المنشورات

طشيوز، أزمير، فوسيا

تمتد أرض اليونان الأصلية من تئوس نحو الغرب في خلجان ونتوءات أرضية متتالية، حتى إذا قطع المسافر في البحر عشرة أميال وصل إلى طشيوز Chios (1) . وليس ببعيد أن يكون هومر قد قضى شبابه في هذه الجزيرة بين غياض التين والزيتون والكروم الأنكرونية. وكان عصر الخمر من الصناعات الكبرى في طشيوز، وكان يشتغل به عدد كبير من الرقيق؛ فقد كانت الجزيرة في عام 431 تضم 000ر30 من الأحرار و 000ر100 من الأرقاء (67)، وأصبحت على مر الزمن سوقاً كبرى للنخاسة، فكان النخاسون يبتاعون من الدائنين أبناء مَن عجزوا عن الوفاء بديونهم، ويبتاعون الغلمان ليجعلوهم خصياناً يخدمون في قصور ليديا وفارس (68).
وفي القرن السادس ثار الأرقاء بزعامة زميلهم درمكوس Drimachus وهزموا جميع الجيوش التي أرسلت للقضاء عليهم، واعتصم قائدهم بمكان منيع في الجبال وفرض الإتاوات على الأغنياء من أهل الجزيرة، ونهب أموال من يرى أن أموالهم خليقة بأن تُنهب، وعرض عليهم "حمايته" نظير جعل معين كما يحدث عندنا (1) في هذه الأيام، وأرغمهم بجبروته على أن يعاملوا عبيدهم معاملة أقرب إلى العدل من معاملتهم السابقة، وقُطع رأسه باختياره وأوصى بأن يُعطى لجماعة من أصدقائه حتى يحق لهم أن يطالبوا بالمكافأة التي وعِد بها مَن يأتي به، وظل مئات من السنين بعد موته يُعد نصير الأرقاء والإله الحامي لهم (69)؛ وتلك حياة ما أجدرها أن تكون ملحمة طيبة يتغنى بها كاتب ثوري مثل حياة اسبارتكوس. وازدهرت الآداب والفنون بين أحضان الثروة والرق في طشيوز. وكانت الجزيرة مركز الهومريين، وهم رابطة من الشعراء المتتابعين، وفيها ولد أيون Ion الكاتب المسرحي، وتيوبوموس Theopomous المؤرخ. وهنا كشف جلوكوس Glaucus ( كما تقول الرواية المتواترة) حوالي 560 صناعة طرق الحديد المحمي، وهنا صنع أركرموس Archermus وولداه بوبالوس وأثنيس أجمل ما صُنع من التماثيل في القرن السادس في بلاد اليونان.
وإذا عاد المسافر بعدئذ إلى أرض اليونان الأصلية مر بمواقع إريثرا Erythra وكلازوميني Clazomenae- مسقط رأس أنكسجراس Anaxagoras معلم بركليز وصديقه. وبعدها من جهة الشرق على خليج صغير أمين تقع مدينة أزمير التي استقر فيها الإيوليون من زمن بعيد يرجع إلى عام 1015ق. م (70)، ثم استحالت بالهجرة والفتح مدينة أيونية. وكانت مدينة واسعة الشهرة في أيام أخيل، وقد نهبها ألياتس Alyattes الليدي حوالي عام 600 ق. م، ودُمرت بعد ذلك مراراً، كان آخرها في عام 1924م على أيدي اليونان أنفسهم. وتنافس أزمير دمشق في قدم عهدها وطول حياتها، وقد ذاقت صروف الزمان بحلوها ومرها على السواء (2). ويدل ما بقي من مباني المدينة القديمة على ثرائها وتنوع الحياة فيها، فقد كُشف في أرضها عن ملعب رياضي، وحصن، ومضمار للركض، ودار للتمثيل. وكانت طرقاتها واسعة جيدة الرصف تزينها الهياكل والقصور، وكان شارعها الرئيسي، المعروف بالذهبي، مشهوراً ذائع الصيت في بلاد اليونان بأجمعها.
وكانت أبعد المدن اليونانية شمالاً مدينة فوقية Phocaea، ولا تزال قائمة إلى اليوم يُطلق عليها اسم فوقية Fokia؛ وكان نهر هرمس يكاد يصلها بسرديس نفسها فأكسبها هذا الاتصال مزية عظيمة في تجارة اليونان مع ليديا، وكان التجار الفوقيون يسافرون أسفاراً بعيدة بحثاً عن الأسواق، وهم الذين حملوا الثقافة اليونانية إلى قورسقة Corsica وأسسوا مرسيليا.
تلك هي مدائن أيونيا الاثنتا عشرة ألقينا عليها نظرة عاجلة كأنا نطوف بها في رحلة جوية خلال الزمان والفضاء. لقد كان ما بين هذه المدائن من تنافس وتحاسد مانعاً لها من أن تكون فيما بينها وحدة تعينها على الدفاع المشترك، ولكن أهلها مع ذلك كانوا يعترفون بما بينهم من تضامن واتفاق في المصالح، وكانوا يجتمعون في مراسم معينة في ميكالي Mycale، الأكمة الممتدة في البحر عند برين Prien، في عيد جميع الأيونيين Paniomium العظيم. وقد طلب إليهم طاليس أن يؤلفوا منهم جامعة يكون فيها كل ذكر رشيد مواطناً في مدينته وفي الاتحاد الأيوني، ولكن التنافس التجاري كان أقوى من أن يسمح بقيام هذه الجامعة، بل إنه بدل أن يؤدي إلى الوحدة السياسية أدى إلى التقاتل والتطاحن، ولما أن أقبل الفرس غازين فاتحين (546 - 545)، واتحدت تلك المدائن اتحاداً مرتجلاً للدفاع عن نفسها، كان هذا الاتحاد ضعيفاً واهي الأساس، فلم تلبث المدن الأيونية أن دانت لسلطان الملك العظيم. على أن ما كانت تنطوي عليه قلوب الأهلين من نزعة الاستقلال والتطاحن قد بعث في نفوس الجماعات الأيونية حب التنافس والحرص الشديد على الحرية.
وتلك هي الظروف التي نمت فيها في أيونيا العلوم، والفلسفة، والتاريخ، ونشأت فيها العاصمة الأيونية، ووجد فيها في الوقت نفسه الشعراء الكثيرو العدد الذين جعلوا القرن السادس في هيلاس يبدو خصيباً كالقرن الخامس. ولما أن سقطت أيونية خلفت وراءها ثقافتها، فورثتها أثينة التي حاربت في الدفاع عنها، كما انتقلت إليها الزعامة العقلية لبلاد اليونان جميعها.











مصادر و المراجع :

١- قصة الحضارة

المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)

تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر

ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين

الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس

عام النشر: 1408 هـ - 1988 م

عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید