المنشورات

تعليم الاثينا

أنشأت أثينة ساحات للألعاب ومدارس للرياضة البدنية، وكان لها بعض الإشراف القليل على المدرسين، ولكن المدينة لم يكن فيها مدارس عامة أو جامعة تديرها الدولة، بل ظل التعليم فيها في أيدي الأفراد. ونادى أفلاطون بأن تنشئ الدولة مدارس (10)، ولكن يلوح أن أثينة كانت تعتقد أن المنافسة حتى في التعليم نفسه كفيلة بأن تثمر أحسن الثمرات. وكان المدرسون المحترفون ينشئون مدارسهم الخاصة يُرسل إليها أبناء الأحرار في سن السادسة. ولم يكن لفظ بيدجوجوس Paidagogos يُطلق عندهم على المعلم، بل كان يسمى به العبد الذي يصاحب الغلام كل يوم في ذهابه إلى المدرسة والعودة منها، ولم نسمع قط عن وجود مدارس داخلية. وكان التلميذ يبقى في المدرسة حتى يبلغ الرابعة عشرة أو السادسة عشرة من عمره، وإلى ما بعد السادسة عشرة إن كان من أبناء الأغنياء (11). ولم يكن في المدارس أدراج بل كان يكتفى فيها بالمقاعد؛ فكان التلميذ يضع على ركبتيه الملف الذي يقرأ منه، أو الصحيفة، أياً كانت مادتها، التي يكتب عليها؛ وكانت بعض المدارس تزدان بتماثيل لأبطال اليونان وآلهتهم، وهي عادة انتشرت فيما بعد انتشاراً واسعاً؛ وكان عدد قليل منها يمتاز بأثاثه الظريف. وكان المدرس يدرس كل المواد، ويُعنى بالأخلاق كما يُعنى بالعقول ويستخدم النعال للتأديب (1) 
وكان منهج الدراسة ينقسم ثلاثة أقسام -الكتابة، والموسيقى، والألعاب الرياضية؛ وأضاف المجددون الحريصون على التجديد في أيام أرسطو إلى هذا المنهج الرسم والتصوير (14). وكانت الكتابة تشمل القراءة والحساب، وكانوا يستخدمون فيها الحروف لا الأرقام. وكان كل تلميذ يتعلم العزف على القيثارة، وكان الكثير من مواد الدراسة يصاغ في عبارات شعرية وموسيقية (15). ولم يكونوا يضيعون شيئاً من الوقت في تعليم أية لغة أجنبية، بله اللغات الميتة، ولكنهم كانوا شديدي العناية بتعلم اللغة الوطنية واستخدامها على أصح وجه. وكانت الألعاب الرياضية تُعَلم أكثر ما تعلم في مدارس الألعاب، ولم يكن أثيني يعد متعلماً إذا لم يتقن المصارعة والسباحة واستعمال القوس والمقلاع.
أما البنات فكن يدرسن في منازلهن وكان تعليمهن يقتصر في الغالب على علم "تدبير المنزل"، ولم يكن للبنات في غير إسبارطة حظ من الألعاب الرياضية العامة. وكانت أمهاتهن يعلمنهن القراءة والكتابة والحساب، والغزل والنسيج والتطريز، والرقص والغناء، والعزف على بعض الآلات الموسيقية؛ ومن النساء اليونانيات عدد قليل تعلمن تعليماً عالياً، ولكنهن في الغالب من المؤنسات، أما النساء المحترمات فلم يكن تعليمهن يتجاوز المرحلة الابتدائية حتى أغرت أسبازيا Aspasia عدداً قليلاً منهن على تعلم فنون البلاغة والفلسفة. وكان الرجال يتعلمون التعليم العالي على يد علماء البلاغة والسوفسطائيين، يلقنونهم فن الخطابة، والعلوم الطبيعية، والفلسفة والتاريخ. وكان هؤلاء المدرسون المستقلون يستأجرون قاعات للمحاضرات بالقرب من مدارس الألعاب الرياضية، وكان يتألف منهم من قاعاتهم هذه في أثينة قبل أفلاطون جامعة متفرقة. وكان ذوو الثراء وحدهم هم الذي يتعلمون على أيديهم، لأنهم كانوا يتقاضون أجوراً عالية، ولكن ذوي الطموح من الشبان غير ذوي اليسار كانوا يعملون ليلاً في المصانع أو الحقول حتى يستطيعوا أن يحضروا في النهار دروس هؤلاء المعلمين المتنقلين. 

فإذا بلغ الأولاد السادسة عشرة من عمرهم، كان يُنتظر منهم أن يعتنوا عناية خاصة بالتربية البدنية التي تعدهم بعض الإعداد إلى الأعمال الحربية، وكانت ألعابهم العادية نفسها تعدهم من طريق غير مباشر لهذا الغرض عينه؛ فقد كانوا يُدربون على العدو، والقفز، والمصارعة، والصيد، وسوق المركبات، وقذف الحراب. وإذا بلغوا الثامنة عشرة من عمرهم بدءوا المرحلة الرابعة من مراحل الحياة الأثينية (الطفولة، والشباب، والرجولة، والكهولة ( Geron, Auer, Ephebos, Pais) وفيها ينخرطون في صفوف شبان أثينة المجندين المعروفة بمنظمات الشباب Epheboi (1) . وكانوا في هذه المرحلة يدربون مدى عامين على أيدي "مدربين"، يختارهم لهم زعماء قبائلهم، على القيام بالواجبات الوطنية والعسكرية. فكانوا يعيشون ويأكلون مجتمعين، ويلبسون حُللاً رسمية ذات روعة وبهاء، ويخضعون بالليل والنهار لرقابة خلقية. وكانوا ينظمون أنفسهم تنظيماً ديمقراطياً على نمط نظام المدينة، فيجتمعون في جمعية وطنية، ويصدرون قرارات، ويسنون قوانين يتقيدون بها، ويكون لهم منهم حكام، وزعماء، وقضاة (16). وكانوا في السنة الأولى يخضعون لنظام صارم من التدريب الرياضي، ويتلقون محاضرات في الآداب، والموسيقى، والهندسة النظرية، وعلوم البلاغة (17). وفي التاسعة عشرة من عمرهم يُرسلون لحماية الحدود، ويُعهد إليهم مدى عامين حماية المدينة من الغزو الخارجي والاضطراب الداخلي. وكانوا في هذه المرحلة يقسمون أمام مجلس الخمسمائة، وأيديهم ممتدة فوق مذبح الهيكل في أرجولوس Argaulos، يميناً مغلظة هي يمين الشباب الأثيني:
"لن أجلل بالعار الأسلحة المقدسة، ولن أتخلى عن الرجل الذي إلى جانبي أياً كان، وسأقدم المعونة إلى طقوس المدينة، وإلى الواجبات المقدسة، بمفردي ومع الكثيرين غيري. ولن تكون بلادي حين أسلمها إلى من يأتي بعدي أقل مما كانت حين تسلمتها، بل ستكون أكبر وأحسن مما كانت وقئذ. وسأطيع من يتولون القضاء حيناً بعد حين، وأخضع للقوانين المسنونة، ولكل ما يضعه الأهلون من أنظمة؛ وإذا ما حاول أحد أن يفسد هذه القوانين، فلن أسمح له بذلك العمل، بل أدفعه بمفردي وبمعونة الجميع؛ وسأكرم دين السلف" (18).
وكان للشباب مكان خاص في دار التمثيل، وكان لهم شأن ظاهر في مواكب المدينة الدينية؛ ولعل هؤلاء الشبان هم الذين زي صورهم الجميلة منقوشة على طنف البارثنون يمتطون صهوة الجياد. وكانوا في أوقات معينة يعرضون ما يتحلون به من صفات في مباريات عامة، وبخاصة في سباق التتابع بالمشاعل من بيريه إلى أثينة. وكانت المدينة على بكرة أبيها تخرج لمشاهدة هذا المنظر الجميل، فيصطف أهلها على طول الطريق البالغ أربعة أميال ونصف ميل. ويجري السباق ليلاً، والطريق غير مضاء، فلا يرى الناس من العدائين إلا أنوار المشاعل التي يحملونها وتقفز من يد إلى يد على طول الطريق. وبعد أن يتم تدريب الشباب في الحادية والعشرين من عمرهم، يتحررون من سلطان الآباء، وينتظمون رسمياً في سلك مواطنية المدينة الكاملة.
هذه هي التربية التي تنشئ المواطن الأثيني، أساسها الدروس التي تلقاها في المنزل وفي الطريق. وهي مزيج صالح جميل من التدريب الجسمي، والعقلي، يقوي في الشاب حاسة الجمال، ويفرض الرقابة في سن الشباب، ويعطيه حريته إذا ما نضج. وقد أخرجت في أحسن عهودها شباناً لا يفوقهم شبان آخرون في التاريخ كله. فلما انقضى عصر بركليز كثرت النظريات حتى طغت على الناحية العملية في هذه التربية، فاحتدم النقاش بين الفلاسفة حول أهداف التربية ووسائلها، هل يوجه المدرس أكبر همه إلى التربية العقلية أو الخلقية، وهل يُعنى أكبر العناية بتنمية الكفاية العملية، أو بتعليم العلوم النظرية البحتة. لكنهم كلهم مجمعون على أن مكانة التربية هي أسمى مكانة في البلاد، ولما أن سُئل أرستبس Aristippus بماذا يمتاز المتعلم عن الجاهل أجاب: "بما يمتاز به الجواد المروض على الجواد الجموح"؛ وأجاب أرسطاطاليس عن هذا السؤال نفسه بقوله: "بما يمتاز به الحي على الميت"، ويضيف أرستبس إلى قوله السابق: "حسب التعليم فضلاً على التلميذ أنه حين يشهد التمثيل لن يكون حجراً فوق حجر" (19).













مصادر و المراجع :

١- قصة الحضارة

المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)

تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر

ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين

الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس

عام النشر: 1408 هـ - 1988 م

عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید