المنشورات

ارتقاء فن العمارة اليونان

تمت سيطرة الطراز الدوري في العمارة على بلاد اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد، ولم يبق إلى الآن من الهياكل اليونانية التي شيدت في ذلك العصر الزاهر إلا قليل من الأضرحة الأيونية وأهمها الإركثيوم وهيكل نيكي أبتروس Nike Opteros المقام على الأكربوليس. وبقيت أتكا في ذلك العهد محافظة على الطراز الدوري، فلم تخضع للطراز الأيوني إلا حين كانت تستخدمه في العمد الداخلية للبروبيليا، وفي صنع إفريز حول الثسيوم والبارثنون. ولعل ما يشاهد من نزعة ذلك العصر إلا إطالة العمود وتقليل سمكه عما كان من قبل يدل على أثر آخر من آثار الطراز الأيوني.
وفي آسية الصغرى أشرب اليونان حب الشرقيين للتحلية الدقيقة وعبروا عن هذا الحب بتنميق الدعامات الأيونية المرتكزة على العمد تنميقاً فيه كثير من التعقيد، وبإيجاد طراز جديد من هذه الدعامات أكثر زخرفاً من الطراز الأيوني يعرف بالطراز الكورنثي. وحدث حوالي عام 430 (حسب رواية فتروفيوس Vitruvius) أن استلفتت نظر مَثال أيوني يدعى كلمسكس Callimachus، سلة لتقديم النذور مغطاة بقرميدة، تركتها مربية على قبر سيدتها، وقد نبتت شجيرة أكنتوس (1) حول السلة والقرميدة. وأعجب المَثال بالصورة الطبيعية التي أوحت بها إليه السلة وما حولها فعدل تيجان العمد الأيونية في هيكل كان يشيده في كورنثة بأن أضاف أوراق الأكنتوس إلى الحلي اللولبية (44). ونحن نرجح أن هذه القصة خرافة لا أصل لها، وأن سلة المربية كان أثرها في نشأة الطراز الكورنثي أقل من أثر تيجان العمد المصرية المحلاة بسعف النخيل وأوراق البردي. ولكننا نستطيع أن نقول واثقين إن الطراز الجديد لم ينتشر انتشاراً واسعاً في بلاد اليونان في عصرها الذهبي، وإن كان إكتينس قد استخدمه في عمود منفرد في ساحة هيكل أيوني في فيجاليا Phigalea، وإن كان استخدم أيضاً حوالي آخر القرن الرابع في هيكل أقيم تخليداً لذكرى لسكارتيز Lysicartes. ولم يبلغ هذا الطراز الدقيق أرقى صورة له إلا على يد الرومان المتأنقين في عهد الإمبراطورية.
وكان العالم اليوناني كله يشيد الهياكل في ذلك العهد، وأوشكت المدن أن تفلس في تنافسها لإقامة أجمل التماثيل وأكبر الأضرحة، وأضافت أيونيا إلى مبانيها الضخمة في ساموس وإفسوس هياكل أيونية جديدة في مجنيزيا، وتيوس وبريني، وأقام المستعمرون اليونان في أسوس Assus من أعمال بلاد اليونان الطروادية مزاراً لأثينة لا يكاد طرازه يختلف في شيء عن الطراز الدوري العتيق، وشادت كروتونا في الطرف الآخر من بلاد هلاس حوالي عام 480 ق. م بيتاً دورياً واسعاً لهيرا ظل باقياً إلى عام 1600 م حين ظن أحد الأساقفة أن في مقدوره أن يستخدم حجارته في غرض أنفع من الغرض الذي كانت تستخدمه فيه (45). وأقيمت في القرن الخامس أعظم هياكل بسدونيا (بستم Paestum) ، وسجستا Segesta، وسلينس، وأكرجاس، وفيه أيضاً أقيم كعبد أسكلبيوس Asclepius في إبدورس. ولا تزال تشاهد في سرقوسة عمد هيكل شاده جيلون الأول Gelon I لأثينة، وقد بقي بعض هذا الهيكل لأنه حول إلى كنيسة مسيحية؛ واختلط إكنتيس في باسيا بالقرب من فيجاليا من أعمال البلوبونيز هيكلاً لأبلو يختلف اختلافاً عجيباً عن البارثنون آيته الفنية الأخرى. ذلك أن صفوف الأعمدة الدورية تحيط بفضاء يشغله محراب صغير وبهو مكشوف كبير تحيط به أعمدة أيونية. وحول هذا البهو الداخل في مقابل الوجه الداخلي للعمد الأيونية يمتد إفريز لا يقل في رشاقته عن إفريز البارثنون نفسه، ويمتاز عنه في أنه ظاهر تراه العين (1).
وشاد ليبون Libon المهندس الإبلي في أولمبيا قبل أن يشاد البارثنون بجيل من الزمان مزاراً لزيوس دوري الطراز يضارع البارثنون نفسه. وقد أقيمت في كل طرف من أطرافه ستة أعمدة، وثلاثة عشر عموداً في كل جانب من جانبيه، ولعلها قد بلغت من الضخامة حداً لا يتفق مع جمال الشكل، كما أن المادة التي صنعت منها كانت غير خليقة بهذا الأثر الجميل - فهي من الجير الخشن المطلي بالمصيص، أما السقف فقد صنع من القرميد البنتيلي Pentelie (2) . ويحدثنا بوسنياس (46) أن بيونيوس Paeonius وألكمنيز قد نحتا للقواصر أشكالاً قوية (3) تمثل على الجانب الشرقي من السقف سباق المركبات بين بلييس وإينوماؤوس Aenomaus، وعلى الجانب الغربي منه صراع اللبيثيين والقناطرة (4). واللبيثيون، كما تروي الخرافات اليونانية قبيلة جبلية تقيم في تساليا، ولما أن تزوج ملكها برثوس Pirithous بهِبوداميا Hippodameia ابنة إينوماؤوس ملك بيزا إحدى مدائن إليس Elis، دعا القناطرة إلى وليمة العرس. وكانت القناطرة تسكن الجبال المحيطة ببليون، ويصورها الفن اليوناني مخلوقات نصفها خيل ونصفها آدميون، ولعلهم أرادوا بهذا أن يدلوا الناس على طبيعة أولئك الأقوام الوحشية غير المروضة أو يوحوا بأن القناطرة كانوا فرساناً مهرة إلى حد يخيل معه إلى من رآهم أن الفارس هو وفرسه حيوان واحد. وسكر أولئك الفرسان في أثناء الوليمة وحاولوا أن يختطفوا النساء اللبيثيات، لكن اللبيثيين دافعوا عن نسائهم دفاع الأبطال وهزموا القناطرة (ولم يمل الفنانون اليونان تصوير هذه القصة، ولعلهم كانوا يرمزون بها إلى تنظيف الغابات من الحيوانات البرية وإلى الكفاح القائم بين طبيعتي البشر الإنسانية والحيوانية). والأشكال المصورة على القوصرة الشرقية عتيقة الطراز جامدة ساكنة، أما التي على القوصرة الغربية فإن من أصعب الأمور أن يعتقد الإنسان أنها عملت في نفس هذا العصر، ذلك بأنها نشيطة تنبض بالحياة، وتدل على تمكن ناضج من التأليف بين المجاميع. وإن كان بعضها فجاً، وإن كان الشَّعر قد مثل على النمط الذي جرى به العرف في الزمن القديم. أما العروس فذات جمال بارع يثير الدهشة، فهي امرأة نحيفة في غير ضعف، كاملة النمو، جميلة المحيا، جمالاً لا نعجب إذا قامت بسببه الحرب بين الطائفتين المتقاتلتين. ونرى قنطروساً ملتحياً يطوق خصرها بذراعه، ويضع إحدى يديه على صدرها، ويوشك أن يختطفها من دار عرسها، ولكن الفنان مع هذا يصورها هادئة الملامح ساكنة سكوناً يظن الإنسان معه أنه قد قرأ لسنج Lessing أو ونكلمان، أو أنها ككل الغواني يغرها الثناء عليها والرغبة فيها. وأقل من هذه الصور شأناً وأصغر منها حجماً، وإن كانت أحسن منها صقلاً، الأجزاء الباقية من جبهة الهيكل، وهي التي تروي بعض أعمال هرقل الأسطوري، فتصور بعضُها هرقل يرفع العالم لأطلس. وقد أجاد الفنان في هذا كل الإجادة، فليس هرقل هنا جباراً شاذاً مخالفاً للمألوف، مفتول العضلات المحيطة بجسمه كأنها قدت من الحجر الصلد، بل هو رجل كامل النمو، متناسق الجسم، وقد وقف أمامه أطلس له رأس لو أنه وضع على كتفي أفلاطون لزانهما. 

وإلى يسارها وقفت إحدى بنات أطلس مكتملة النمو بارعة الجمال الطبيعي الذي أكسبتها إياه صحتها وكمال أنوثتها.
ولعل المصور كان يرمز إلى صورة مرسومة في ذهنه حين صورها تساعد في رقة وظرف الرجل القوي على حمل العالم. إن في مقدور الفنان الإخصائي أن يعثر على بعض أغلاط في التنفيذ وفي التفاصيل الدقيقة عندما يتأمل هذه الجبهة نصف المخربة، لكن الملاحظ الهاوي إذا نظر إلى العروس، وإلى هرقل، وابنة أطلس، يرى أن هذه المجموعة تقرب من الكمال قرب أية مجموعة أخرى في تاريخ النحت البارز.














مصادر و المراجع :

١- قصة الحضارة

المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)

تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر

ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين

الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس

عام النشر: 1408 هـ - 1988 م

عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید