المنشورات

البارثنون

في عام 447 بدأ إكتنوس ينشئ هيكلاً جديداً لأثينة بارثنوس يساعده في ذلك العمل كلكراتيز Callicrates ويشرف عليهما فدياس وبركليز إشرافاً عاماً. وأنشأ في الطرف الغربي من البناء حجرة لكاهناتها العذارى سماها حجرة "العذارى" Ton Parthenos، ثم استعير هذا الاسم على توالي الزمن فأطلق على البناء كله. واختار إكتنوس لبناء الهيكل رخام جبل بنتكلوس الأبيض المشوب بحبيبات حديدية، ولم يستخدم في بنائه ملاطاً، بل نحتت كتل الحجارة وصقلت بحيث تمسك كل كتلة في التي تليها كأن الاثنتين كتلة واحدة، وثقبت صفحات الأعمدة ووضعت في ثقب الصفحة قطعة من خشب الزيتون تصل كلاً منها بالأخرى وتدور على التي تحتها حتى يسوى السطحان المتقابلان ويصقلا فلا يكاد يرى فارق بينهما (49). وكان طراز البناء دورياً خالصاً وبسيطاً بساطة أبنية العصر الذهبي، أما شكله فكان رباعياً لأن اليونان لم تكن تعجبهم الأشكال المستديرة أو المخروطية، ومن أجل هذا لم تكن في العمارة اليونانية عقود وإن يكن المهندسون اليونان على علم بها من غير شك. ولم تكن أبعاد البناء كبيرة فهي 65× 151× 228 قدماً، وأكبر الظن أنه كان يسود البناء كله تناسب معين كالتناسب الذي يفرضه قانون بليكليتس، فكانت جميع مقاييسه تتناسب تناسباً معيناً مع قطر العمود (50). ففي بسدونيا كان ارتفاع العمود أربعة أمثال قطره، أما هنا فكان الارتفاع خمسة أمثال القطر، وكان هذا الطراز الجديد وسطاً بين المتانة الإسبارطية والرشاقة الأتكية. وكان قطر كل عمود يزداد قليلاً من قاعدته إلى وسطه (نحو ثلاثة أرباع البوصة) ثم ينقص كلما علا، ويميل نحو مركز بهو الأعمدة. وكان سمك كل عمود في ركن البناء يزيد قليلاً على سمك سائر الأعمدة، وكل خط أفقي من قاعدة كل صف ومن الدعامة المرتكزة عليه ينحني إلى أعلى نحو وسط حتى إذا نظر إليه الإنسان من أحد طرفي هذا الخط الذي يظنه مستقيماً لم يستطع رؤية طرفه الثاني البعيد عنه. ولم تكن واجهات البناء كاملة التربيع، ولكنها خططت بحيث تظهر لمن ينظر إليها من أسفل كأنها مربعة. ولم تكن هذه الانحناءات كلها إلا تصحيحاً دقيقاً للخداع البصري، ولولاها لبدت قواعد صفوف الأعمدة منخفضة في وسطها مائلة نحو الخارج. وما من شك في أن هذا الضبط يتطلب قدراً كبيراً من العلم بالرياضيات والبصريات، وأنه كان من المظاهر الهندسية الآلية التي جعلت الهيكل صرحاً يجمع بين العلم والفن. فقد كان كل خط مستقيم في البارثنون، كما هو في علم الطبيعة، خطاً منحنياً، وكان كل جزء من البناء ينسحب نحو الوسط، كما هو الشأن في التصوير، انسحاباً دقيقاً بارعاً. وقد نشأ من هذا كله نوع من المرونة والرشاقة يخيل إلى الإنسان معه أنه يخلع على الحجارة نفسها حياة وحرية.
وكان فوق العارضة البسيطة (العارضة الراكزة على الأعمدة) سلسلة من الحزوز والأجنبة (ما بين الحزوز) تلي كلتاهما الأخرى. وقد نقشت على الأجنبة الاثنين والتسعين نقوش بارزة تقص مرة أخرى كفاح "الحضارة" و "الوحشية" في حروب اليونان والطرواديين، واليونان والأمزونيات، واللبيثيين والقناطرة ( Centaurs) ، والجبابرة والآلهة. ولا شك في أن هذه الألواح من صنع فنانين كثيرين يختلفون في مهارتهم، فهي لا تعادل النقوش البديعة التي على إفريز المحراب وإن كانت بعض رؤوس القناطرة لا تقل دقة وجمالاً عن صور رمبرانت Rembrandt، وإن كانت هذه الرؤوس قد صنعت من الحجارة. وكان في قواصر السقف الهرمي طائفة من التماثيل المقامة من حجارة منحوتة كبيرة الحجم، وفي القوصرة الشرقية المقامة فوق المدخل، كان يسمح للزائر أن يشهد مولد أثينة من رأس زيوس. وفي هذا المكان يشاهد تمثالاً متكئاً لثسيوس (1) قوي الجسم جباراً، قادراً على تفكير الفلاسفة وسكون المتحضرين، وتمثالاً جميلاً لإيريس Iris ( وهي هرمس في صدرة نسوية) في ثياب ملتصقة بجسمه ولكنها تلعب بها الريح، لأن فدياس كان يرى أن الريح التي لا تلعب بالثياب نذير سوء.
وهناك أيضاً كان تمثال فخم لهيبي Hebe إلهة الشباب التي كانت تصب الرحيق في كؤوس الآلهة الأولمبية، وثلاثة تماثيل رائعة "للأقدار". وكان في الركن الأيسر أربعة رؤوس جياد- تبرق أعينها، وتنخر مناخيرها، وتزبد أفواهها وهي مسرعة في عدوها، تعلن شروق الشمس. وفي الركن الأيمن يسوق القمر للمغيب عربته ذات الجياد الأربعة والرؤوس الثمانية أجمل رؤوس للخيل في تاريخ النحت كله. وفي القوصرة الغربية نرى أثينة تنازع بسيدن السيادة على أتكا. وهناك أيضاً كانت خيول، كأنها وضعت لتكفر عن سخافات الإنسان الكثيرة، وكانت هناك تماثيل لأناس متكئين تمثل في فخامتها غير الواقعية نهيرات أثينة الصغيرة. ولعل تماثيل الرجال كانت كثيرة العضلات فوق ما يجب، ولعل تمثيل النساء كانت أكبر مما ينبغي، ن ولكننا نشاهد تماثيل قد تجمعت بحالتها الطبيعية التي تجمعت بها هنا، وقلما نرى تمثيل بهذه الكثرة قد نسقت في ذلك المكان الضيق من قوصرة البناء. ويصفها كنوفا Canova وصفاً لا نشك أنه قد غالى فيه فيقول: "إن سائر التماثيل من حجارة أما هذه فمن لحم ودم".
وأجمل من هذه وأكثر منها جاذبية صور الرجال والنساء التي في الإفريز، فهنا نشاهد أشهر النقوش كلها على الإطلاق تمتد إلى مدى 525 قدماً في أحد الجدران الخارجية للمحراب، وفي داخل الرواق. وأكبر الظن أن هذه النقوش تمثل فتيان أتكا وفتياتها يقدمن الهدايا وفروض الطاعة للإلهة أثينة في يوم الاحتفال بألعاب الجامعة الأثينية، فترى جزءاً من الموكب يتحرك بمحاذاة الجانبين الغربي والشمالي، وجزءاً آخر يتحرك بمحاذاة الجانب الجنوبي، ثم يلتقيان في الواجهة الشرقية أمام الإلهة، وهي تقدم في فخر وكبرياء هدايا المدينة وجزءاً من مغانمها إلى زيوس وغيره من الآلهة الأولمبية. وهناك أيضاً فرسان حسان تتمثل فيهم المهابة والرشاقة فوق خيول أجمل منهم، وعربات تقل طائفةً من كبراء المدينة تتبعهم جماعات من العامة تبدو عليهم مظاهر السعادة وهم يسيرون في الموكب رجالاً. ونرى فتيات حساناً، وشيوخاً هادئين يحملون أغصان الزيتون وصحاف الكعك، ونرى الخدم وعلى أكتافهم أباريق من الخمر المقدسة، ونساء موقرات يحملن إلى الإلهة الأثواب الخارجية التي نسجنها وطرزنها استعداداً لهذا اليوم المقدس وقبل أن يحل بزمن طويل. وترى الأضحية تمشي لتلاقي مصيرها وهي صابرة كالأثوار أو غاضبة عارفة بما ينتظرها من بلاء، وعذارى الطبقات الراقية يأتين بآنية الطقوس والتضحية، وموسيقيين يعزفن على القيثارات أناشيد خالدة لا تسمع لها نغماً. وقلما نرى حيوانات أو أناس قد بذل في تكريمها من الفن مثل ما بذل في هذه النقوش، فقد استطاع المَثالون بما رسموا وظللوا فيما لا يزيد على بوصتين ونصف بوصة من النقش البارز أن يخدعوا العين فيخيل إليها أن جواداً أو فارساً بعيداً عن الآخر، ن وإن كان أقربها لا يرتفع عن خلفية الصورة أكثر من سائر النقوس (51). ولربما كان من الخطأ أن يكون هذا النقش البديع عالياً لا يستطيع الناظر إليه أن يتأمله في يسر وراحة ويستوعب كل ما فيه من رونق وجمال، وما من شك في أن فدياس كان يعتذر عن هذا وهو يغمز بعينيه بحجة أن الآلهة كانت تستطيع رؤيته، ولكن الآلهة كانت تحتضر وهو ينقش هذه النقوش. 

وكان مدخل الهيكل الداخلي تحت الآلهة الجالسة المنقوشة في الإفريز. وكان داخل هذا الهيكل صغيراً نسبياً لأن معظم الفراغ كانت تشغله صفوف من الأعمدة الدورية التي تحمل السقف وتقسم المحراب إلى صحن وممشيين، وفي الطرف الغربي كان سنا أثواب أثينة الذهبية يذهب بأبصار عبادها، وكان رمحها ودروعها وأفاعيها توقع الرعب في قلوبهم. وكان من خلفها حجرة العذارى تزينها أربعة أعمدة دورية الطراز. وكان في الألواح الرخامية التي تغطي السقف من الصفاء ما يسمح بنفاذ بعض الضوء إلى صحن المحراب، ومن العتمة ما يكفي لمنع الحرارة عنه، هذا إلى أن التقى، كالحب، يصد عن المتقين حر الشمس. وكانت الطنف منقوشة نقشاً دقيقاً بذل فيه الكثير من العناية، وكانت تعلوها وقايات من الآجر ركبت فيها ميازيب لإزالة مياه الأمطار. وكانت أجزاء كثيرة من الهيكل مطلية بالألوان الزاهية الصفراء والزرقاء والحمراء. فأما الرخام فقد طلي باللونين الزعفراني واللبني، وكانت الخروز وبعض النقوش زرقاء، وكذلك كانت أرضية الإفريز. أما الواجهة فكانت حمراء، وكان كل ما فيها من الصور ملوناً (52). وقد فضل اليونان الألوان الناصعة على الألوان الهادئة لأنهم شعب اعتاد جو البحر الأبيض المتوسط ولأن في طاقته أن يتحمل الألوان البراقة، بل هو يفضلها عن الألوان الخفيفة الهادئة التي توائم جو شمال أوربا القاتم. والآن وقد تجرد البارثنون من ألوانه فإنه يبدو أجمل ما يكون في الليل حين تظهر من الفراغ الذي بين العمد مناظر السماء المتغيرة، أو منظر القمر معبود الأقدمين، أو أضواء المدينة النائمة مختلطة بتلألأ النجوم (1). 

لقد كان الفن اليوناني أعظم ما أبدعه اليونان، ذلك أن روائعه، وإن لم تقو على مقاومة عوادي الأيام، قد بقى من صورتها وروحها ما يكفي لأن يجعلها نبراساً تهتدي به كثير من البلدان. ولقد كان في هذا الفن أخطاء، شأنه في هذا شأن كل عمل يعمله الإنسان، فقد كانت التماثيل تعنى بالجسم فوق ما يجب أن تعنى به، وقلما كانت تنفذ إلى الروح، فهي تحملنا على الإعجاب بكمالها، لا بالشعور بما فيها من حياة. وكان شكل المباني وطرازها محصورين في حدود ضيقة، وظلت هذه المباني مدى ألف عام متشبثة بالشكل الرباعي البسيط الذي أخذته عن المباني الميسينية (1)، ولم تكن تبتدع شيئاً في غير ميدان الدين، ولم تحاول إلا طرق البناء السهلة، وتجنبت الأساليب الصعبة كالأقواس والقباب، ولعلهم لو أقدموا عليها لوجدوا فيها ميادين للعمل واسعة. وكانوا يقيمون سقفهم بالطريقة غير الجميلة طريقة العمد الداخلية المقامة بعضها فوق بعض. وكانوا يزحمون داخل هياكلهم بالتماثيل التي لا يتناسب حجمها مع حجم البناء الكلي، وكانت زينتها تنقصها البساطة والتحفظ اللذين يتوقع الإنسان وجودهما في طراز أبنية العصر الذهبي.
على أنه مهما تكن أغلاط ذلك الفن فإنها لا ترجح تلك الحقيقة الماثلة في الأذهان، وهي أن الفن اليوناني قد خلق على طراز أبنية العصر الذهبي. وجوهر هذا الطراز- إذا سمح لنا أن نذكر مرة أخرى موضوع هذا الفصل قبل أن نختمه- من حيث نظامه وشكله هو: التوسط والاعتدال في التخطيط والتصميم والتغيير، والتزيين، والتناسب بين الأجزاء، والوحدة التي تشمله كله، وعلو سلطان العقل دون أن يقضي بذلك على الشعور، والكمال الهادئ الذي يقنع بالبساطة، والسمو الذي لا يدين بشيء إلى انضمامه. ولم يكن لطراز من الأبنية اللهم إلا الطراز القوطي، من الأثر مثل ما كان لهذا الطراز، والحق أن التماثيل اليونانية لا تزال هي المثل الأعلى في فنها، وقد ظلت العمد اليونانية حتى الأمس القريب هي المسيطرة على فنون العمارة تحول دون قيام طرز أخرى أجمل منها وأوقع في النفس. وإن من الخير أنا قد أخذنا نتحرر من سيطرة الفن اليوناني لأن كل شيء، حتى الكمال نفسه، يصبح ثقيلاً بغيضاً إذا لم يتغير. ولكننا بعد أن يتم تحررنا بزمن طويل سنجد علماً وحافزاً في هذا الفن الذي كان حياة العقل ممثلة في ذلك الطراز، وهو خير ما أهدته بلاد اليونان إلى بني الإنسان.















مصادر و المراجع :

١- قصة الحضارة

المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)

تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر

ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين

الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس

عام النشر: 1408 هـ - 1988 م

عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید