المنشورات

الدول المنسية

يمتد وادي نهر يوروتس Eurotas في شمال إسبارطة إلى جبال أركاديا المتجمعة بعد أن يجتاز حدود لكونيا. ولو أن هذه الجبال كانت أقل مما هي خطورة لكانت أكثر مما هي جمالاً. ويلوح أنها لم ترحب بالطرق الضيقة التي نحتت في منحدراتها الصخرية، وأنها تهدد بقتامها كل من يحاول الاعتداء على هذه الملاجئ الأركادية المنعزلة؛ فلا غرابة والحالة هذه إذا ضل فيها الفاتحون الدوريون والإسبارطيون وتركوا أركادية كما تركوا إليس وآخيا للسلالات الآخية والبلاسجية. ويعثر السائح في أماكن متفرقة من هذا الإقليم على سهل أو هضبة، كما يجد فيه مدناً جديدة زاهرة كمدينة تريبوليس Tripolis، أو بقايا مدن قديمة كمدائن أركمنوس Orchomenos، ومجالو بوليس Megalopolis، وتيجيا Tegea، ومنتينيا Mantinea حيث انتصر أباميننداس ولاقى حتفه. ولكنها في معظم أجزائها أرض يسمنها فلاحون ورعاة متفرقون يعتمدون على موارد مزعزعة غير ثابتة، ويعيشون هم وماشيتهم على هذه التلال الضنينة؛ ومع أن هذه المدائن قد استيقظت بعد مرثون لتستقبل الحضارة والفن، فإن من الصعب أن نسلكها في قصة الحضارة قبل الحرب الفارسية. وفي هذه الغابات ذات الأشجار العمودية كان يجول الإله بان في وقت من الأوقات.
ويلتقي نهر يوروتس في أركاديا الجنوبية بنهر آخر أوسع منه شهرة وهو نهر ألفيوس Alpheus. وهذا النهر يشق طريقه شقاً سريعاً خلال سلاسل الجبال البرهازية Parhasian، ثم يتثنى ببطء حتى يدخل سهول إليس، ويرشد السائح إلى أولمبيا. ويحدثنا بوزنياس بأن الإليانيين (76) كانوا من أصل إيولي أو بلاسجي جاءوا إلى إيتوليا بعد أن عبروا الخليج. وكان أول ملوكهم إيثليوس Aethlius والد إندميون Endymion الذي أغوى جماله القمر (1) فأغمضت عينيه وأرسلت عليه نعاساً سرمدياً، وما زالت تضاجعه على مهل حتى ولدت منه مائة بنت. وفي هذا المكان الذي يلتقي فيه نهر ألفيوس بنهر كلاديوس Cladeus المقبل من الشمال كانت المدينة المقدسة للعالم اليوناني كله؛ وقد بلغ من قدسيتها أن الحرب قلما أزعجتها، ومن أجل ذلك نَعِمَ الإيليون Elians بتاريخ استبدلوا فيه الألعاب بالحروب. وفي الزاوية المحصورة بين النهرين كانت الألتيس Altis أو التخوم المباركة لمقر زيوس الأولمبي. وكانت موجات الغزاة المتتابعة تحط رحالها في هذا المكان لتعبده، كما كان مندوبون عن هؤلاء الغزاة يعودون إليه فيما بعد في مواسم معينة ليسألوه العون ويغنوا مزاره بالنذور. وظلت ثروة هيكلي زيوس وهيرا وشهرتهما تزدادان جيلاً بعد جيل حتى انتصر اليونان على الفرس فحشد أكابر المهندسين والمثالين اليونان ليعيدوا بناء الهيكلين ويزينوهما وينفقوا في سبيل ذلك الأموال الطائلة اعترافاً بما كان لهما من فضل في هذا النصر. ويرجع تاريخ هيكل هيرا إلى عام 1000 ق. م، وآثاره أقدم ما بقي من آثار الهياكل في بلاد اليونان جميعها. وقد بقي من هذه الآثار أجزاء من ستة وثلاثين عموداً وعشرين تاجاً دورياً تشهد بأن هذه العمد قد أقيمت المرة بعد المرة، وأنها كانت تقام بأشكال مختلفة. ولا جدال في أنها صنعت في أول الأمر من الخشب. وكان جذع من أحدها وهو من شجر البلوط لا يزال قائماً حين أقبل بوزنياس على ذلك المكان، وبيده كراسته، في أيام الأنطونيين.
وإذا ما غادر الإنسان أولمبيا مر بموضع إيليس العاصمة القديمة ودخل آخيا التي فر إليها بعض الآخيين بعد أن استولى الدوريون على أرجوس وميسيني، وهي شبيهة بأركاديا في أنها بلاد جبلية يرعى على منحدراتها الرعاة الصابرون قطعان الماشية، ويصعدون إلى أعلاها أو ينزلون إلى أسفلها في فصول السنة المختلفة. ولا يزال ثغر بتراس القديم قائماً مزدهراً حتى الآن على الساحل الغربي؛ وهذا الثغر هو الذي قال بوزنياس عن نسائه إنهن "ضعفا عدد الرجال، وإنهن وفيات لأفروديتي إن كان في النساء وفاء" (77). وكانت هناك عدة مدن أخرى محتشدة في غير نظام على طول خليج كورنثة- إيجيوم Aegium، وهليس Helice، وإيجيرا Aegira، وبليني Pellene، وقد كادت كلها تصبح نسياً منسياً، ولكنها كانت في غابر الأزمان تعج بالرجال والنساء والأطفال، وما من أحد منهم إلا كان مركز العالم. 













مصادر و المراجع :

١- قصة الحضارة

المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)

تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر

ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين

الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس

عام النشر: 1408 هـ - 1988 م

عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید