لم يكن الأثينيون في القرن الخامس مثلاً طيباً في حسن الخلق، وذلك لأن ارتقاء عقولهم قد أحل الكثيرين منهم من تقاليدهم الأخلاقية، وجعل منهم أفراداً يكادون يكونون لا خلاق لهم. نعم إنهم قد اشتهروا بعدلهم القضائي، ولكنا قلما نراهم يؤثرون على أنفسهم أحداً غير أبنائهم، وقلما يشعرون بوخز الضمير، أو يفكرون قط في أن يحبوا جيرانهم كما يحبون أنفسهم. وتختلف آدابهم باختلاف طبقاتهم، ففي محاورات أفلاطون نرى الحياة تجملها الرقة الخلابة أما في ملاهي أرسطوفان فالآداب لا وجود لها قط؛ وفي الخطب العامة نرى السباب الشخصي هو روح البلاغة. ولقد كان "البرابرة" الذين هذبهم الدهر في مصر وفارس وبابل أرقى من اليونان كثيراً في هذه الناحية. وكانت التحيات عند الالتقاء ودية قلبية ولكنها بسيطة، فلم يكن فيها انحناءات لأن هذا كان يبدو للمواطنين بقية من بقايا الملكية البائدة. وكان السلام باليد مقصوراً على الحلف أو الوداع؛ أما التحية العادية فلم تكن تزيد على قولهم "ابتهج" ( Chaire) تتبعها كما تتبعها عند غيرهم إشارة طريفة إلى الجو (37).
وقل إكرام الضيوف بعد أيام هومر لأن الأسفار أصبحت آمن بعض الشيء مما كانت في ذلك الوقت، ولأن النزل كانت تقدم الطعام والمأوى للمسافرين؛ غير أن كرم الضيافة ظل مع ذلك من فضائل الأثينيين البارزة. وكانوا يرحبون بالغرباء ولو لم يقدمهم إليهم أحد؛ فإذا جاء الغريب بخطاب من صديق له ولمن جاء إليه، قدم له الطعام والمأوى، وربما قدمت له عند رحيله بعض الهدايا. وكان من حق الضيف المدعو إلى طعام أن يصحب معه ضيفاً غير مدعو. وكانت حرية الدخول إلى منازل الغير سبباً في قيام طائفة من الطفيليين على مر الأيام. وكانت الكلمة المستعملة في هذا المعنى Paraisitoi تطلق في الأصل على الكهنة الذين يأكلون "الحب الباقي" من مقررات المعابد. وكان الأغنياء أسخياء في عطائهم الخاص والعام. وكانت عادة العطف على الإنسانية عادة اليونان فعلاً واسماً، واللفظ الذي يطلق عليها Philanthropy من أصل يوناني. وكان التصدق - Charitas أي الحب - من طباعهم، وكان لديهم هيئات للعناية بالغرباء والمرضى، والفقراء، والطاعنين في السن (38). وكانت الحكومة تقرر معاشات للجرحى من الجنود وتربي أيتام الحرب على نفقة الدولة؛ ولما حل القرن الرابع قبل الميلاد قررت مرتبات للعمال العاجزين عن العمل (39). وكانت الدولة تدفع في أوقات الجدب، والحرب، وغيرها من الأزمات إعانة يومية قدرها أبولتان (34 slash100 من الريال الأمريكي) للمحتاجين، تضاف إلى ما كانت تعطيه كلاً منهم لحضور الجلسات الجمعية، والمحاكم، ومشاهدة التمثيل. ولم تكن هذه الإعانات تخلو من الفضائح المعتادة، فهاهو ذا ليسياس يذكر في خطبة له رجلاً يتقاضى إعانة من الأموال العامة، مع أن له أصدقاء من الأغنياء، ويكسب مالاً من عمله اليدوي، ويركب الخيل للرياضة (40).
ولعلك كنت إذا سألت اليوناني قال لك: إن الأمانة أحسن سياسة، ولكنه كان في حياته العملية يجرب كل الوسائل الأخرى أولاً. فترى المغنين في مسرحية فلكتيتس Fhiloctetes لسفكل يظهرون أعظم العطف على الجندي الجريح الذي تخلى عنه رفقاؤه، ثم ينتهزون فرصة غفوته فيشيرون على نيوبتلموس Neoptolemus أن يغدر به ويسرق سلاحه، ويتركه بعدئذ لمصيره. وكان كل الناس يشكون من أن بائع الأشتات الأثيني يغش بضاعته، ويخسر الكيل والميزان، وينقص ما بقي للمشتري من نقود على الرغم من مفتشي الحكومة، ويحول مرتكز الميزان نحو الكفة التي بها الموزون (40أ)، ويكذب كلما سنحت له الفرصة؛ وهو متهم بأخذ الوذم (1) من الكلاب (41). ويطلق كاتب مسرحي هزلي على بائعي السمك اسم "السفاحين" ويسميهم كاتب أرحم بهم منه "لصوصاً" (42). ولم يكن رجال السياسة خيراً من هؤلاء كثيراً؛ فلا نكاد نرى رجلاً ذا شأن في الحياة الأثينية العامة لم يتهم بالالتواء (43)، وإذا وجد فيهم رجل شريف مثل أرستيدبز عد من خوارق الطبيعة، يكاد يبلغ حد البشاعة، وحتى ديوجين نفسه بمصباحه الذي يسير به في النهار يعجز عن أن يعثر على رجل آخر شريف. ويقول توكيديدز إن الرجال كانوا أكثر حرصاً على أن يوصفوا بالحذق من أن يوصفوا بالأمانة، ويظنون أن الأمانة هي السذاجة (44). وكان من أيسر الأمور أن تجد اليونان يخونون وطنهم. وفي ذلك يقول بوزنياس: "لم يكن ينقص بلاد اليونان في أي وقت من الأوقات رجال مصابون بهذا الداء داء الخيانة" (45). وكانت الرشوة هي السبيل المألوفة للرقي، ولفرار المجرمين من العقاب، ولنيل المطالب الدبلوماسية. وحصل بركليز على مبالغ طائلة من المال للخدمات السرية، وأكبر الظن أنه استخدمها لتيسير أسباب المفاوضات الدولية. وكانت المبادئ الأخلاقية قبلية الطابع إلى أقصى حد، وينصح زنوفون في رسالة له في التربية بالالتجاء الصريح إلى الكذب والسرقة في معاملة أعداء البلاد (46). ويدافع الرسل الأثينيون الذين وفدوا إلى إسبارطة في عام 432 عن إمبراطوريتهم بتلك العبارات الصريحة: "لقد كان القانون السائد على الدوام أن يخضع القوي للضعيف ... ولم يسمح أحد بأن تقف المطالبة بالعدالة في سبيل المطامع إذا لاحت للتخلص فرصة كسب شيء ما قوة واقتداراً" (47). ولا يبعد أن تكون هذه الفقرة هي وخطب الزعماء الأثينيين في ميلوس (48) من خيال توكيديدز الفلسفي أثارتها أقوال بعض السوفسطائيين الساخرة؛ ومن أجل هذا فإن الحكم على اليونان من أخلاق جورجياس، وكلكليز Callicles، وثرازيماكوس Thrasymachus التي تخالف العرف المألوف لا يكون فيه من العدالة أكثر مما في وصف الأوربيين المحدثين بالاستناد إلى أقوال مكيفلي، ورشفوكول، ونتشة، واسترنر Stirner الشاذة الغريبة. ولسنا نحب أن نقول ماذا في هذا الحكم من عدالة. ومما يدل على أن اليونان يرون أنهم أرقى من أن يتقيدوا بهذه القيود الأخلاقية أن الإسبارطيين لا يترددون في موافقة الأثينيين على هذه الطائفة من نقط الخلاف الأخلاقية. ولما أن استولى فوبداس Phoebidas اللسديموني على قلعة طيبة غدراً وخيانة على الرغم من معاهدة الصلح المعقودة مع الطيبيين، وسُئل أجسلوس Agesilus ملك إسبارطة عما في هذا العمل من العدالة أجاب بقوله: "ليس لك إلا أن تسأل هل هو نافع أو غير نافع، لأن العمل النافع لبلدنا هو العمل الصالح". وكثيراً ما كانت تُخرق شروط الهدنة، وتُنقض العهود الصريحة، وتُقتل الوفود (49). على أننا نعود فنقول: إن اليونان قد لا يختلفون عنا إلا في صراحتهم لا في مسلكهم، ذلك أن تفوقنا عنهم في الرقة يجعلنا نستنكف أن ندعو جهرة إلى ما نفعل.
ولم يكن للعادة والدين إلا أثر قليل في كبح جماح المنتصرين في الحرب. ولقد كان من الأمور المألوفة، حتى في الحروب الأهلية، أن تُنهب المدن المفتوحة، وأن يُقتل جميع الجرحى، وأن يُذبح جميع أسرى الحرب أو من يُقبض عليهم من غير المحاربين، أو أن يُتخذوا عبيداً إذا لم يُفتدوا، وأن تُحرق البيوت، وأشجار الفاكهة، والمحصولات الزراعية، وأن تُباد الحيوانات، وتُتلف البذور لكيلا تُزرع في المستقبل (50). وقد ذبح الإسبارطيون في بداية حرب البلوبونيز كل من وجدوهم من اليونان في البحر وعاملوهم معاملة الأعداء، سواء من أحلاف أثينة أو من المحايدين (51)، وقتل الإسبارطيون في معركة إيجسبوتامي Aegospotami التي انتهت بها هذه الحرب، ثلاثة آلاف من الأسرى الأثينين (52) - ويكاد هؤلاء أن يكونوا صفوة المواطنين الأثينيين الذين قضت الحرب على الكثيرين منهم. وكانت الحرب من نوع ما - حرب مدينة ضد مدينة، أو طبقة ضد طبقة - هي الحالة المألوفة العادية في بلاد اليونان. وعلى هذا النحو أخذت هذه البلاد التي هزمت ملك الملوك يقاتل بعضها بعضاً، فيلقى اليوناني اليوناني في ألف موقعة، ولم يكد يمضي قرن واحد على معركة مرثون حتى أخذت الحضارة اليونانية، وهي أزهى حضارات التاريخ على الإطلاق، تفني نفسها بهذا الانتحار القومي الطويل الأمد.
مصادر و المراجع :
١- قصة الحضارة
المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)
تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر
ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين
الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس
عام النشر: 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون
تعليقات (0)