لقد رفعت الزلازل أو خلفت وراءها في عرض الخليج الممتد من مجارا إلى كورنثة جزيرة من أقدم الجزائر المنافسة لهاتين البلدتين في الصناعة والتجارة، وهي جزيرة إيجينا حيث نشأت في أيام ميسين مدينة عامرة كشفت في مقابرها كميات كبيرة من الذهب (111). وقد وجد القائمون الدوريون أرض الجزيرة جدباء مستعصية على الزراعة ولكنها جد صالحة للتجارة. ولما غزا الفرس بلاد اليونان لم تكن في الجزيرة إلا أرستقراطية من التجار الحريصين على أن يبيعوا المزهريات الرائعة والآنية البرونزية التي يصنعونها في حوانيتهم، ليشتروا بها العبيد الذين كانوا يستوردون منهم عدداً كبيراً ليعملوا في المصانع، أو ليبيعوها للمدن اليونانية. وقد قدر أرسطو حوالي عام 350 ق. م سكان إيجينا بنصف مليون منهم 000ر470 من العبيد (112). وفي هذه المدينة سكت أول عملة يونانية، وبقيت الموازين والمكاييل الإيجينية هي الموازين والمكاييل الرسمية في بلاد اليونان إلى أيام الفتح الروماني.
ولقد عرف أن هذه البيئة التجارية يمكن أن تتحول من الاهتمام بالثراء إلى الاهتمام بالفن حين كشف أحد الرحالة في عام 1911 في كومة من المخلفات التماثيل الجميلة القوية التي كانت تزدان بها في وقت من الأوقات قوصرة هيكل أفئيا Aphaea. أما الهيكل نفسه فقد بقي منه اثنان وعشرون من الأعمدة الدورية تحمل فوقها عوارضها. وأكبر الظن أن أهل إيجينا قد شادوا هذا المعبد قبيل الحرب الفارسية، وذلك لأن في التماثيل شواهد كثيرة من الطراز نصف الشرقي العتيق وإن كانت هندسة البناء من الطراز اليوناني. غير أننا لا نستطيع أن نجزم بهذا، فربما كان الهيكل قد شيد بعد سلاميس لأن التماثيل التي تصور الإيجينيين يهزمون الطرواديين قد تكون مجرد رمز للنزاع الدائم بين بلاد اليونان والشرق، وإلى النصر الذي أحرزه الأسطول اليوناني من عهد قريب على مرأى من إيجينا في سلاميس، وقد أمدت الجزيرة الصغيرة ذلك الأسطول بثلاثين سفينة منح اليونان إحداها بعد النصر الجائزة الأولى من جوائز الشجاعة.
ويستطيع السائح بعد رحلة بحرية ممتعة أن ينتقل من إيجينا إلى إبدورس، وهي الآن قرية لا يزيد سكانها على خمسمائة نسمة، ولكنها كانت في وقت من الأوقات من أشهر المدن في بلاد اليونان؛ فقد كان فيها، أو على الأصح على بعد عشرة أميال منها، في أخدود ضيق بين أعلى الجبال وبين شبه جزيرة أرجوس، الموطن الرئيسي لأسكلبيوس Asclepius إله الشفاء وبطله. وقد خاطبه أبلو نفسه على لسان الوحي في دلفي بقوله: "أي إسكلبيوس يا من ولدت لتكون مصدر السرور للخلق أجمعين، يا وليد الحب يا من أنجبتك لي كورونيس الجميلة عند إبدورس الصخرية" (113). ولقد بلغ من شفاهم إسكلبيوس من الكثرة حداً جعل بلوتو إله الحجيم يشكو إلى زيوس - وخاصة بعد أن أحيا رجلاً من الموت - أنه لا يكاد أحد يموت. وتحير زيوس في أمره، ولم يدر ما يفعل بالجنس البشري إذا لم يكن مآلهم الموت، فأرسل على إسكلبيوس صاعقة أهلكته (114). لكن الناس اتخذوه إلهاً منقذاً وعبدوه في تساليا أولا ثم في بلاد اليونان بعدئذ، وشادوا له في إبدورس أعظم تماثيله، وهناك أنشأ الكهنة الأطباء، الذي سُمّوا على اسمه بالأسكلبياويين، مصحة اشتهرت في بلاد اليونان جميعاً بنجاحها في علاج الأمراض. وأصبحت إبدورس فيما بعد لورديس Lourdes اليونان، يحج إليها الناس من جميع بلاد البحر الأبيض المتوسط، ينشدون فيها نعمة الصحة التي يعدها اليونان أعظم النعم جميعاً. وكانوا ينامون في الهيكل، ويتبعون بدقة النظام الذي يفرض عليهم، ويسجلون شفاءهم الذي يعتقدون أنه من المعجزات الإلهية على ألواح من الحجر لا تزال باقية في أماكن متفرقة بين خربات الأيكة المقدسة. ومن الأجور والهدايا التي كانت تجمع من هؤلاء المرضى شادت إبدورس دار تمثيلها وملعبها، ولا تزال مقاعدها ومراميها باقية إلى اليوم بالقرب من التلال المجاورة لها؛ وقبابها المرفوعة على العمد والتي تعد بقاياها المحفوظة في متحف المدينة الصغير، من أروع قطع الرخام المنقوش في بلاد اليونان. ويذهب اليوم أمثال هؤلاء المرضى إلى تنوس Tenos في السكلديس حيث يعالجهم قساوسة الكنيسة اليونانية (115) كما كان قساوسة أسكلبيوس يعالجون أسلافهم منذ ألفي عام وخمسمائة. أما القُلَّة القائمة التي كان أهل إبدورس يقربون عليها القرابين إلى زيوس وهيرا فقد أضحت الآن جبل سانت إلياس St. Elias المقدس. إن الآلهة تموت ولكن التقى والصلاح مخلدان.
وليس أعظم ما يحرص العلماء على مشاهدته في إبدورس هو خرائب أسكلبيوم التي سوبت بالأرض. فالمكان كثير الأشجار وليس في وسع السائح أن يرى الملهى الكامل الذي جاء لمشاهدته حتى يصل إلى منعطف في الطريق يبسطه أمامه عند سفح الجبل على هيئة مروحة ضخمة من الحجارة. ولقد شاده بوليكليتوس الأصغر في القرن الرابع قبل الميلاد، ولكنه لا يزال باقياً إلى اليوم، ويكاد يكون كاملاً لم ينقص منه شيء. وإذا وقف السائح في وسط المرقص (الأركسترا Orchestra) وهو مكان رحب مستدير مرصوف بالحجارة، وأبصر أمامه أربعة آلاف مقعد في صفوف متراصة يعلو بعضها وراء بعض، وقد نظمت تنظيماً رائعاً بحيث يكون كل مقعد منها مواجهاً له، وإذا ما تتبع بنظراته الممرات المتشعبة التي ترتفع ارتفاعاً سريعاً في خطوط مستقيمة من المسرح إلى سفح الجبل من ورائه، وتحدث بصوت خافت إلى أصدقائه الجالسين على أبعد المقاعد وأعلاها على مسافة مائتي قدم منه، وأيقن أن كل كلمة نطق بها قد سمعها هؤلاء الأصدقاء وفهموها، إذا ما فعل هذا تمثلت له إبدورس في أيام عزها ورخائها، وصور له خياله الجموع الهائلة مقبلة حرة مرحة من كل مدينة ومزار لتستمع إلى يوربديز، وسرى في نفسه إحساس، أقوى من أن يعبر عنه بلسانه، بحياة الهواء الطلق البهجة التي كان يستمتع بها اليونان الأقدمون.
مصادر و المراجع :
١- قصة الحضارة
المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)
تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر
ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين
الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس
عام النشر: 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون
تعليقات (0)