زينة الحياة الدنيا
تقول إحدى الشخصيات في كتاب "الاقتصاد" لزنوفون: "جميل أن ترى الأحذية مرتبة في صف حسب أنواعها، وجميل أن ترى الثياب والأغطية مقسمة حسب منافعها، وجميل أيضاً أن ترى أواني الطبخ مرتبة بذوق وتنسيق، وإن سخر من ذلك الثرثارون المتفيهقون. أجل إن الأشياء جميعها بلا استثناء يزداد جمالها إذا نُسقت وصُفت بانتظام. فهذه الأواني كلها تبدو حينئذ كأنها مجموعة متناسقة يكمل بعضها البعض. ومركزها المتكون منها جميعاً يخلق فيها جمالاً يزيده بُعد القطع الأخرى من المجموعة.
هذه الفقرة التي كتبها قائد حربي تكشف عن مدى إحساس اليونان بالجمال، وعن بساطة هذا الإحساس وقوته. وهذا الإحساس بأهمية الشكل والتناسق، وبالدقة والوضوح، وبالتناسب والنظام، هو العامل الأساسي في الثقافة اليونانية، وتراه واضحاً في شكل كل وعاء ومزهرية ونقشهما، وفي كل تمثال وصورة، وكل معبد وقبر، وكل قصيدة ومسرحية، وفي كل مؤلف يوناني في العلم والفلسفة. إن الفن اليوناني هو العقل مجسماً واضحاً، والتصوير اليوناني هو منطق الخطوط، والنحت اليوناني هو عبادة التناسب، والعمارة اليونانية هي الهندسة الرخامية. ليس في الفن البركليزي مغالاة في العواطف، ولا شذوذ في الشكل أو محاولة تهدف إلى التجديد عن طريق الغريب غير المألوف (1)، وليس الغرض الذي يرمي إليه هو تمثيل ما في الحقائق الواقعية من الخلط وعدم التناسق، بل الغرض من هذا الفن هو الاستحواز على جوهر الأشياء الذي ينيرها، وتصوير إمكانيات الناس المثالية. ولقد استحوز السعي للحصول على الثراء والجمال والمعرفة على عقول الأثينيين فشغلهم عن التفكير في التقي والصلاح، وفي ذلك يقول أحد المدعوين إلى وليمة عند زنوفون: "قسماً بالآلهة جميعهم أني لو أعطيت كل ما لملك الفرس من سلطان لفضلت عليه الجمال" (3).
ولم يكن اليوناني، مهما تكن الصورة التي يرسمها له الروائيون في العصور التي هي أقل من عصره رجولة، عابداً مخنثاً للجمال، أو إنساناً يستخفه الطرب ويتغنى بأسرار الفن حباً في الفن، بل كان يُخضِع الفن في فكره للحياة، ويفكر في الحياة على أنها أعظم الفنون على الإطلاق. وكان ذا نزعة نفعية تميل به عن الجمال الذي لا نفع فيه، وكان النافع والجميل والطيب مرتبطة كلها في تفكيره ارتباطها في فلسفة سقراط (2) وكان يرى أن الفن هو قبل كل شيء تجميل طرق الحياة ووسائلها. فكان يتطلب أن تكون آنيته ومصابيحه، وصناديقه ونضده، وسرره وكراسيه نافعة وجميلة معاً، وألا تبلغ من الرشاقة والجمال حداً يفقدها صلابتها. وكان وضوح "إدراكه للدولة" يوحد بينه وبين قوة المدينة وعظمتها، فاستخدم من ثم آلاف الفنانين لتجميل أماكنها العامة، وتعظيم أعيادها، وإحياء تاريخها. وأهم من هذا كله أنه كان يحرص على أن يكرم آلهته، ويستجلب عطفهم ورضاهم، ويعبر عن شكره لهم لما وهبوه من حياة أو نصر. وكان يهدي إليهم النذور من الصور والتماثيل، ويهب الهياكل الشيء الكثير من ماله، ويستأجر الفنانين لينحتوا صور آلهته أو موتاه في الحجارة. ومن أجل هذا لم ينشأ الفن اليوناني ليوضع في المتاحف فيتردد عليها الناس ليتأملوه في اللحظات القليلة التي يشعرون فيها بالرغبة في إشباع حاسة الجمال، ولكنه نشأ لكي يخدم مصالح الناس ومشروعاتهم الحقيقية. ولم يكن ما صاغه من تماثيل لأبلو قطعاً متينة من الرخام تُصَفّ في معرض للفن، بل كانت صوراً تمثل أرباباً محبوبة، ولم تكن المعابد أماكن يعجب بها الزائرون، بل كانت مواطن لهذه الأرباب الحية، ولم يكن الفنان في المجتمع الأثيني ناسكاً يعتزل الناس مفلساً عاكفاً في مرسمه، يعبر عما في نفسه بلغة لا يفهمها المواطن العادي، بل كان في حقيقة أمره صانعاً ماهراً، يشتغل مع عمال من جميع الدرجات بعمل عام يفهمه جميع الناس. وقد جمعت أثينة من جميع أنحاء اليونان طائفة من الفنانين، ومن الفلاسفة والشعراء، أكبر مما جمعته أية مدينة أخرى في العالم إذا استثنينا رومة في عهد النهضة. وكان هؤلاء الناس يتنافسون أشد التنافس ويتعاونون فيما بينهم في ظل حكم مستنير، وبفضل هذين التنافس والتعاون حققوا إلى حد كبير أحلام بركليز.
والفن يبدأ في المنزل وبشخص الفنان. فالناس يصورون أنفسهم قبل أن يصوروا شيئاً آخر، ويزينون أجسامهم قبل أن يزينوا بيوتهم. فالحلي، كأدهان الزينة، قديمة العهد قدم التاريخ نفسه. ولقد برع اليوناني في قطع الجواهر ونقشها، وكان يستخدم في هذا العمل آلات بسيطة من البرونز، كالمثاقب البسيطة والأنبوبية، وحجر الجلخ، ومادة للصقل مكونة من (الصنفرة) والزيت (5). ولكن عمله مع هذا كان يبلغ من الدقة والإتقان درجة يحتاج إنجاز دقائقها، في أكبر الظن، إلى منظار كبير بلا ريب لتتبع هذه الدقائق (6). ولم تكن النقود على درجة كبيرة من الجمال في أثينة حيث كانت صورة البومة الكئيبة هي التي تنقش على معظم النقود.
وكانت إليس صاحبة الزعامة على جميع مدن اليونان الأصلية في هذا الميدان، ثم أصدرت سرقوسة في أواخر القرن الخامس قطعة ذات عشر درخمات لم تفقها قط قطعة أخرى في جمالها الفني. وقد احتفظ فنانو كلسيس بزعامة المدن اليونانية في النقش على المعادن، وكانت كل مدينة في حوض البحر الأبيض المتوسط تعمل للحصول على أدواتها الحديدية، والنحاسية، والفضية. وكانت المرايا اليونانية أبعث للسرور مما تستطيعه معظم المرايا بطبيعتها، ذلك أن الإنسان إن لم يكن في وسعه أن يرى خياله واضحاً كل الوضوح في سطح من البرونز المصقول، فإن المرايا نفسها كانت على أشكال مختلفة جذابة، وكثيراً ما كانت منقوشة نقشاً متقناً بديعاً، وكانت تحملها تماثيل الأبطال، أو النساء الحِسان، أو الآلهة.
وظل الفخرانيون يمارسون صنع الأشكال ويتبعون الأساليب التي كانت لديهم في القرن السادس محتفظين بهزلهم ومنافساتهم التقليدية. وكانوا أحياناً ينقشون على الآنية قبل إحراقها كلمة حب يوجهونها إلى غلام، وقد جرى فدياس نفسه على هذه العادة حين حفر على إصبع الصورة التي صنعها لزيوس: "إن بنتاركس جميل". وفي النصف الأول من القرن الخامس وصل طراز الصور الحمراء ذروته في مزهرية أخيل وبنثيسليا، وكأس إيسوب والثعلب المحفوظ في متحف الفاتيكان، وصورة أرفيوس بين التراقيين المحفوظة في متحف برلين. وأجمل من هذه كلها قوارير الدهن البيضاء التي صنعت في منتصف ذلك القرن. وكانت هذه القوارير الرفيعة تصنع للموتى خاصةً وتدفن معهم عادةً، أو تلقى فوق كومة الحطب التي تحرق عليها أجسامهم حتى يمتزج ما فيها من الزيت المعطر بلهب الحطب. وحاول ناقشو المزهريات أن يكونوا مستقلين فرديين في عملهم، وكانوا أحياناً ينقشون على الآنية قبل إحراقها موضوعات لو رآها فنانو العصر القديم المحافظون لأثارت دهشتهم. من ذلك أن مزهرية رسمت عليها صورة شبان يعانقون بعض عشيقاتهم بلا حياء، ورسم على مزهرية أخرى رجال يتقايئون وهم خارجون من وليمة، وعلى مزهريات غير هذه وتلك صور تمثل كل ما يستطاع عمله في شئون التربية الجنسية (8). وقد ترك صناع المزهريات في عصر بركليز - بريجوس Brygys. وسوتاديز، وميدياس - الأساطير القديمة واختاروا لهم مناظر من حياة الناس في عصرهم، وأكثر ما كانوا يسرون منه حركات النساء الرشيقة، ولعب الأطفال الطبيعي. وكانوا أصدق في رسمهم من سابقيهم: فكانوا يظهرون من الجسم منظره الجانبي أو يظهرون ثلاثة أرباع منظره الكامل، وكانوا يبينون الضوء والظل باستعمال محلول للطلاء الزجاجي خفيف أو غليظ، ويرسمون الصور بحيث تبين الخطوط الخارجية والعمق وثنايا أثواب السيدات. وكانت كورنثة وجيلا الصقلية مركزين لطلاء المزهريات الدقيقة التي كانت تصنع في ذلك العهد، ولكن أحداً لم يكن يشك في تفوق الأثينيين على كل من عداهم في هذه الناحية. ولم يكن الذي انتزع السيادة من فخراني السرمكس (حي الفخرانيين في ضواحي أثينة) هو منافسة غيرهم من الفخرانيين، بل كان قيام فن النقش المنافس لفنهم هذا. وحاول رسامو المزهريات أن يردوا هذا الهجوم بتقليد موضوعات النقاشين على الجدران وطرزهم، ولكن أذواق العصر لم تكن معهم، وأخذ فن الفخراني يتحول شيئاً فشيئاً في خلال القرن الرابع من فن جميل إلى صناعة تسد حاجة الناس.
نشأة فن التصوير
اجتاز تاريخ التصوير اليوناني خمس مراحل، ففي القرن السادس كان معظمه يهدف إلى تزيين الخزف وبخاصة المزهريات، وفي القرن الخامس كان أهم ما يعنى به العمارة وبخاصة طلاء المباني العامة والتماثيل بالألوان المختلفة، وفي القرن الرابع كان يحوم حول المنازل والأفراد فيزين المساكن ويرسم الصور، وفي العصر الذي اصطبغت فيه البلاد الخارجية بالصبغة اليونانية كان معظمه فردياً يخرج صوراً تباع لمن يرغب فيها من الأفراد. وقد بدأ فن التصوير اليوناني حين تفرع من الرسم العادي وبقي إلى آخر مراحله رسماً وتخطيطاً في أساسه وجوهره، وقد استخدم في تطوره ثلاث طرق: طريقة المظلمات أو التصوير على الجص الطري، وطريقة الطلاء المائي أو التصوير على الأقمشة أو الألواح المبللة بألوان ممزوجة بزلال البيض، وطريقة تثبيت الرسوم بالحرارة وذلك بمزج الألوان بالشمع المذاب، وكانت هذه الطريقة الأخيرة أقرب ما وصل إليه الأقدمون إلى طريقة التصوير بالزيت. ويؤكد لنا بلني - وهو الذي لا يقل أحياناً عن هيرودوت رغبة في تصديق كل ما يسمع - أن فن التصوير قد تقدم في القرن الثامن تقدماً جعل كندولس Candaules ملك ليديه يبتاع صورة من صنع بولاركس Bularchus بمثل وزنها ذهباً (9). لكن بداية كل الأشياء غامضة. وفي وسعنا أن ندرك ما كان لهذا الفن من الشهرة في بلاد اليونان إذا علمنا أن بلني قد خصه من صفحاته بأكثر مما خص به النحت. ويبدو أن الرسوم الجيدة التي أنتجها عصر اليونان الذهبي كانت موضع النقاش من النقاد وموضع الإجلال من الشعب وأنها لم تكن تقل في هذين عن أعظم نماذج فنّي العمارة والنحت (10).
ولم يكن بولجنوتس Polygnotus الثاسوسي أقل شهرةً في بلاد اليونان في القرن الخامس من إنكتينس Inctinus أو فدياس. ونجد هذا المصور في أثينة في عام 472، ولعل سيمون الثري هو الذي توسط له فكلف بتزيين عدة مبانٍ عامة ورسم صورٍ على جدرانها (1). وقد صور في ذلك العهد على الاستوا Stoa، التي سميت من ذلك الحين البوسيلي Boecile أو الرواق المصور، والتي اشتق منها بعد ثلاثة قرون اسم فلسفة زينون (2)، صور عليها منظر نهب طروادة - ولم يكن ذلك المنظر منظر المذبحة الرهيبة التي حدثت في ليلة النصر، بل كان منظر السكون الرهيب الذي ساد المدينة في صباح اليوم الثاني، والمنتصرون قد هدأ من سورتهم ما يحيط بهم من الخراب، والمغلوبون ملقون على الأرض هادئين. وقد رسم على هيكل الديسكوريين صورة اغتصاب اللوسيبيديات. وكان تصويره النساء في أثواب شفافة سابقة احتذاها من جاء بعده من الفنانين. ولم تثر هذه البدعة ثائرة المجلس الأمفكتيوني، بل إن هذا المجلس دعا بولجنوتس إلى دلفي حيث صور في اللسكي Lesche أو ردهة الاستراحة صورة أوديسيوس في الجحيم وصورة أخرى لانتهاب طروادة. وكانت هذه الصور كلها مظلمات كبيرة خالية من المناظر الطبيعية أو الخلفيات، مزدحمة بصور الأشخاص إلى حد كان لا بد معه أن يستعان بعدد كبير من المساعدين ليرسموا بالألوان ما بين الخطوط الخارجية التي خططها المصور بعناية فائقة. أما الصورة الجدارية التي تمثل طروادة فكان فيها بحارة متلوس على أهبة الإبحار عائدين إلى بلاد اليونان، وكانت هلن تجلس في وسط الملاحين، ومعها كثيرات غيرها من النساء ولكنهن كن جميعاً يبهرهن جمالها الفتان، ووقفت أندرمكي في إحدى الزوايا محتضنة استيانكس, ووقف في زاوية أخرى غلام صغير يتعلق بمذبح من شدة الخوف, وعلى بعد من البحارة كان جواد يتمرغ على رمال الشاطئ (12). في هذه الصورة كانت مسرحية "الطرواديات" قبل أن يكتبها يوربديز بخمسين عاماً. وأبى بولجنوتس أن يتقاضى أجراً على عمله هذا, ووهب الصور لأثينة ودلفي كرماً منه وثقة بقدرته ومواهبه. وأعجبت بلاد اليونان كلها بعمله, ومنحته أثينة مواطنيتها. وقرر المجلس الأمفكتيوني أن يحل ضيفاً على حساب الدولة في كل مدينة يونانية ينزل بها (كما كان يريد سقراط لنفسه) , ولم يبق من آثاره كلها إلا قطعة صغيرة من اللون على جدار في دلفي تذكرنا بأن الخلود الفني ليس إلا لحظة عابرة في حساب الأزمنة الجيولوجية.
وفي عام 470 ق. م أقامت دلفي وكورنثة مباريات دورية في التصوير تعقد كل أربع سنين لتكون جزءاً من الألعاب البيئية والبرزخية. وتقدم الفن وقتئذ تقدماً أمكن بانينس شقيق فدياس (أو ابن أخيه) أن يرسم صوراً لقواد الاثينيين والفرس في واقعة مرثون يمكن تمييز أشخاصهم فيها. ولكنه كان حتى ذلك الوقت لا يزال يضع الأشخاص المصورين جميعهم في مستوى واحد ويجعل طول قامتهم كلهم واحداً, ولم يكن يمثل البعد بتصغير حجم الأشخاص شيئاً فشيئاً وبتنظيم الضوء والظل, بل كان يمثله بالخطوط المنحنية التي تمثل الأرض الواقفين عليها. ثم تقدم الفن في عام 440 خطوة هامة. ذلك أن أجاثاركس suhcrahtagA، الذي استخدمه إسكلس وسفكليز ليرسم مناظر مسرحياتهما تبين أن ثمة علاقة بين الضوء والظل من جهة والبعد من جهة أخرى، وكتب رسالةً في الفن المنظور بوصفه وسيلة لإيجاد الخداع المسرحي. وعالج أنكساغوراس ودمقريطس الفكرة من الناحية العلمية، فلما أوشك القرن على نهايته اشتهر أبلودورس Apollodorus الأثيني باسم اسكياجرافوس Skiagraphos أي مصور الظلال، لأنه رسم صوراً استخدم فيها الضوء والظل، ولذلك قال عنه بلني إنه كان "أول من رسم الأشياء كما تبدو حقاً" (14).
على أن المصورين اليونان لم يفيدوا من هذه الاستكشافات فائدة تامة، فكما أن صولون كان يسخر من الفن المسرحي ويعتقد أنه خداع، فكذلك يبدو أن الفنانين كانوا يرون أنه لا يليق بهم وأنه يحط من كرامتهم أن يظهروا السطح المستوي بمظهر الجسم ذي الثلاثة الأبعاد. ولكن فن المنظور وتوزيع الضوء والظل هما اللذان رفعا من شأن زكسيس Zeuxis تلميذ أبلودورس وجعلاه أعظم المصورين في القرن الخامس. وقد قدم زكسيس من هرقلية (بنتيكا Pontica) إلى أثينة حوالي 424 ق. م، وعد مجيئه إليها حادثاً تاريخياً خطيراً رغم ضجيج الحرب القائمة وقتئذ. وكان "شخصاً" جريئاً مغروراً بنفسه، يصور تصوير المغرورين. وكان في الألعاب الأولمبية يتبختر في قباء ذي مربعات طرز عليها اسمه بالذهب، وكان في مقدوره أن يكون له مثل هذا القباء لأنه كان وقتئذ قد جمع "من عمله ثروةً طائلة" (15). ولكنه كان يعمل بعناية الفنان العظيم وإخلاصه، ولما أن أخذ اجاثاركس Agatharchus يزدهي بسرعته في التصوير رد عليه زكسيس في هدوء: "إني أحتاج إلى وقت طويل". وتخلى عن عدد كبير من روائع صوره بحجة أنها لا تقدر بثمن مهما عظم، وكان الملوك يعدون أنفسهم سعداء حين يحصلون عليها، ولم تكن المدن أقل حرصاً على اقتنائها من الملوك.
ولم يكن له في جيله إلا منافس واحد هو برهسيوس Parrhassius الإفسوسي الذي لا يكاد يقل عنه في عظمته، ولم يكن بالتأكيد أقل منه عجباً بنفسه. وكان برهسيوس يضع على رأسه تاجاً من الذهب ويلقب نفسه "أمير المصورين"، ويقول أنه أوصل الفن إلى درجة الكمال (17). وكان يعمل هذا كله في مرح ومزاح ويغني وهو يرسم (18). وتقول الشائعات أنه اشترى عبداً وعذبه لكي يدرس عليه ما يبدو على وجهه من مظاهر الألم فيستطيع أن يرسم صورة بروميثيوس (19). وما أكثر القصص التي يتناقلها الناس عن الفنانين. وكان برهسيوس واقعياً مثل زكسيس. وقد بلغ من الصدق صورة العداء وإتقانها أن الناظرين إليها كانوا يتوقعون أن يروا العرق يتصبب من الصورة، وأن يروا العداء نفسه يسقط من فرط الإعياء. ومن صوره صورة كبرى على جدار، هي صورة أهل أثينة يمثلهم فيها قساة ورحماء، متكبرين وأذلاء، متوحشين وجبناء، متقلبين وكرماء، ويبلغ من أمانته في هذه الصورة أن الجمهور الأثيني - على ما تقول الرواية - أدرك لأول مرة ما في طباعه من تعقيد وتناقض (20).
وأدى التنافس الشديد بينه وبين زكسيس Zeuxis إلى اشتراك الرجلين في مباراة عامة. ذلك أن زكسيس رسم بعض عناقيد العنب رسماً بلغ من إتقانه ومشابهته للعنب الطبيعي أن الطيور حاولت أكله. وأعجب المحكمون أشد الإعجاب بهذه الصورة، ووثق زكسيس من الفوز وثوقاً جعله يأمر برهسيوس أن يزيح الستار الذي يخفي وراءه الصورة التي رسمها الفنان الإفسوسي، فلما تبين أن الستار جزء من الصورة، وأن زكسيس نفسه قد خدع اعترف في غير حقد بهزيمته. ولم يفقد زكسيس بهذا شيئاً من شهرته، فقد اتفق في كرتونا على أن يرسم صورة لهلن توضع في معبد هيرا اللسينية Lacinian Hera، على شريطة أن تقف أمامه عاريات أجمل خمس نساء في المدينة، ليختار من كل واحدة منهن أجمل ما فيها، ثم يجمع مما أخذه منهن صورة ثانية لربة الجمال (21). وحييت بنلبي بفضل تصويره حياة جديدة، ولكن أكثر ما كان يعجب به من صُوَره صورة رياضي كتب تحتها يقول إن الناس يجدون نقده أيسر عليهم من مجاراته. وكانت بلاد اليونان كلها تسر من غروره وتتحدث عنه بقدر ما تتحدث عن أي كاتب مسرحي، أو حاكم سياسي، أو قائد حربي. ولم يكن أحد أوسع منه شهرةً إلا المتبارون لنيل الجوائز الرياضية.
مصادر و المراجع :
١- قصة الحضارة
المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)
تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر
ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين
الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس
عام النشر: 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون
تعليقات (0)