المنشورات

عصر إسبارطة الذهبي

كانت إسبارطة في هذا الماضي الغامض قبل أن يأتيها ليكرجوس مدينة كسائر المدن اليونانية ازدهر فيها الفن والأغاني كما لم يزدهرا قط بعد أيامه. وكانت الموسيقى أكثر الفنون انتشاراً فيها، وهي قديمة فيها قدم السكان أنفسهم، ذلك أننا مهما أوغلنا في القدم نجد اليونان يغنون. وإذ كان تاريخ إسبارطة لا تنقطع منه الحروب فإن موسيقاها قد اصطبغت بالصبغة العسكرية- وكان أسلوبها هو "الأسلوب الدوري" البسيط القوي. أما غيره من الأساليب الموسيقية فلم يكن يثبط فحسب، بل كان كل خروج عن هذا النمط الدوري يعاقب عليه القانون؛ وحتى تربندر نفسه Terpander، وهو الذي أخمد بأغانيه فتنة قامت في المدينة، وقد حكم عليه الإفوريون (1) بغرامة وسمرت قيثارته في جدار لأنه جرؤ على أن يزيد على أوتارها وتراً جديداً لتنسجم مع صوته؛ ولم يسمح لتيموثيوس Timotheus في عهد آخر من عهودها بأن يشترك في المباريات الإسبارطية إلا بعد أن نزع بأمر الإفوريين ما أضافه من الأوتار الشائنة المرذولة على قيثارة تربندر، وكان قد زاد هذه الأوتار من سبعة إلى أحد عشر (23).
وقد وجد في إسبارطة، كما وجد في إنجلترا، مؤلفون عظام في الموسيقى، حين كانت تستورد هؤلاء المؤلفين من خارجها؛ فقد استدعت حوالي عام 670 تربندر من لسبس بأمر الوحي في دلفي، حسب زعمهم، ليعد مباراة في الغناء الجماعي في الاحتفال بعيد كرنيا Carneia. وكذلك استدعى ثاليتاس Thaletas، وألكمان Alcman، وبلمنستوس Polymnestus. وقد وجه هؤلاء معظم جهودهم لوضع ألحان وطنية وتدريب الفرق على إنشادها. وقلما كانت الموسيقى تعلم للأفراد من الإسبارطيين (24)، فقد بلغت الروح الشيوعية فيها، كما بلغت في روسيا الثورية، من القوة درجة جعلت الموسيقى تنزع فيها نزعة جماعية، وكانت الجماعات فيها تتبارى في إقامة حفلات الغناء والرقص الفخمة. وأتاحت هذه الأغاني الجماعية للإسبارطيين فرصة أخرى للتدريب ولتنظيم الجماهير، لأن كل صوت في الغناء كان خاضعاً للرئيس. ولم يشذ الملوك أنفسهم عن هذا الخضوع، فقد حدث في احتفال الهياكنثيا Hyacinthia أن غنى الملك أجسلوس في الزمان والمكان اللذين عينهما له رئيس الفرقة. وكان الإسبارطيون على بكرة أبيهم، كبيرهم وصغيرهم، رجالهم ونساؤهم، يشتركون أثناء الاحتفال بعيد الجمنوبيديا Gymnopedia في تمارين رياضية جماعية ورقص متناسق وغناء. وما من شك في أن هذه المناسبات كانت باعثاً قوياً للشعور الوطني، ومصرفاً ينصرف فيه ما تتأجج في الصدور من هذا الشعور.
وكان تربندر (أي "مطرب الناس") أحد أولئك الشعراء الموسيقيين النابهين الذين بدأ بهم عصر ليسيوس المجيد في الجيل الذي سبق سافو. وتعزو إليه الرواية المأثورة اختراع أناشيد الشراب المعروفة باسم اسكوليا scolia وزيادة أوتار القيثارة من أربعة إلى سبعة؛ ولكن القيثارة ذات السبعة الأوتار كانت، كما سبق القول، قديمة قدم ميتوس، وأكبر الظن أن الناس كانوا يتغنون بفضائل الخمر في شباب العالم الذي جر عليه النسيان ذيله. والذي لا شك فيه أن تربندر قد ذاع صيته في لسبوس وعرف فيها بأنه مؤلف المقطوعات الغنائية الموسيقية ومغنيها. ولما أن قتل رجلاً في مشاجرة، نفي من هذه المدينة ورأى من مصلحته أن يقبل دعوة جاءته من إسبارطة بالذهاب إليها. ويلوح أنه أقام فيها بقية أيام حياته يعلم الموسيقى ويدرب الفرق الغنائية. ويقال لنا إنه قضي نحبه في مجلس شراب: فبينما هو يغني- ولعله كان يغني النغمة التي أضافها في أعلى السلم الموسيقي- قذفه أحد السامعين بتينة، فدخلت في فمه، وفي قصبته الرئوية، فسدت مسالك التنفس، وقضت عليه وهو في نشوة الغناء (25).
وواصل ترتيوس عمل تربندر في إسبارطة في أثناء الحرب الميسينية الثانية؛ وقد جاءها من أفدنا Aphidna- وقد تكون في لسيدمون، وقد تكون وهو الأرجح في أتكا. والذي لا شك فيه أن الأثينيين كانوا يروون فكاهة قديمة عن الإسبارطيين، وهي أنهم حين كانت الدائرة تدور عليهم في الحرب الثانية أنجاهم من الهزيمة الماحقة معلم أتِكِي أعرج أيقظت أغانيه الإسبارطيين الخاملين وبعثت في قلوبهم الشجاعة فانتصروا بذلك على أعدائهم (26). وجلي أنه كان ينشد أغانيه في المجتمعات العامة بمصاحبة الناي، وهو يعمل لتبديل الموت الحربي بالمجد الذي يحسد عليه. وقد جاء في إحدى القطع الباقية من أغانيه: "ما أجمل أن يموت الرجل الشجاع في الصف الأول من المجاهدين في سبيل أوطانهم؛ ألا فليثبت كل إنسان في مكانه واقفاً على قدميه لا يتزحزح عن موقفه، وليعض على نواجذه ... وليضم كل إنسان قدم زميله، ولتتلاحق الدروع، ولتختلط الرياش المتماوجة، والخوذ المتلاطمة، وليتقدم المقاتلون متلاصقون كالبنيان المرصوص، تتلاقى في معمعان القتال نصال السيوف وأسنة رماحهم" (27). ويقول ليونيداس ملك إسبارطة إن ترتيوس "كان رجلاً بارعاً في إثارة حمية الشباب" (28).
وغنى ألكمان لأهل ذلك الجيل نفسه، وكان صديقاً لترتيوس ومنافساً له، ولكن غناءه كان أكثر تنوعاً من غناء صديقه وأقرب منه إلى مطالب هذه الحياة الدنيا. وكان موطنه الأصلي ليديا البعيدة. ويقول بعضهم إنه كان عبداً ولكن اللسديمونيين رحبوا به لأنهم لم يكونوا قد تعلموا كراهية الأجنبي التي أصبحت فيما بعد جزءاً من قانون ليكرجوس. ولو أنه قد عاصر الإسبارطيين المتأخرين لرأوا في مدائحه في الحب والطعام وتعداده لأصناف الخمور اللكونية مسبة لهم. وتصفه الرواية التاريخية بأنه أشد الأقدمين شرهاً وشغفاً بالنساء. وهو يقول في إحدى أغانيه إنه كان سعيد الحظ لأنه لم يبق في سرايس، وإلا لجبت خصيتاه وأصبح من كهنة سيبيل، بل جاء إلى إسبارطة حيث يستطيع أن يحب بكامل حريته مجالستراتا Megalostrata ذات الشعر الذهبي (29). وبه تبدأ أسرة الشعراء العشاق التي تنتهي بأنكريون، وهو حامل لواء "التسعة شعراء الغنائيين" الذين اختارهم النقاد الإسكندريون ووصفوهم بأنهم أحسن شعراء بلاد اليونان القديمة (1). ولقد كان في وسعه أن يكتب ترانيم وتهاليل، وخمريات وغزلا؛ وكان أحب شيء إلى الإسبارطيين ما وصفه في هذه الأغاني من حين إلى حين قطعاً تكتشف لنا عن قوة الشعور الخيالي التي هي جوهر الشعر وأساسه.
"لقد استغرقت في النوم قلل الجبال ومسايلها، وشعابها، وخوانقها، والزواحف التي تخرج من الأرض السوداء، والوحوش التي تتربص على سفوح التلال، وثول النحل، والحيوانات المهولة في قاع البحر الأرجواني، استغرقت كلها في النوم، ومعها أسراب الطيور المجنحة (1).
ولنا أن نستنتج من وجود هؤلاء الشعراء أن الإسبارطيين لم يكونوا إسبارطيين على الدوام، وأنهم لم يكونوا في القرن السابق لليكرجوس أقل شغفاً بالشعر والفنون الجميلة من سائر اليونان؛ ولقد أضحت الأغاني الجماعية من الخواص الوثيقة الصلة بهم، ولما أن أراد كتاب المسرحيات الأثينيون أن يكتبوا أغاني جماعية لمسرحياتهم لم يروا بداً من أن يكتبوها باللهجة الدورية، مع أنهم كتبوا الحوار باللهجة الأتيكية. وليس من السهل علينا أن نقول أي الفنون الأخرى قد ازدهرت في لسديمون في تلك الأيام، أيام الهدوء والاطمئنان، لأن الإسبارطيين أنفسهم قد غفلوا عن تاريخ تلك الأيام والاحتفاظ بتاريخها إن كانوا قد سجلوه؛ ولكنا نستطيع أن نقول إن الفخار والبرنز اللكونيين قد اشتهرا في القرن السابع، وإن الفنون الصغرى قد أخرجت كثيراً من الكماليات التي تستمتع بها الأقلية المحظوظة. لكن هذه النهضة القصيرة الأجل قضت عليها الحروب الميسينية. فقد وزعت الأراضي المفتوحة على الإسبارطيين، وكاد عدد الأقنان أن يتضاعف نتيجة لهذا التوزيع. وكيف يستطيع ألفاً من المواطنين أن يخضعوا على الدوام أربعة أمثالهم من البرئيسيين وسبعة أمثالهم من الهيلوتيين؟ إنهم لا يستطيعون ذلك إلا إذا نفضوا أيديهم من ممارسة الفنون ومناصرتها، وجعلوا من كل إسبارطي جندياً شاكي السلاح مستعداً على الدوام لقمع الثورات أو السير إلى ميدان القتال. ولقد بلغوا هذه الغاية بفضل دستور ليكرجوس، ولكن هذا الدستور نفسه قد أخرج إسبارطة من تاريخ الحضارة بكافة معانيها اللهم إلا معناها السياسي وحده.













مصادر و المراجع :

١- قصة الحضارة

المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)

تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر

ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين

الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس

عام النشر: 1408 هـ - 1988 م

عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید