البحر الأبيض تقع أسبانيا، وكانت قد تمدنت إلى حد ما على يد الفينيقيين والقرطاجيين حين أنشأ اليونان في عام 550 مستعمرتهم الوجلة في إمبريوم (أمبورياس Ampurias) . وكانت قرطاجنة الإمبراطورية تقع على ساحل إفريقية أمام صقلية تتسلط عليها وتهددها، وقد اختط هذه المدينة ديدو Dido والفينيقيون، وتقول الرواية إن ذلك كان في عام 813. ولم تكن وقت إنشائها قرية صغيرة بل كانت مدينة عامرة يبلغ سكانها 700. 000 نسمة، تحتكر تجارة البحر الأبيض المتوسط الغربي وتسيطر على يتكا، وهبو Hippo وثلاثمائة بلدة أخرى في إفريقية، ومناجم غنية، ومستعمرات في صقلية، وسردينية، وأسبانيا. وقد قدر لهذه الحاضرة ذات الثروة الطائلة أن تقود الكفاح ضد اليونان من ناحية الغرب، كما قدر لبلاد الفرس أن تقوده من ناحية الشرق.
وإلى شرق هذه المدينة على ساحل إفريقية كانت تقع مدينة قورينة اليونانية، وفي مؤخرتها بلاد اللوبيين المجهولة، وإلى شرقها مصر. وكان معظم اليونان يعتقدون أن عناصر كثيرة من حضارتهم قد جاءتهم من مصر. وتعزو قصصهم نشأة كثير من المدن اليونانية إلى رجال من أمثال كدموس Cadmus ودانوس Danaus جاءوا من مصر أو نقلوا الحضارة المصرية إلى بلاد اليونان عن طريق فينيقية وكريت (3). وقد انتعشت التجارة المصرية وبعث الفن المصري من جديد في عهد الملوك الساويين (663 - 525)، وفتحت الثغور الواقعة على نهر النيل لتستقبل التجارة اليونانية لأول مرة في التاريخ. وزار مصر كثيرون من عظماء اليونان المشهورين - أمثال طاليس، وفيثاغورس، وصولون، وأفلاطون، ودمقريطس، فأعجبوا أشد إعجاب بعظم حضارتها وقدمها؛ ولم يجدوا فيها برابرة همجاً كالذين كانوا يجدونهم في الأقطار الأخرى، بل وجدوا فيها أقواماً كانت لهم حضارة ناضجة، وفنون راقية، قبل سقوط طروادة بألفي عام. وكان مما قاله أحد الكهنة المصريين لصولون: "إنكم أيها اليونان لا تزالون أطفالاً، ثرثارين، مغرورين لا تعرفون شيئاً عن الماضي. ولما أخذ هكتيوس الميليتي يزدهي على الكهنة المصريين ويقول لهم إن في وسعه أن يذكر لهم سلسلة نسبه التي تنتهي بعد خمسة عشر جيلاً إلى أحد الآلهة، أطلعوه في هياكلهم على 345 تمثالاً لكبار الكهنة كل منهم ابن الذي قبله ويتكون من مجموعهم 345 جيلاً تبدأ من العهد الذي كان فيه الآلهة يحكمون الأرض (5). وكان علماء اليونان أمثال هيرودوت وبلوتارخ يرون أن العقيدة الأرفية القائلة بأن الخلق يحاسبون بعد موتهم على ما قدموا من خير وشر في حياتهم، وأن الاحتفالات التي كانت تقام لبعث دمترو وبرسفوني في إليوسيس، مأخوذة كلها عن عبادة إيزيس وأوزريس المصريين. وأكبر الظن أن طاليس الميليتي تعلم الهندسة النظرية في مصر، وأن روكوس Rhoecus وثيودورس الساموسيين قد عرفا فيها فن صب الآنية المجوفة البرونزية، وفي مصر ازداد مهارة في صناعة الفخار والنسيج وطرق المعادن والحفر على العاج (7). وعن المصريين والآشوريين والفينيقيين والحثيين أخذ المثالون اليونان طراز تماثيلهم الأولى - وجوهها المستوية، وعيونها المائلة، وأيديها المقبوضة، وأطرافها المعتدلة المتصلبة (1). وقد وجد مهندسو اليونان بعض إلهامهم الفني، الذي أوحى إليهم بالعمد المحززة وبالطراز الدوري، في عمد سقارة، وبني حسن، كما وجدوا بعضه الآخر في بقايا ميسيني اليونانية (8). وكما أن بلاد اليونان قد تعلمت في شبابها من مصر واعترفت لها بالفضل، فإنها حين خارت قواها ماتت في أحضان مصر إذا جاز هذا التعبير، فقد مزجت في الإسكندرية فلسفتها، وطقوسها الدينية، وآلهتها بنظائرها في مصر وبلاد اليهود حتى تبعث وتحيا حياة جديدة في رومة وفي المسيحية.
وكان أثر فينيقية في اليونان لا يزيد عليه إلا أثر مصر نفسها. فقد كان تجار صور وصيدا المغامرون وسيلة طوافة لنقل الثقافة، ونشروا في جميع أقاليم البحر الأبيض المتوسط علوم مصر والشرق الأدنى، وصناعاتهما، وفنونهما، وطقوسهما الدينية. ولقد بز الفينيقيون اليونان في صنع السفن ولعل اليونان قد أخذوا هذه الصناعة عنهم؛ وعلموهم كذلك أساليب في طرق المعادن، والنسيج والصباغة خيراً من أساليبهم (9)، وقد اشتركوا مع كريت وآسية الصغرى في نقل الصورة السامية للحروف الهجائية إلى بلاد اليونان بعد نمائها وتطورها في مصر واليونان وسوريا. وأخذت بلاد اليونان عن بابل نظام موازينها ومكاييلها (10)، وساعتها المائية ومزولتها (11)، ووحدات العملة المتداولة فيها، وهي الأبول Obol، والمينا Mina، والتالنت (الوزنة) (12)، وقواعد علم الفلك، وآلاته، وسجلاته، وحسابه، ونظامها الستيني الذي يقضي بتقسيم السنة والدائرة والزوايا الأربع القائمة التي تتقابل في مركزها إلى 360 جزءاً، وتقسيم كل درجة إلى 60 دقيقة وكل دقيقة من هذه الستين إلى 60 ثانية؛ ولعل معرفة طاليس بعلم الفلك عند المصريين والبابليين هي التي أمكنته أن يتنبأ بكسوف الشمس (13)، ولعل هزيود قد أخذ عن بابل فكرته القائلة إن الفوضى والعماء أصل الأشياء جميعها؛ وإن قصة إشتار وتموز لتشبه قصتي أفرديتي وأدنيس ودمتر وبرسفوني شبهاً يدعو إلى الظن بأن الأولى هي الأصل الذي أخذت عنه القصتان الأخريان.
وكان بالقرب من الطرف الشرقي للمحيط التجاري الذي يضم أجزاء العالم القديم كله آخر أعداء اليونان ونعني بهم الفرس. ولقد كانت حضارة بلادهم من بعض نواحيها - وإن كانت نواحي قليلة - أرقى من حضارة بلاد اليونان المعاصرة لها. فلقد أخرجت إلى العالم طرازاً من الرجل المهذب أرق وأظرف من الرجل اليوناني في كل ناحية من النواحي عدا حدة الذهن والتعليم، كما أنشأت نظاماً للإدارة الإمبراطورية يفوق بلا جدال ذلك النظام الذي كانت تتزعمه أثينة وإسبارطة، ولم يكن ينقصه إلا حرص اليونان على الحرية. ولقد أخذ اليونان الأيونيون عن أشور قدراً من المهارة في صنع تماثيل الحيوان، كما أخذوا عنهم في صناعة النحت المبكرة ميلهم إلى ضخامة التماثيل واستواء ما عليها من الملبس، وأساليب الزينة الطنف والقوالب، وفي طراز النقش البارز في بعض الأحيان، كما نشاهد ذلك في لوحة أرستيون الجميلة (14). وكانت لليديا علاقات وثيقة بأيونيا، وكانت سرديس عاصمتها الزاهرة بمثابة البيت التجاري الذي تصفى به المتاجر والأفكار المتبادلة بين بلاد النهرين والمدن اليونانية المنتشرة على الساحل. وقد اقتضت الأعمال التجارية الواسعة قيام المصارف، واضطرت الحكومة الليدية إلى إصدار عملة مضمونة من الدولة في عام 680. وسرعان ما حاكى اليونان هذا العمل الجليل ذا الفائدة العظمى للتجارة، وأدخلوا عليه ضروب الإصلاح والتحسين، وكان له من الآثار التي لا تقل في خطرها وسعتها من استخدام الحروف الهجائية. وكان أثر فريجيا في بلاد اليونان أقدم من هذه الآثار السابقة وأدل على حذق الفريجيين. فقد دخلت سيبيلي أمها الإلهة من أول الأمر إلى دين اليونان، وأضحت موسيقى الناي وما يصحبها من تهتك هي "الطراز الفريجي" الشائع بين عامة الشعب، والذي أقلق بال رجال الأخلاق اليونان. وعبر هذه الموسيقى العنيفة مضيق الهلسبنت من فريجيا إلى تراقية، واستخدمت في طقوس ديونيسس. وكان إله الخمر أهم ما أهدته تراقية إلى بلاد اليونان، ولكن مدينة تراقية هي أبدرا المتأغرقة أرادت ان تعوض بلاد اليونان عما أصابها بهذه الهدية فأهدت إليها ثلاثة من فلاسفتها هم ليوسبس Luecippus ودمقريطس Democritus، وبروتجراس Protagoras. وتراقية هي التي انتقلت منها طقوس ربات الشعر إلى بلاد اليونان، ولقد كان واضعو فن الموسيقى اليونانية نصف الخرافيين - أرفيوس، وموسايوس Mausaeus وثاميرس Thamyris- مغنين وشعراء تراقيين.
وننتقل بعدئذ من تراقية نحو الجنوب إلى مقدونية، وبذلك نكون قد أتممنا دراسة كل ما يحيط ببلاد اليونان من حضارات. ومقدونية بلاد جميلة المناظر الطبيعية، كانت أرضها في الزمن القديم غنية بالمعادن، وسهولها الخصبة تنتج الفاكهة والحب، وجبالها تنشئ أقواماً صلاباً قدر لهم فيما بعد أن يفتحوا بلاد اليونان، وكان سكان الجبال والفلاحون من أهلها من عناصر مختلفة، أهمها الإليريون والتراقيون، وربما كانت لهم صلات في الدم بالدوريين الذي فتحوا البلوبونيز. وكان حكامها الأشراف يدعون أنهم من نسل اليونان (ومن أبناء هرقل نفسه)، وكانوا يتكلمون لهجة يونانية. وكانت عاصمتهم الأولى إدسا Edessa تقع فوق هضبة واسعة بين السهول الممتدة إلى إبيروس وسلاسل الجبال التي تصل إلى بحر إيجة. وكان إلى الشرق منها مدينة بلا Pella التي أضحت فيما بعد عاصمة فليب والإسكندر؛ وبالقرب من البحر مدينة بدنا، التي هزم فيها الرومان المقدونيين الفاتحين وكسبوا بعد هذه الهزيمة حق نقل حضارة اليونان إلى العالم الغربي.
تلك إذن هي البيئة التي كانت تحيط ببلاد اليونان: حضارات كحضارة مصر وكريت وبلاد النهرين أهدت إليها العناصر الفنية في الصناعة، والعلوم، والفن، فاستحالت على أيدي اليونان إلى أزهى صورة في التاريخ؛ وإمبراطوريات كبلاد فارس وقرطاجنة تؤثر فيها منافسة التجارة اليونانية، وينضم بعضها إلى بعض لمحاربة اليونان وجعلها ولاية خاضعة لسلطانها غير قادرة على أذاها؛ وإلى الشمال جموع حربية النزعة، تتكاثر دون تفكير في العواقب، وتتنقل في قلق واضطراب، وتعبر بعد زمن قد يقصر وقد يطول الحواجز الجبلية القائمة بينها وبين بلاد اليونان، وتفعل بها ما فعله الدوريون من قبل فتمزق ما سماه شيشرون الإطار اليوناني الموشى به الثوب الهمجي (15)، وتدمر حضارة لا تفقه لها معنى. وقلما كانت هذه الأمم المحيطة ببلاد اليونان تعنى بما كان يعده اليونان جوهر الحياة وأغلى ما فيها، ألا وهو الحرية - حرية الحياة والتفكير، والقول والعمل. وكان كل شعب من هذه الشعوب، عدا الفينيقيين، يرزح تحت حكم الطغاة المستبدين، ويسلم أرواح بنيه إلى الخرافات والأوهام، ولا يعرف إلا القليل من بواعث الحرية أو الحياة العقلية. وهذا هو السبب الذي حدا باليونان إلى أن يطلقوا عليهم بلا تمييز بينهم اسم البَرْبَرُوي barbaroi أي الهمج؛ فالهمجي في اعتقادهم هو الذي يرضى بالاعتقاد دون تفكير، والذي يعيش مسلوب الحرية. ثم تتنازع الفكرتان - صوفية الشرق وعقلية الغرب - آخر الأمر جسم بلاد اليونان وروحها، فتنتصر العقلية في عهد بركليز، كما انتصرت في عهد قيصر، وليو العاشر، وفردريك؛ ولكن الصوفية كانت تعود على الدوام. وتبادل النصر بين هاتين الفلسفتين المكملة كلتاهما للأخرى هو الذي تتكون منه أهم المراحل في قصة الحضارة الغربية.
مصادر و المراجع :
١- قصة الحضارة
المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)
تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر
ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين
الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس
عام النشر: 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون
تعليقات (0)