المنشورات

أنبادوقليس

المثالية تضايق الحواس، والمادية تكدر النفس، لأن أولاهما تفسر كل شيء ما عدا العالم، والأخرى تفسر كل شيء ما عدا الحياة، وإذا أريد مزج هذين النصفين من أنصاف الحقائق فلا بد من العثور على مبدأ محرك دافع يتوسط بين التركيب والنماء، وبين الأشياء والأفكار، وقد حاول أنكساغوراس أن يبحث عن هذا المبدأ في العقل الكوني، وحاول أنبادوقليس أن يبحث عنه في القوى الكامنة التي تنزع إلى الثورة والانقلاب.
وكان مولد هذا الأكرغامي الشبيه بليوناردو Leonarda في عام مرثون، من أسرة غنية كانت مولعة بسباق الخيل ولعاً لم يكن يرجى معه أن ينبغ أحد أبنائها في الفلسفة. وقد درس بعض الوقت مع الفيثاغوريين، فلما نضج عقله أخذ يفشي بعض عقائدهم السرية فطرد من زمرتهم (54). وأولع أشد الولع بعقيدة تناسخ الأرواح، وأعلن بخيال الشعراء وعواطفهم أنه كان "في سالف الأيام شاباً، وفتاة، وغصناً مزهراً، وطائراً، وسمكة تسبح صامتة في البحر العميق" (55). وذم أكل الطعام الحيواني ووصفه بأنه لا يخرج عن أن يكون صورة من أكل اللحوم البشرية، أليست هذه الحيوانات تجسيداً جديداً لبعض الآدميين (56)؟ وكان يعتقد أن الناس جميعاً كانوا من قبل آلهة، ولكنهم خسروا مكانهم في السماء لارتكابهم شيئاً من الدنس أو العنف. ويقول إنه واثق بأنه يشعر في قرارة نفسه بما يوحي إليه بألوهيته قبل مولده. "وأي مجد عظيم وأية سعادة ليس فوقها سعادة قد تدهورت منهما الآن، وأصبحت أطوف الأرض مع الآدميين! " (57). وإذ كان واثقاً من هذا الأصل الإلهي فقد احتذى حذاءين من الذهب، ولبس ثوبين أرجوانيين، ووضع على رأسه إكليلاً من الغار، وقال لأبناء وطنه متواضعاً إنه محبوب أبلو، ولم يعترف لغير أصدقائه بأنه إله. وادعى أن لها قوى فوق قوى البشر، ومارس بعض طقوس السحر، وحاول بطريق العزائم والرقى أن ينتزع من العالم الآخر أسرار مصير الإنسانية. وعرض على الناس أن يشفي مرضاهم بسحر الألفاظ، وشفى كثيرين منهم حتى كاد الناس يصدقون دعواه. أما الحق فإنه كان طبيباً نطاسياً ذا آراء كثيرة في علم الطب، ومتمكناً من سيكولوجية الفن، وكان فوق ذلك خطيباً مصقعاً، "اخترع" كما يقول أرسطاطاليس، أصول البلاغة وعلمها غورغياس، فعرضها هذا للبيع في أثينة، وكان مهندساً أنجى سلينس من الوباء بتجفيف المستنقعات وتحويل مجاري الأنهار (59). وكان سياسياً شجاعاً تزعم، وهو أرستقراطي الأصل، ثورة على الأرستقراطية الضيقة، وأبى أن يكون حاكماً بأمره، وأقام حكماً ديمقراطياً معتدلاً. وكان شاعراً كتب في الطبيعة وفي التطهير شعراً بديعاً اضطر أرسطاطاليس وشيشرون إلى أن يضعاه في مصاف الشعراء المجيدين، وأظهر لكريشيوس إعجابه به بمحاكاته. وقال فيه ديوجين ليرتيوس: "وإذا ذهب إلى الألعاب الأولمبية استلفت جميع الأنظار، حتى لم يكن يذكر إنسان آخر بمثل ما يذكر به هو" (61)، ولعله كان كما يقول إلهاً.
ولم يبق لنا من أشعاره إلا 470 بيتاً لا نجد فيها إلا إشارات متقطعة لفلسفته، فنرى منها أنه كان يختار مبادئه من فلسفات مختلفة، ويرى في كل طريقة من طرائقها شيئاً من الحكمة، ولا يوافق بارمنيدس على رفض جميع ما يجيء إلينا من المعلومات عن طريق الحواس، بل يثني على كل حاسة ويرى أنها "طريقاً موصلاً للإدراك" (63). وعنده أن الحس ينشأ من انبعاث جزيئات تنتقل من الجسم الخارجي، وتقع على "مسام" ( Poroi) الحواس، ومن أجل هذا يحتاج الضوء إلى بعض الوقت لكي يصل إلينا من الشمس (64)، وينشأ الليل من اعتراض الأرض لأشعة الشمس (65)، والأشياء كلها تتكون من عناصر (1) أربعة: الهواء، والنار، والماء، والتراب، وتعمل في هذه العناصر قوتان رئيسيتان هما قوتا الجذب والطرد، أو قوتا الحب والبغض.
وينتج من اجتماع العناصر وتفرقها بفعل هاتين القوتين اجتماعاً وتفرقاً لا آخر لهما عالم الأشياء والتاريخ. فإذا كانت الغلبة للحب أي النزعة إلى الاتحاد تحولت المادة إلى نبات، واتخذت الكائنات العضوية أشكالاً مطردة الرقي. وكما أن تناسخ الأرواح يؤلف من الأنفس كلها سيرةً واحدة، كذلك لا يوجد في الطبيعة فرق واضح بين جنس وجنس، أو بين نوع ونوع. ألا ترى مثلاً أن "الشَّعر، وأوراق الشجر، وريش الطيور السميك، والحراشف التي تتكون على الأعضاء الصلبة، كلها من نوع واحد؟ " (68). والطبيعة تنتج كل نوع من أنواع الأعضاء والأشكال، والحب يؤلف بينها، فيجعل منها تارةً هولات غريبة تهلك لعدم قدرتها على التكيف لتلائم البيئة المحيطة بها، وتارةً أخرى يجعل منها كائنات عضوية قادرة على التكاثر ومواءمة ظروف الحياة (69). والأشكال العليا كلها تنشأ من الأشياء السفلى (70)، وقد كانت الذكورة والأنوثة في بادئ الأمر مجتمعين في جسم واحد، ثم انفصلا وظلت كلتاهما تتوق إلى الاتحاد مع الأخرى (2). ويوجد في مقابل عملية التطور هذه عملية الانحلال، يمزق فيها الكره، أو قوة التقسيم، البنيان المعقد الذي أقامه الحب، فتعود الكائنات العضوية والنباتية عوداً بطيئاً إلى صور تزداد بدائية يوماً بعد يوم، ويظل هذا يحدث حتى تختلط الأشياء جميعها مرة أخرى في كتلة فطيرة غير محددة الشكل (72) 

وهاتان العمليتان المتبادلتان عملية التطور وعملية الانحلال مستمرتان إلى أبد الدهر في كل جزء على حدة وفي الكل مجتمعاً، وتتنازع القوتان قوة الائتلاف وقوة التفرقة، قوة الحب وقوة الكره، قوة الخير وقوة الشر، وتتوازنان في نظام عالمي شامل هو نظام الحياة والموت. ألا ما أقدم فلسفة هربرت اسبنسرا! (73).
ومكان الله في هذه العملية غير واضح، وذلك لأن من الصعب أن نفرق بين الحقيقة والمجاز أو بين الفلسفة والشعر في أقوال أنبادوقليس، فهو في بعض الأحيان يوحد بين الإله وبين الكون نفسه، وفي بعضها الآخر يوحد بينه وبين حياة كل حي أو عقل كل عاقل، ولكنه يدرك أننا لن نستطيع قط أن نكون فكرة صحيحة عن القوة الخالقة الأساسية الأصلية. انظر مثلاً إلى قوله: "لن نستطيع أن نقرب الله منا قرباً يمكننا من أن ندركه بأعيننا، ونمسكه بأيدينا ... ذلك أنه ليس له رأس بشري ملتصق بأعضاء جسمه، وليس له ذراعان متفرعتان تتدليان من كتفيه، وليس له قدمان ولا ركبتان ولا أعضاء مكسوة بالشعر. إنه كله عقل لا غير، عقل مقدس لا ينطبق عليه وصف، يومض في طيات العالم كله وميض الفكر الخاطف" (74). ويختم أنبادوقليس حديثه هذا بنصيحة الشيخوخة التي أنطقته بها الحكمة والكلالة: "ما أضعف وما أضيق القوى المودعة في أعضاء الإنسان، وما أكثر المصائب التي تثلم حد التفكير، وما أقصر الحياة التي يكدح فيها الناس والتي تنتهي بالموت. فإذا حل بهم زالوا من الوجود وتلاشوا كما يتلاشى الدخان وصاروا هواء، يعرفون أن ما يحلمون به ليس إلا الصغائر التي عثر عليها كل واحد منهم أثناء تجواله في هذا العالم. ومع هذا تراهم جميعاً يفخرون بأنهم عرفوا كل شيء. ألا ما أشد حمقهم وأكثر غرورهم! ذلك أن هذا الكلي الذي يفخرون بمعرفته لم تره عين ولم تسمعه أذن، ولا يمكن أن يدركه عقل إنسان" (75).
واستحال في آخر سن من حياته واعظاً دينياً أكثر مما كان من قبل، منهمكاً في نظرية التجسيد، وأخذ يتوسل إلى بني جنسه أن يتطهروا من الخطيئة التي طردوا بسببها من السموات، ويدعو الجنس البشري، بما أوتي من حكمة بوذا وفيثاغورس، وشوبنهور، أن يمتنع عن الزواج، والتناسل (76). ولما حاصر الأثينيون سرقوصة في عام 415، بذل أنبادوقليس كل ما في وسعه لتأييد المقاومين وأغضب بذلك أكرجاس، التي كانت تحقد على سرقوصة بكل ما في قلوب الأقارب من حقد دفين، ونفي من بلده، فذهب إلى أرض اليونان القارية حيث وافاه الأجل في ميغارا كما تقول بعض الروايات (78). ولكن ديوجين ليرتيوس يروي عن هبوبوتس Hippobotus أن أنبادوقليس بعد أن أعاد إلى الحياة الكاملة امرأة اعتقد الناس أنها قضت نحبها غادر الوليمة التي أقيمت احتفاءً بشفائها، واختفى فلم يُرَ بعد ذلك أبداً. وتقول بعض الأساطير إنه ألقى بنفسه في فوهة بركان إتنا الثائر لكي يموت من غير أن يخلف وراءه أثراً، فيؤيد بذلك دعواه أنه إله. ولكن النار العنصرية غدرت به، فقذفت بخفيه النحاسيين، وتركتهما على حافة كأس البركان، كأنهما رمزان ثقيلان للفناء (80).











مصادر و المراجع :

١- قصة الحضارة

المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)

تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر

ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين

الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس

عام النشر: 1408 هـ - 1988 م

عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید