على شاطئ الخليج في مقابل ميليتس، بالقرب من منافذ نهر الميندر Maender كانت تقوم بلدة ميوس المتواضعة أشهر مدائن البرييني Priene، وكان يسكنها في القرن السادس بياس Bias أحد الحكماء السبعة، ونقول سبعة وإن كان هرمبوس Hermippus يقول إنهم سبعة عشر، لأن اليونان اختلفوا في أسمائهم فوضع كل منهم أسماء غير التي وضعها الآخر. ولكن معظمهم متفقون على طاليس، وصولون؛ وبياس، وبتكوس Pittacus الميليتي، وبريندر الكورنثي، وشيلون Chilon الإسبارطي، وكليوبولوس Cleobolus اللندي ( Lindus) من أعمال رودس. وكانت بلاد اليونان تعظّم الحكمة كما تعظّم الهند الدين، وكما عظّمت إيطاليا في عهد النهضة العبقرية الفنية، وكما تعظم أمريكا الناشئة بطبيعة الحال المشروعات الاقتصادية. فأبطال اليونان لم يكونوا قديسين أو فنانين أو من أصحاب الملايين، بل كانوا حكماء، ولم يكن أجل حكمائهم هم أصحاب النظريات العلمية، بل كانوا رجالاً جعلوا لحكمتهم عملاً جدياً نشيطاً في العالم. وأصبحت أقوال هؤلاء الرجال حكماً وأمثالاً يتناقلها اليونان، وكانت في بعض الأحيان تنقش على جدران معبد أبلو في دلفي. فقد كان الناس مثلاً مولعين بترديد قول بياس، إن أبأس الناس من لم يعرف كيف يصبر على البؤس، وإن على الناس أن ينظموا حياتهم كما لو كانوا قد قدر عليهم أن يعيشوا طويلاً أو قصيراً، وإن "الحكمة يجب أن يُعتز بها وأن تكون وسيلة للانتقال من الشباب إلى الشيخوخة، لأنها أبقى من كل ما عداها مما يملكه الإنسان" (40).
وإلى غرب بريني تقوم جزيرة ساموس ثانية جزائر أيونيا في الاتساع. وكانت حضارتها تقوم على ساحلها الجنوبي الشرقي؛ وكان الإنسان إذا ما دخل موفأها الأمين، بالسفن الحمراء الذائعة الصيت التي يتألف منها أسطول الجزيرة، شاهد المدينة أمامه كأنها مشيدة من القرميد على سفح التل. وكان أول ما شاهده الأرصفة والحوانيت، ثم يرى بعدئذ البيوت؛ ثم حصنها القائم على ربوة، ثم هيكل هيرا العظيم، ومنهن وراء هذه كلها سلاسل متتابعة من الجبال والقلل تعلو إلى خمسة آلاف قدم. لقد كان ذلك بلا ريب منظراً يثير الحماسة الوطنية في قلب كل ساموسي.
ووصلت ساموس إلى أوج عظمتها في الربع الثالث من القرن السادس تحت حكم بوليكراتيز Polycrates. وقد استطاع هذا الطاغية بفضل المال الذي تدره عليه رسوم الميناء أن يقضي فترة من البطالة كانت تنذر الجزيرة بأوخم العواقب، فوضع خطة لإقامة منشآت عامة أثارت إعجاب هيرودوت. وكان أعظم مشروعاته نفق في جبل ينقل الماء إلى المدينة مسافة 4500 قدم. وفي وسعنا أن نستدل بعض الاستدلال على مهارة اليونان الرياضية والهندسة، إذا عرفنا أن الثقبين الذين بدءا من اتجاهين متضادين التقيا في وسط النفق، وأن الخطأ في تقديرهم عند التقائهما لم يزد على ثماني عشرة قدماً في الاتجاه وعلى تسع أقدام في الارتفاع (1).
وكانت ساموس مركزاً من مراكز الثقافة قبل بوليكراتيز بزمن طويل. ففيها عاش إيسوب صاحب الخرافات المشهورة، وكان عبداً فريجياً للادمون Lodmon اليوناني. وتقول إحدى الروايات التي لم تؤيد بعدُ إن لادمون أعتقه وإن إيسوب سافر كثيراً والتقى بصولون، وعاش في بلاط كروسس، واستولى على الأموال التي كلفه كروسس بتوزيعها في دلفي، وإنه لقي حتفه على يد الدلفيين الذين اغتصبوا مالهم (42). وكانت خرافاته التي أخذ معظمها من مصادر شرقية منتشرة بين الأثينيين في عصر بلادهم الأدبي. ويقول بلوتارخ إن سقراط قد نظمها شعراً (43)، وإن ما فيها من فلسفة، فلسفةٌ يونانية خالصة، وإن كانت الخرافات نفسها مصوغة في قالب شرقي: "ما أحلى جمال الطبيعة؛ والأرض والبحر، والنجوم وقرص الشمس والقمر، وأما ما عدا هذه فخوف وألم" (44) وخاصة إذا اغتصب الإنسان مال غيره! ولا نزال حتى الآن نلتقي به في الفاتيكان حيث نراه على كوب من عصر بركليز ذي رأس أصاب الصلع نصفه ولحية كلحية فانديك Vandyke، يستمع إلى ثعلب مرح يروي له قصة ذات فائدة له (45).
وفي ساموس ولد فيثاغورس العظيم، ولكنه غادرها في عام 529 ليعيش في كروثونا بإيطاليا. وجاء أنكريوس من تيوس Teos إلى ساموس ليتغنى بمحاسن بوليكراتيز ويربي له ابنه؛ وكانت أعظم شخصية في بلاد بوليكراتيز هي شخصية الفنان ثيودوس Theodorus ليوناردو ساموس، الذي يعرف طرفاً من كل شيء ويجيد معظم ما يعرف. ويعزو إليه اليونان - ولعلهم فعلوا هذا بعد بحث وتنقيب -اختراع ميزان الماء، وزاوية النجار، والمخرطة (46). وكان ماهراً في الحفر على الجواهر، كما كان يحترف صنع الأدوات المعدنية والحجرية والخشبية؛ وكان مثالاً ومهندساً معمارياً، اشترك في تصميم المعبد الثاني لأرتميس في إفسوس، وشاد قبة عظيمة للجمعيات العامة في إسبارطة، وساعد على إدخال التماثيل والنماذج الطينية إلى بلاد اليونان، وشارك ريكوس Rhoecus شرف إدخال صناعة صب البرونز المجوف من مصر أو من أشور إلى ساموس (47). وكان اليونان قبل ثيودورس يصنعون تماثيل برونزية غير متقنة بتثبيت ألواح من المعدن على "قنطرة" من الخشب (48)، أما في أيامه فقد استطاعوا أن يخرجوا من روائع الصناعة البرونزية أمثال راكب العربة في دلفي وقاذف القرص في ميرون. واشتهرت ساموس فضلاً عن هذا بفخارها؛ ويثني بلني على هذا الفخار بقوله إن كهنة سيبيل لم يكونوا يستخدمون غير شقافة ساموس في حرمان أنفسهم من رجولتهم (49).
مصادر و المراجع :
١- قصة الحضارة
المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)
تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر
ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين
الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس
عام النشر: 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون
تعليقات (0)