1 - أساليبهم
على أن التصوير بقى رغم هذا التفوق غريباً على العبقرية اليونانية التي كانت تحب الشكل أكثر مما تحب اللون، والتي جعلت تصوير العصر الذهبي (إذا حكمنا عليه بأقوال الناس فيه) دراسة في الجماد للخطوط والتصميم لا إدراكاً حسياً لألوان الحياة. أما ما كان يولع به الرجل اليوناني ويسر منه فهو منتجات النحت، ولذلك كان يملأ بيته، وهياكله، وقبوره، بتماثيل صغيرة من الطين المحروق، ويعبد آلهته بتصويرها في الحجارة، ويقيم على قبور موتاه ألواحاً منقوشة تعد من أكثر منتجات الفن اليوناني وأوقعها في النفس. وكان العمال الذين ينقشون هذه الألواح من الصناع غير ذوي الحذق، ينقشون ما حفظوه عن ظهر قلب، ويكررون ألف مرة الموضوع المألوف، موضوع فراق الأحياء للأموات فراقاً هادئاً وأيدي الأحياء مقبوضة. غير أننا يجدر بنا أن نذكر أن في هذا الموضوع من النبل ما يحتمل التكرار. لأنه يظهر ما اتصف به خلائق العصر الذهبي من ضبط للنفس في أحسن صوره، ويعلم النفس المرهفة الحس أن الشعور يبلغ أقصى قوته حين يعبر عن نفسه بصوت هادئ منخفض. وتظهر هذه الألواح الموتى, أكثر ما تظهرهم, يعملون عملاً من أعمال الحياة الدنيا - كطفل يلعب بالطوق, وبنت تحمل إبريقاً, ومحارب يعجب بعدته الحربية, وفتاة تفخر بحليها, وغلام يقرأ كتابه وكلبه راقد تحت مقعده راضٍ بموضعه ولكنه يرقب سيده. وتظهر هذه الألواح الموت مظهر الحادث الطبيعي، وهو لذلك عندهم شيء يمكن العفو عنه، وعدم الحقد عليه.
وأكثر من هذه الألواح تعقيداً ما خلفه هذا العصر من نقوش محفورة هي أرقى ما وجد من نوعها، ويمثل أحدها أرفيوس يلقي نظرة وداع طويلة على يورديس Eurydice التي استردها هرمس إلى العالم السفلي (22). وفي نقشٍ ثانٍ نرى دمتر تعطي تربتولموس الحية الذهبية التي يستحدث بها فن الزراعة في بلاد اليونان، ولا يزال بعض اللون في هذا النقش لاصقاً في الحجر، يوحي بما كان عليه النقش اليوناني في العصر الذهبي من روعة وصدق تعبير (23). وأجمل من هذين النقشين مولد أفرديتي الذي حفره على أحد أوجه "عرش لدفيزي" (1) حفار غير معروف لعله تدرب على فنه في أيونيا. وترى فيه إلهتان ترفعان أفرديتي من البحر، وثوبها الرقيق المبلل ملتصق بجسمها، يظهر كل ما فيه من روعة الأنوثة الناضجة. ورأسها شبيه بعض الشبه برؤوس الآسيويات، ولكن أثواب من يرافقنها من الإلهات ووقفتهن الرشيقة الجميلة عليهما طابع العين واليد اليونانيتين الحساستين. وعلى جانب آخر من جوانب العرش نقشت فتاة عارية تعزف على القيثارة المزدوجة، وعلى جانب ثالث امرأة تعد مصباحها لتضيء به ظلمة المساء، ولعل وجه هذه المرأة وأثوابها أقرب إلى الكمال مما على الجانب الرئيسي للعرش.
ويدهش الإنسان حين يرى رقي مَثالي القرن الخامس عن أسلافهم. ففي هذا القرن لم يعد المثالون يظهرون المنظر الأمامي، وفيه يصبح فن المنظور عظيم الأثر إذ يمثل الأشياء كأنها بارزة نحو الناظر إليها وتحل فيه الحركة محل السكون، والحياة محل الجمود. والحق أن المَثال اليوناني حين يخرج عن العرف القديم ويصور الإنسان يتحرك إنما يحدث ثورة في الفن. ذلك أننا قلما نعثر قبل ذلك العهد، في مصر أو في الشرق الأدنى أو في بلاد اليونان نفسها قبل مرثون، على مَثال ينحت إنساناً يتحرك. وكان من أهم أسباب هذا التطور ما امتازت به الحياة اليونانية بعد سلاميس من حيوية جديدة ونشاط لم يكن لها من قبل، ولكن أكبر الفضل فيه إنما يرجع إلى دراسة الفنان وتلاميذه للتشريح الحركي في صبر وأناة أجيالاً طوالاً.
انظر إلى سؤال سقراط المَثال الفيلسوف: "أليس الذي يجعلك تظهر تماثيلك كأنها أشخاص حية هو أنك تنحتها على مثال الكائنات الحية نفسها؟ ... وإذ كانت مواقفنا المختلفة تؤثر في بعض عضلات أجسامنا فيرتفع بعضها وينخفض البعض الآخر، وبذلك ينقبض بعضها وينبسط البعض، وتلتوي هذه وترتخي تلك، إذ كان هذا يحدث أليس تعبيرك عن هذه الجهود هو الذي يجعلك تظهر ما تنحته صادق التعبير عن الحقيقة" (24).
لقد كان المَثال في عهد بركليز عظيم الاهتمام بكل جارحة من جوارح الجسم لا تقل عنايته بالبطن من عنايته بالوجه، يعبر أقل تعبير عن حركات اللحم المرن على الهيكل العظمي المتحرك، وعن انتفاخ العضلات، والأوتار، والأوعية، وعما في تركيب اليدين والأذنين والقدمين من عجائب تجل عن الحصر، ويفتتن بما يلقى من الصعاب في تمثيل أطراف الجسم. ولم يكن في غالب الأحيان يستخدم نماذج حية تقف أمامه في مَنْحَته، بل كان يكتفي في أكثر الأوقات بملاحظة الرجال عارين نشطين في مدارس الألعاب وميادينها، وملاحظة النساء يمشين في وقار في المواكب الدينية أو ينهمكن إنهماكاً طبيعياً في أعمالهن المنزلية. ولهذا السبب، لا لحيائه، نراه يركز دراسته للتشريح على الرجال دون النساء، ونراه في تصويره للنساء يستبدل بدقة التشريح الجسمي تمثيل دقائق الثياب أحسن تمثيل - وإن كان يجعل الملابس شفافة إلى أبعد حد تمكنه منه جرأته. وكأن هذا الفنان قد مل رؤية أنصاف الثياب السفلى الجامدة التي يشاهدها على تماثيل مصر واليونان في عهدهم الأقدم، فتاقت نفسه إلى إظهار ملابس النساء يلعب بها النسيم لأنه في هذا الوضع أيضاً قد أدرك خصائص الحركة والحياة.
وهو لا يكاد يترك أية مادة تقع في يده ويستطيع استخدامها في فنه إلا استخدامها - من خشب، وعاج، وطين محروق، وحجر جيري، ورخام، وفضة، وذهب. وهو يستخدم أحياناً الذهب لصنع الثياب، والعاج لصنع الجسم، كما فعل فدياس في تماثيله الذهبية العاجية. وكان البرونز هو المادة المحببة لمَثال البلوبونيز، لأنه يعجب بألوانها القاتمة التي تصلح كل الصلاحية لتمثيل أجسام الرجال الذين لوحتهم الشمس وهم عراة، وكان لجهله بجشع الإنسان يظن أنه أبقى على الدهر من الحجارة. أما في أيونيا وأتكا فكان يفضل الرخام، لأن ما يلقاه فيه من صعوبة يستثير همته، ولأن ما فيه من صلابة يمكنه من أن ينحته بإزميله وهو آمن، وكأن نعومته ونصف شفافيته قد خلقا لتمثيل لون النساء الوردي ورقة أجسامهن. وقد كشف المَثال بقرب أثينة رخام جبل بنتلكس Pentelicus، ولاحظ أن ما فيه من حديد ينضجه طول الزمان والعوامل الجوية فيبدو للرائي وكأنه عرق من الذهب يتلألأ في وسط الحجر، وأفلح بفضل ما وهب من الصبر، وهو نصف العبقرية، في أن ينحت على مهل من المحاجر تماثيل حية. ومَثال القرن الخامس حين يعمل في البرونز يستخدم طريقة الصب الأجوف بالعملية المعروفة بعملية الشمع المفقود Cire Perdu، وذلك بصنع نماذج من الجبس أو الصلصال للتمثال الذي يريد صبه، ثم يغطيه بطبقة رقيقة من الشمع، ويغطى هذا كله بعدئذ بقالب من الجبس أو الصلصال مسنن في عدة مواضع، ويضعه في تنور تذيب حرارته الشمع فيخرج من الثقوب، ثم يصب ذوب البرونز في القالب من أعلاه حتى يملأ المعدن جميع المسافة التي كان يشغلها الشمع قبل أن يذوب. ثم يبرد الشكل كله ويزيل عنه القالب الخارجي، ويبرده ويصقله، ثم يطلى البرونز بالك أو يلونه أو يذهبه حتى يتخذ صورته النهائية. فإذ فضل الرخام بدأ بالكتلة غير المشكلة، غير مستعين بأي نظام من نظم التوجيه (1)، ويعمل من غير قواعد موضوعة، مسترشداً في أكثر الأحيان بعينه لا بالآلات (25)، ويزيل من الحجر بضرباته المتتالية ما لا حاجة له به، ويوالي هذه الضربات حتى تتشكل من الحجر الفكرة الكاملة التي صورها لنفسه في ذهنه، وحتى تصبح المادة غير المنتظمة صورة وشكلاً على حد قول أرسطاطاليس.
أما موضوعاته فتختلف من الآلهة إلى الحيوانات، ولكن أياً كان الموضوع، فإنه يجب أن يكون من حيث الجسم خليقاً بالإعجاب، ولم يكن الضعفاء أو العقليون، أو الأصناف الشاذة غير السوية، أو العجائز أو الشيوخ، لم يكن هؤلاء يجدون لهم مكاناً عنده، وكان يجيد نحت تماثيل الخيل، ولكنه لم يكن شديد العناية بغيرها من الحيوان، وكان أكثر إجادةً في نحت تماثيل النساء، ومن آياته الفنية التي لا تمثل نساء بعينهن كتمثال الفتاة المستغرقة في أفكارها والممسكة بثوبها فوق ثديها المحفوظ بمتحف أثينة، ما يبلغ درجة من الجمال الهادئ تعجز اللغة عن وصفه. وخير ما يجيده على الإطلاق تماثيل اللاعبين الرياضيين، لأنه يعجب بهؤلاء إعجاباً لا حد له، ولأنه لم يكن يحول بينه وبين مراقبتهم حائل. وكنت تراه من حين إلى حين يبالغ في إظهار قوتهم، ويصور على بطونهم عضلات لا وجود لها عليها، ولكنه كان يسعه رغم هذا الخطأ أن يصب تماثيل من البرونز كالتمثال الذي وجد في البحر قرب أنتيسثرا Anticythera والذي يقال أنه تمثال إفبوس Ephebos تارة وتارة يقال أنه تمثال برسيوس Perseus الذي أمسك بيده في وقت ما رأس مدوزا Medusa وشعره المكون من الأفاعي. وكان في بعض الأحيان يصوره شاباً أو فتاة منهمكة في عمل بسيط تقوم به من تلقاء نفسها، كتمثال الغلام الذي يخرج شوكة من قدمه (1)، غير أن أساطير بلاده كانت أهم ما يوحي إليه بموضوعات فنه. ولم يكن ذلك النزاع الرهيب الذي قام بين الفلسفة والدين، والذي يبدو في تفكير القرن الخامس كله، نقول لم يكن ذلك النزاع قد بدا على الآثار بعد، فهنا كانت الآلهة لا تزال صاحبة السيادة العليا، وحتى لو كانت قد أخذت في الاضمحلال فقد كانت تنتقل أنبل انتقال وأعظمه إلى شعر الفن. ترى هل كان المَثال الذي يشكل في البرونز زيوس أرتمزيوم القوي يعتقد بحق أنه يصور شريعة العالم (2)؟ وهل كان الفنان الذي ينحت تمثال ديونيسس الظريف الحزين المحفوظ في متحف دلفي، هل كان هذا الفنان يعرف في أعماق إدراكه الذي لا تعبر عنه الألفاظ أن ديونيسس قد طعنته سهام الفلسفة طعنةً نجلاء، وأن الملامح المتواترة للمسيح خليفة ديونيسس قد وجدت في هذا الرأس من قبل أن يولد المسيح.
2 - المدارس
إذا كان فن النحت اليوناني قد أخرج هذا القدر كله في القرن الخامس، فقد كان من أسباب ذلك أن كل مَثال كان ينتمي إلى مدرسة بعينها، وأن له مكاناً في ثبت طويل من الأساتذة والطلاب، يتوارثون حذق فنهم هذا، ويقاومون تطرف الفردية المستقلة، ويشجعون مواهبهم الخاصة، ويسيطرون عليها ويهذبونها بالتضلع في فنون الماضي وما أخرجته من بدائع، وتشكيلها بتفاعل هذه الأعمال مع القواعد الجديدة حتى أصبحت فناً أعظم مما تبتدعه في العادة العبقرية المنعزلة المتحررة من القواعد والقوانين. إن الفنانين العظام يكونون في الغالب نتاجاً لتسامي التقاليد الماضية وارتقائها إلى ذروتها أكثر مما يكونون نتيجة للخروج عليها. ومع أن الثائرين على التقاليد الماضية يكونون بطبيعتهم منشقين على تاريخ الفن الطبيعي، فإن أسلوبهم الجديد لا ينتج شخصيات فذة سامية إلا بعد أن تثبته الوراثة ويطهره الزمن.
وقد قامت بهذا العمل خمس مدارس في بلاد اليونان في عهد بركليز: مدارس رجيوم، وسكيون، وأرجوس، وإيجينا، وأتكا. وفي عام 496 أو حواليه استقر في رجيوم فيثاغورس آخر من ساموس وصب تمثالاً لفلكتيتس أذاع شهرته في بلاد البحر الأبيض المتوسط. وقد أظهر في وجوه تماثيله من علائم الانفعال، والألم، والشيخوخة ما هز مشاعر المَثالين اليونان بأجمعهم حتى قرر المَثالون في العصر الذي انتشرت فيه الحضارة اليونانية خارج بلادهم الأصلية أن يحاكوه في تماثيلهم. وفي سكيون واصل كناكس Canackus وأخوه أرسطكليز Aristocles العمل الذي بدأه قبلهما بمائة عام دبونس Dipoenus وسليس Scllis من فناني كريت. ورفع كلوون Calloln وأناتس Onatas مقام إيجينيا بين المدن اليونانية بما أظهرا من حذق في صب البرونز، ولعلهما هما اللذان صنعا قواصر إيجينيا. وفي أرجوس نظم أجلداس مراحل انتقال فن النحت في مدرسته وبلغت ذروة مجدها على يد بليكليتس.
جاء بليكليتس من أرجوس وذاعت شهرته فيها حين وضع حوالي عام 422 تصميماً من الذهب والعاج لهيرا إلهة المدينة ليوضع في معبدها. وكان العصر الذي فيه يرى أنه لا يفوقه في دقته غير تماثيل فدياس الضخمة العاجية الذهبية (1).
واشترك في إفسس في مباراة مع فدياس، وكرسلاس Cresilas وفردمون Phradmon لصنع تمثال لامرأة محاربة يوضع في هيكل أرتميز. وعين الفنانون الأربعة قضاة للحكم في هذه المباراة. وتقول الرواية المتواترة إن كلاً منهم حكم بأن تمثاله خير التماثيل جميعها، وأن تمثال بليكليتس ثانيها، وبناءً على هذا الحكم منح الفنان السكيوني الجائزة (1). لكن بليكليتس كان يحب الرياضيين أكثر مما يحب النساء أو الآلهة، ولما أراد أن ينحت تمثاله الشهير لديادمنوس Diadumenos ( وهو الذي توجد أحسن نسخة منه في متحف أثينة) مَثل هذا الظافر في اللحظة التي كان يربط حول رأسه العصابة التي يضع القضاة فوقها إكليل الغار. ويرى الناظر إلى صدر التمثال وبطنه عضلات أكثر وأضخم مما يصدقه العقل، ولكن الجسم يرتكز ارتكازاً واضحاً على قدم واحدة، وملامح التمثال تعبر عما امتاز به العصر الذهبي من تناسق أصدق تعبير. لقد كان بليكليتس يهيم بهذا التناسق بل يكاد يعبده، وكان همه في حياته أن يضع قانوناً أو قاعدة لتحديد النسبة الصحيحة بين كل جزء وجزء في التمثال، فكان والحالة هذه هو فيثاغورس النحت، ينشد الرياضة القدسية في التناسب والشكل، وكان يظن أن أبعاد أي جزء من أجزاء الجسم الكامل يجب أن تتناسب تناسباً محدداً معروفاً مع أبعاد أي جزء آخر كالسبابة مثلاً. وكان قانون بليكليتس هذا يستدعي أن يكون الرأس مستديراً، والكتفان عريضتين، والجذع ممتلئاً قصيراً، والعجيزتان واسعتين، والساقان قصيرتين، وكل هذه تجعل التمثال مظهراً للقوة لا للرشاقة. وأولع الفنان بقانونه ولعاً حمله على أن يؤلف رسالة يشرحه فيها وأن يوضحه بتمثال من صنعه. ولعل هذا التمثال هو تمثال الدوريفوروس Doryphoros أو حامل الرمح الذي توجد نسخة رومانية منه في متحف نابلي. وفيه يرى مرة أخرى الرأس القصير العريض الجمجمة، والكتفان القويتان، والجذع القصير، والعضلات المتغضنة المسدولة على الحقو. وأجمل من هذا تمثال إفبوس Ephebos المحفوظ في المتحف البريطاني، وفيه تظهر أحاسيس الغلام كما تظهر عضلاته، ويبدو أنه منهمك في تفكير هادئ لطيف في شيء آخر غير قوته. وأضحت قواعد بليكليتس بفضل هذه التماثيل القانون الذي يتقيد به المَثالون في البلوبونيز، وقد تأثر به فدياس نفسه، وظلت له السيادة على النحاتين حتى قضى عليه بركسيتس وأحل محله ذلك القانون الآخر المناقض له والذي يجعل الجسم طويلاً، نحيلاً، رشيقاً، وقد بقى هذا القانون الأخير ظاهر الأثر في التماثيل الرومانية في أوربا المسيحية.
وكان ميرون Myron يمثل المرحلة الوسطى بين المدرستين البلوبونيزية والأتكية. وقد ولد هذا المَثال في إلوثيرا Eleuthera، وعاش في أثينة، ودرس وقتاً ما (كما يقول بلني (28)) مع أجلاداس Ageladas، فتعلم كيف يجمع بين الرجولة البلوبونيزية والرشاقة الأيونية. وكان ما أضافه إلى مدارس الفن جميعها هو الحركة: فهو لم ير اللاعب الرياضي كما يراه بليكليتس قبل المباراة أو بعدها، بل يراه في أثنائها، وقد حقق ما رآه في البرونز تحقيقاً فاق به كل مَثال آخر حاول تصوير جسم الرجل في أثناء العمل. وصب حوالي عام 470 أشهر تماثيل صنعها للاعبين وهي تماثيل رماة القرص ( Disocobolo) (1) . وفيها بلغت عجائب أجسام الرجال غايتها! فقد درس الجسم دراسة دقيقة في جميع حركات المفاصل، والأوتار، والعظام، التي يتطلبها القيام بعمل ما، وانحنت الساقان والذراعان وانحنى الجذع لكي تكسب الرمية أعظم قوتها، ولم يتلَوَ الوجه ويشوه بسبب ما يبذله الرامي من جهد، بل ظل منبسطاً، والرامي هادئ واثق من قدرته، وليس الرأس ثقيلاً أو وحشياً، بل هو رأس رجل من لحم ودم ورقة وتهذيب، في وسعه أن يؤلف الكتب إذا نزل إلى مستوى من يكتبونها. ولم تكن هذه الآية الفنية إلا عملاً واحداً من أعمال ميرون الكثيرة، وقد أعجب بها مواطنوه، ولكنهم أعجبوا أكثر من ذلك بتمثال أثينة ومرسياس (1) وتمثال لاداس. وتمثال أثينة هذا أجمل مما يتطلبه الغرض الذي صنع من أجله، فليس في مقدور أي إنسان ينظر إليه أن يظن أن هذه العذراء المحتشمة ترقب وهي هادئةً راضية صاحب الناي يسلخ. أما تمثال مرسياس فأشبه بتمثال لبرنارد شو أدركه الفنان في وضع معيب ولكنه مفصح بليغ. ويصور هذا التمثال عازف القيثارة وقد عزف عليها آخر مرة، وأدركه الموت ولكنه يأبى أن يموت من غير أن يتكلم. ولم يكن لاداس لاعباً رياضياً خارت قواه لأن النصر أنهك جسمه، بل إن ميرون قد صوره تصويراً بلغ من واقعيته أن صاح يوناني قديم حين رآه: "لقد صاغك لاداس من النحاس بالصورة التي كنت عليها في الحياة، تخرج روحك اللاهثة من صدرك مع أنفاسك، وأسبغ على جسمك كله حرصك على تاج النصر"، وقال اليونان عن عِجْلة ميرون إنها تستطيع أن تفعل كل شيء عدا الخوار (30). وأضافت المدرسة الأتيكية أو الأثينية إلى البلوبونيزيين وإلى ميرون ما تهبه النساء للرجال: جمالاً، ورقة، ورشاقة، وظرفاً، وكانت وهي تفعل هذا تحتفظ من عناصر الرجولة بالقوة. فقد وصلت إلى مستوى عال قد لا يصل إليه المَثالون مرة أخرى. وكان كلميس Calamis لا يزال وقتئذ محتفظاً بعض الشيء بطابعه العتيق، ولم يكن نسيوتيز Nesiotes وكريتيوس Critius وهما يصبان طائفة أخرى من تماثيل قتلة الطغاة قد تحررا من البساطة الجامدة التي كانت تسود تماثيل القرن السادس. وقد حذر لوشان الخطباء من أن يكون مسلكهم كمسلك هذه التماثيل العديمة الحياة. فلما أن نحت بيونيوس Paeonius من أهل مندي Mende المقدونية للمسينيين تمثال النصر بعد أن درس فن النحت في أثينة أظهر فيه من الرقة والرشاقة والجمال ما لم يظهره أحد غيره من الفنانين اليونان إلى عهد بركستيليز، وحتى بركستيليز نفسه لم يفقه في تمثيل طيات الثياب المنسدلة على الجسم أو في تمثيل نشوة هذه الحركة (1).
3 - فدياس
كان فدياس وأعوانه بين عامي 447، 438 منهمكين في نحت تماثيل البرتنون وحفر نقوشه. وكما كان أفلاطون كاتباً مسرحياً قبل أن يصير فيلسوفاً مسرحياً، كذلك كان فدياس في أول الأمر مصوراً، تتلمذ بعض الوقت على بولجنوتس. ويلوح أنه أخذ عنه أساليب التصميم والتأليف بين الوحدات المختلفة والجمع بين الأشكال لإحداث الأثر الكلي للصورة. ولعله أخذ عنه أيضاً ذلك "النمط العظيم" الذي جعله أعظم مَثال في بلاد اليونان بأجمعها. ولكنه لم يجد في التصوير ما يشبع كفايته لأنه كان في حاجة إلى أبعاد أوسع، فاتجه إلى النحت، ولعله درس فن أجلاداس في صب البرونز وظل يمارسه في صبر وأناة حتى برع في كل فرع من فروعه.
وكان حين فرغ من نحت تمثال أثينة بارثنون في عام 438 قد أصبح شيخاً طاعناً في السن، وشاهد ذلك أنه صور نفسه على درعه شيخاً أصلع طاف به طائف الحزن. ولم يكن أحد ينتظر منه أن ينحت بيديه مئات التماثيل التي امتلأ بها فضاء البارثنون، وإفريزه، وقواصره، وكان حسبه أن يشرف على جميع أبنية بركليز ويضع خطط ما يزينها من تماثيل، ثم يعهد إلى تلاميذه، وخاصةً إلى الكيمنيز، أن يقوموا هم بتنفيذها. على أنه هو نفسه قد نحت ثلاثة تماثيل لإلهة المدينة تقام في الأكربوليس. وقد كلفه بنحت واحد منها المستعمرون الأثينيون في لمنوس، وكان هذا التمثال من البرونز أكبر قليلاً من الحجم الطبيعي، وبلغ من دقته أن كان النقاد اليونان يعدون تمثال أثينة اللمنوسية أجمل تماثيل فدياس كلها بلا استثناء (1). وثاني هذه التمثيل تمثال أثينة يروماكوس، وهو تمثال برونزي ضخم يمثل الإلهة في صورة المدافعة الحربية عن المدينة. وقد أقيم بين البروبليا Propylaea والإركثيوم Erchtheum، وكان ارتفاعه هو وقاعدته سبعين قدماً، وكان دليلاً للملاحين وتحذيراً لأعداء المدينة (2). وأشهر هذه التماثيل الثلاثة تمثال أثينة بارثنوس ويبلغ ارتفاعه ثماني أقدام وثلاثين قدماً، وكان مقاماً في داخل البارثنون ويمثل أثينة العذراء إلهة الحكمة والعفة. وكان فدياس يريد أن ينحت هذا التمثال الأخير من الرخام، ولكن الشعب أبى إلا أن يكون من العاج والذهب. فاستخدم الفنان العاج للأجزاء الظاهرة من الجسم كما استخدم أربعين وزنة (2545 رطلاً) من الذهب لصنع الثياب (32)، ثم زينه بالمعادن الثمينة والنقوش المتقنة البديعة على الخوذة، والحذاءين، والدروع. وقد وضع هذا التمثال بحيث تقع أشعة الشمس مباشرة في يوم عيد أثينة على الثياب الجميلة وعلى وجه العذراء الشاحب بعد دخولها من أبواب المعبد العظيم (1).
ولم يكن إتمام هذا التمثال من أسباب سعادة فدياس، لأن بعض ما قدم له من الذهب والعاج لصنعه قد اختفى من مُحْتَرفه ولم تعرف أسباب اختفائه. وانتهز أعداء بركليز هذه الفرصة السانحة، فاتهموا فدياس بسرقة الذهب والعاج وأدانوه (2). ولكن أهل أولمبيا شفعوا له وأدوا الكفالة المطلوبة منه وقدرها أربعون؟ وزنة على شريطة أن يذهب إلى أولمبيا ويصنع فيها تمثالاً من الذهب والعاج لمعبد زيوس (34). وسرهم أن يقدموا له من العاج والذهب أكثر مما قدم له قبل. وبنوا له ولمساعديه مصنعاً خاصاً بجوار حرم الهيكل، وكلف أخوه بانينوس Panaenus أن يزين بالصور العرش الذي يجلس عليه التمثال وجدران الهيكل (35). وإذ كان فدياس مولعاً بالضخامة، فقد جعل ارتفاع تمثال زيوس الجالس ستين قدماً، ولما أن وضع في مكانه في الهيكل شكا النقاد من أن الإله سيخترق سقفه إذا ما بدا له أن يقوم واقفا، ووضع فدياس على "جبيني" الإله الراعد "القائمين" و "غدائره المعطرة" تاجاً من الذهب في صورة أغصان شجر الزيتون وأوراقه. ووضع في يد الإله اليمنى تمثالاً للنصر صغيراً مصنوعاً من الذهب والعاج، وفي يده اليسرى صولجاناً مطعماً بالأحجار الكريمة، وألبسه ثوباً ذهبياً نقشت عليه الأزهار، ووضع في قدميه خفين من الذهب المصمت. أما عرشه فكان من الذهب، والأبنوس، والعاج. وكان عند قاعدته تماثيل صغيرة للنصر، لأبلو، وأرتميز، ونيوبي، ولصبيان من طيبة اختطفهم أبو الهول (37). وكان الأثر الذي يبعثه في النفس هذا التمثال وتوابعه رائعاً قوياً إلى حد جعل الناس ينسجون حوله كثيراً من الخرافات والأساطير. فمن قائل إنه عندما أتمه فدياس طلب أن تطلع عليه من السماء آية تدل على رضائها عن عمله، فأرسلت صاعقة نزلت على الأرض غير بعيدة عن قاعدة التمثال - وهي آية كمعظم الآيات السماوية تقبل عدة تفاسير مختلفة (1). وعدَّ التمثال من عجائب الدنيا السبع، وكان يحج إليه كل من استطاع الحج ليشاهد الإله المتجسد فيه. ولما فتح إيمليوس بولس Aemilius Paullus القائد الروماني بلاد اليونان ورأى هذا التمثال الضخم استولى عليه الرعب، واعترف أن ما شاهده بعينه قد فاق كل ما كان يصوره له خياله (38). ووصفه ديوكريسوتوم Dio Chrysotom بأنه أجمل تمثال على وجه الأرض، وأضاف إلى قوله هذا ما قاله بيتهوفن في الموسيقى: "إذا وقف أمام هذا التمثال إنسان قد تراكمت عليه الهموم، وتجرع في حياته كأس المصائب والأحزان حتى الثمالة، وطار النوم الحلو من أجفانه، نسي كل ما يصيب الإنسان في حياته من متاعب وأحزان" (39). وقال فيه كونتليان Quintilian: " إن جمال التمثال قد أضاف بعض الشيء إلى دين البلاد، ولقد كان جلاله خليقاً بالإله الذي يمثله" (40).
ولسنا نعرف عن أواخر أيام فدياس شيئاً موثوقاً به. فمن القصص ما يرى أنه عاد إلى أثينة حيث قضى نحبه في السجن (41)، ومنها ما يقول إنه أقام في إليس Elis، وإن هذه المدينة نفسها قد قتلته في عام 432 (42). وليست إحدى هاتين القصتين اللتين تتحدثان عن خاتمة فدياس أصدق من أختها. وواصل تلاميذه عمله، وبرهنوا على نجاحه معلماً بما أخرجوه من آيات فنية لا تكاد تقل روعة عن آياته هو. فقد نحت أجركريتس Agoracritus أحب تلاميذه إليه تمثالاً لنمسيز Nemesis طبقت شهرته الآفاق، ونحت الكمنيز تمثالاً لأفرديتي إلهة الحدائق كان لوشان يضعه في مصاف أرقى ما أخرجه المثالون من آيات (1) فنية (43). وكانت خاتمة مدرسة فدياس في نهاية القرن الخامس، ولكنها تركت فن النحت اليوناني أرقى كثيراً مما كان حين بدأت حياتها الفنية، فقد أشرف الفن بفضل فدياس وأتباعه على الكمال في اللحظة التي بدأت فيها حرب البلوبونيز تنزل بأثينة الخراب. لقد أتقنت هذه المدرسة أصول الفن وقواعده، وفهمت تشريح الجسم، وصبت الحياة والحركة والرشاقة في البرونز والحجر صباً، ولكن العمل الجليل الذي يميز فدياس من غيره من المثالين هو ما أخرجه من طراز في النحت جديد عبر عنه أصدق تعبير، ذلك الطراز السامي أو "الطراز العظيم" كما يسميه ونكلمان. وهو طراز يجمع بين القوة والجمال، والتهور والإحجام، والحركة والسكون، واللحم والعظم مع الروح والعقل. وفي هذا الطراز تمثل الفنانون على الأقل بعد ما بذلوا من جهود دامت خمسة قرون ذلك "الصفاء" الذائع الصيت الذي يعزوه المؤرخون بخيالهم إلى اليونان. وكان في وسع الأثينيين ذوي العاطفة الثائرة الجياشة إذا ما تدبروا تماثيل فدياس أن يروا كيف يقترب الآدميون من الآلهة، وإن يكن ذلك فيما أبدعوا من تماثيل فحسب.
مصادر و المراجع :
١- قصة الحضارة
المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)
تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر
ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين
الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس
عام النشر: 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون
تعليقات (0)