المنشورات

توسيع إسبارطة

ولقد سيطر الدوريون من هذا الحصن الطبيعي المنيع على جنوبي البلوبونيز واستعبدوه. وكان هؤلاء الشماليون ذوو الشعر المرسل الطويل، الذين قوّت حياة الجبال أجسامهم وضرستهم الحروب، كان هؤلاء الأقوام يرون أن الحياة إما فتح أو استرقاق ولا ثالث لهما. وكانت الحرب عملهم المألوف يحصلون بها على رزقهم الشريف في ظنهم، كما كان غير الدوريين من أهل البلاد الذين أضعفهم اشتغالهم بالزراعة وطول عهدهم بالسلم في حاجة ملحة إلى سادة يتولون أمورهم ويسيطرون عليهم. وكان أول ما فعله ملوك إسبارطة، الذين يدعون أنهم من سلالة الهرقليين الذين وفدوا إلى البلاد منذ عام 1104، أن أخضعوا سكان لكونيا الأصليين ثم هاجموا ميسينيا Messinia. وكانت تلك الأراضي الممتدة في الطرف الجنوبي الغربي من البلوبونيز مستوية وخصبة إذا قيست إلى سائر أجزاء شبه الجزيرة، وتقوم بحرثها قبائل هادئة مسالمة. ويقص علينا بوسنياس كيف ذهب أرستوديموس Aristodemus ملك ميسينيا إلى مهبط الوحي في دلفي ليستشيره في الوسائل التي يستطيع بها أن يهزم الإسبارطيين، وكيف أمره أبلو أن يضحي بعذراء يجري في عروقها دمه الملكي، وكيف قتل ابنته هو وخسر الحرب (19) (وربما كان سبب خسرانه أنه كان مخطئاً في اعتقاده أنه قتل ابنته)، وكيف قاد أرستمينس Aristomenes الشجاع الميسينيين بعد جيلين من ذلك الوقت في ثورة جامعة على حكامهم الفاتحين، وكيف ظلت مدنهم تسع سنين صابرة على الهجوم والحصار ولكن الإسبارطيين ظفروا بهم آخر الأمر، فأخضعوا الميسينيين وفرضوا عليهم جزية سنوية تعادل نصف محصولاتهم، وساقوا نصف عددهم وضموهم إلى أقنان هيلوت Helot.
والصورة التي ترتسم في مخيلتنا للمجتمع اللكوني قبل ليكرجوس تتكون، كما تتكون بعض الصور الملونة القديمة، من ثلاث طبقات، العليا منها السادة الدوريين، ويعيش معظمهم في إسبارطة على منتجات الحقول التي يمتلكونها في الريف والتي يحرثها لهم الهيلوتيون (الأرقاء). وكان بين هاتين الطبقتين من الوجهة الاجتماعية، ويحيط بهما من الوجهة الجغرافية، طبقة البريئيسيين Perioeci ( الساكنين حولهم)، وهم قوم أحرار يسكنون في مائة قرية أو على تخوم لكونيا، أو يشتغلون بالتجارة أو الصناعة في المدن، يؤدون الضرائب ويخدمون في الجيش ولكنهم لا نصيب لهم في حكم البلاد، وليس لهم حق الزواج من الطبقة الحاكمة. وكانت أحط الطبقات وأكثرها عدداً طبقة الهيلوتيين، وقد سموا بهذا الاسم- على حد قول استرابون- نسبة إلى هيلوس، وكان أهلها من أول من استعبدهم الإسبارطيون (20). وقد استطاعت إسبارطة بالغزو السافر لسكان لكونيا من غير الدوريين أو باستيراد أسرى الحرب أن تجعل لكونيا بلاداً يعمرها نحو 000ر224 من الهيلوتيين، 000ر120 من البريئيسيين، 000ر32 رجل وامرأة وطفل من طبقة المواطنين (1).
وكان الهيلوتيون يستمتعون بجميع الحريات التي يستمتع بها أقنان الإقطاع في العصور الوسطى، فكان للواحد منهم أن يتزوج كيف شاء، وأن يكون له أبناء لا يهتم بعددهم أو ما سوف يؤول إليه أمرهم، ويستغل الأرض بطريقته هو، ويعيش في قريته مع جيرته، لا يقلقه مالك أرضه الغائب عنها، ما دام يؤدي إلى هذا المالك بانتظام إيجارها الذي حددته لها الحكومة. وكان هذا القن مرتبطُاً بالأرض ولكن مالكها لم يكن في مقدوره أن يبيعه أو يبيعها. وكان في بعض الحالات يؤدي خدمات منزلية في المدينة؛ وكان ينتظر منه أن يقوم على خدمة سيده في الحرب، وأن يحارب دفاعاً عن الدولة إذا ما طلب إليه أن يحارب من أجلها، فإذا أبلى في الحرب بلاء حسناً فقد ينال حريته. ولم تكن حاله الاقتصادية في الظروف العادية أسوأ من حال المزارعين القرويين في سائر أجزاء اليونان الخارجة عن أتكا، أو الفعلة غير المهرة في مدينة من المدن الحديثة. وكان مما يخفف عنه عبء الحياة مسكنه الذي يملكه، وعمله المنوع، وما حوله من حقول وأشجار هادئة تؤنسه وتعينه على عيشه؛ ولكنه كان من الناحية الأخرى معرضاً على الدوام لأن تطبق عليه القوانين العسكرية، وأن تفرض عليه رقابة الشرطة السرية، تقتله في أية لحظة من غير سبب أو محاكمة.
وكان الساذج في لكونيا كما كان في غيرها من بلاد العالم يؤدي الجزية إلى الشاطر الماكر. وتلك عادة لها ماض قديم مبجل ومستقبل مبشر بطول البقاء. 

وسبب ذلك أن طيبات الحياة في أكثر الحضارات تأتي بها وتنظم تصريفها عملية البيع والشراء الهادئة السوية: فالشاطر الماكر يحملنا على أن ندفع في الكماليات التي لا يتيسر مضاعفتها وفي الخدمات التي يؤديها لنا أكثر مما يستطيع الساذج أن يحصل عليه في نظير ما ينتجه من الضرورات التي يسهل إنتاجها وتعويض ما يستهلك منها. أما في لكونيا فقد توصل بعضهم إلى تركيز الثروة في أيديهم بوسائل بادية للعين منفرة، ملأت قلوب الهيلوتيين غيظاً بلغ من الشدة حداً جعل إسبارطة في كل عام تقريباً مهددة بالثورات التي تعرض كيان الدولة لأشد الأخطار. 













مصادر و المراجع :

١- قصة الحضارة

المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)

تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر

ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين

الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس

عام النشر: 1408 هـ - 1988 م

عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید