إن الذين يقولون إن بلاد اليونان هي أثينة يكذبهم أن أحداً من كبار المفكرين اليونان قبل سقراط لم يكن من أهل تلك المدينة، وأنه لم يعقبه مفكر من أهلها حتى جاء أفلاطون. إن المصير الذي لاقاه أنكساغورس وسقراط ليدل على أن الجمود الديني كان في أثينة أقوى منه في المستعمرات، وذلك لأن انفصال هذه المستعمرات من الناحية الجغرافية قد حطم بعض قيود التقاليد القديمة. ولعلنا لا نخطئ إذا قلنا إن أثينة كانت تبقى مدينة غير متسامحة إلى حد السخف والغباء ولا مجال فيها للتفكير الحر لو لم تقم فيها طبقة دولية من التجار، ولم يفد إليها جماعة السوفسطائيين.
وقد كانت المناقشات التي تدور في الجمعية، والمحاكمات التي تجري أمام الهيليا، والحاجة المتزايدة إلى القدرة على التفكير تفكيراً منطقي الظاهر، وإلى التعبير عن الأفكار تعبيراً واضحاً مقنعاً، لقد كانت هذه كلها مضافة إلى ثراء المجتمع الإمبراطوري وتشوفه عاملاً في إشعار الناس بالحاجة إلى شيء لم يكن معروفاً في أثينة قبل بركليز، ونعني بذلك الدراسة العليا المنظمة للآداب، والخطابة، والعلوم، والفلسفة، وأساليب الحكم، والسياسة. ولم تُقابَل هذه الحاجة في بادئ الأمر بتنظيم الجامعات، بل قوبلت بوجود طائفة العلماء الجوالين يستأجرون قاعات المحاضرات، ويدرِّسون فيها ما يضعونه للتعليم من مناهج، ثم ينتقلون إلى مدن أخرى ليعيدوا فيها هذه الدراسة. وكان بعض هؤلاء المعلمين، ومنهم بروتاغوراس Protagoras، يطلقون على أنفسهم لقب سوفسطاي أي معلمو الحكمة (81)، وكان الناس يفهمون من هذا اللفظ ما نفهمه نحن من لفظ "أستاذ جامعي"، ولم يكن له معنى محط بالكرامة حتى قام النزاع بين الدين والفلسفة فأدى إلى هجوم المحافظين على السوفسطائيين، وأثارت نزعة بعضهم التجارية أفلاطون إلى أن تسوئ سمعتهم بأن عزا إليهم تهمة "السفسطة" بغية المكسب، وهي الوصف الذي ظل لاصقاً بهم إلى يومنا هذا. ولعل الجمهور كان يشعر نحو هؤلاء بشيء من الكره الخفي من بدء ظهورهم، لأن ما كانوا يتقاضونه من باهظ الأجر نظير تدريس المنطق والبلاغة لم يكن يطيقه إلا الأغنياء الذين أفادوا من علمهم هذا في دور القضاء (82). ولسنا ننكر أن المشهورين من السوفسطائيين كانوا يتقاضون ممن يعلمونهم أكثر ما يرضى هؤلاء أن يؤدوه إليهم من الأجر، وذلك هو قانون الأثمان في كل مكان ... فكان بروتاغوراس، وغورغياس، كما يقول الرواة، يطلبان عشرة آلاف درخمة (000ر10 ريال أمريكي) أجراً لتعليم تلميذ واحد. غير أن من كانوا أقل من هذين شأناً كانوا يقنعون بأجور معتدلة، فكان برودكس Prodicus مثلاً - وهو الذي ذاع صيته في جميع أنحاء اليونان - يطلب ما بين درخمة وخمسين أجراً للاشتراك في مناهجه (83).
وقد ولد بروتاغوراس أشهر السوفسطائيين جميعهم في أبدرا قبل مولد دمقريطس بجيل من الزمان. وكان في أثناء حياته أشهر الرجلين وأعظمهما نفوذاً، وفي وسعنا أن نستدل على ما كان له من شهرة واسعة بما أحدثته زياراته لأثينة من حماسة بالغة (1) واهتياج فيها كبير، وحتى أفلاطون نفسه - وهو الذي لم يقل كلمة طيبة في السوفسطائيين عن قصد - كان يجله ويصفه بأنه على خلق عظيم. وفي الحوار الأفلاطوني الذي سمي باسمه نرى بروتاغوراس أحسن مظهراً من سقراط الشاب الكثير الجدل، فسقراط في هذا الحوار هو الذي يتحدث كما يتحدث السوفسطائيين. وبروتاغوراس هو الذي يسلك مسلك الرجل المهذب والفيلسوف، فلا يغضب أو يثور، ولا يحقد على أحد ما يبديه من دلائل الفطنة والذكاء، ولا يُحَمِّل حجج مناظريه من الجدل أكثر مما تتحمله، ولا يهتم قط بأن يتكلم. ويعترف بأنه أخذ على نفسه أن يعلم تلاميذه التبصر والحذر في الشئون الخاصة والعامة، وحسن تنظيم المنزل والأسرة، وفنون البلاغة أو الكلام المقنع والقدرة على فهم شئون الدولة وحسن إدارتها (86). وهو يبرر ما يأخذه من أجور عالية بقوله إن من عادته، إذا عارض تلميذ فيما يطلبه من أجر، أن يقبل منه أي أجر يراه التلميذ عادلاً على شريطة أن يؤكد ذلك في خشوع أمام مزار مقدس (87) - وتلك لعمري خطة حمقاء من معلم يشك في وجود الآلهة. ويتهمه ديوجين ليرتس بأنه "أول من سلح المجادلين بسلاح المغالطات المنطقية" وهي تهمة يسر منها سقراط بلا ريب، ولكن ديوجين يضيف إلى قوله: "كان بالإضافة إلى هذا أول من اخترع ذلك النوع من الجدل الذي يسمونه الجدل السقراطي" (88) -وهي تسمية قد لا يرتاح لها سقراط.
وكان من أفضاله الكثيرة أنه وضع أساس النحو وفقه اللغة الأوربيين، ويقول عنه أفلاطون إنه بحث في الطريقة الصحيحة لاستعمال الألفاظ، وإنه كان أول من قسم الأسماء إلى مذكرة ومؤنثة وغير مذكرة ولا مؤنثة، وأول من ذكر أزمان الأفعال وحالاتها (إخبارية أو شرطية الخ (90)). ولكن أهم ما يعنينا من أمره أن به، لا بسقراط، تبدأ النظرة الذاتية في الفلسفة. فقد كان على عكس الأيونيين يُعنى بالأفكار أكثر مما يعنى بالأشياء، ونعني بالأفكار عملية الإحساس، والإدراك، والفهم والتعبير بأكملها. فبينما كان بارمنيدس يرى أن الإحساس لا يهدي إلى الحقيقة، كان بروتاغوراس يرى كما يرى لُك Locke أنه السبيل الوحيد إلى المعرفة، ويأبى أن يعترف بوجود أية حقيقة تعلو على العقل ولا تدركها الحواس. ومن أقوال بروتاغوراس أن الحقيقة المطلقة لا وجود لها، وأن كل ما يوجد هو الحقائق التي يعتنقها بعض الناس في ظروف خاصة، وقد تكون الأقوال المتناقضة حقائق متساوية القيمة في اعتقاد أشخاص مختلفين أو في أزمنة مختلفة (91). والحقيقة كلها والخير والجمال، أمور نسبية وشخصية، "والإنسان هو المقياس الذي تقاس به جميع الأشياء فهو الذي يقرر أن الأشياء الكائنة كائنة، وأن الأشياء غير الكائنة غير كائنة" (92). ولقد يخيل إلى المؤرخ أن العالم كله قد بدأ يرتجف ويتزعزع كيانه حين أعلن بروتاغوراس هذا المبدأ البسيط من مبادئ الإنسانية والنسبية، وأن الحقائق المقررة والمبادئ المقدسة جميعها أخذت تتصدع وتنهار، وأن الفردية قد وجدت صوتاً ينادي بها وفلسفة تؤيدها، وأن الأسس فوق الطبيعية للنظام الاجتماعي قد تعرضت كلها لخطر الزوال.
ولولا أن بروتاغوراس قد طبق في وقت من الأوقات هذا التشكيك البعيد الأثر، والذي يتضمنه هذا القول الذائع الصيت، على شئون الدين لبقي قولاً نظرياً مأمون العاقبة. ذلك أن بروتاغوراس قرأه على جماعة من كبار المفكرين في بيت يوربديز الملحد الحر التفكير البغيض إلى الشعب. وقد أثارت أول جملة في هذه الرسالة ثائرة الناس في أثينة وكانت الجملة الأولى فيها هي: "أما من حيث الآلهة فلست أدري أهي موجودة أم غير موجودة كما لا أعلم لها شبهاً. وثمة أشياء كثيرة تقف في سبيل هذه المعرفة: فالموضوع غامض، وحياتنا الفانية قصيرة الأجل" (93). وارتاعت الجمعية الأثينية من هذه الكلمة الافتتاحية التي تنذر بشر مستطير فقررت نفي بروتاغوراس، وأُمر الأثينيون على بكرة أبيهم أن يسلموا كل ما عساه أن يكون لديهم من كتاباته، وأحرقت كتبه في السوق العامة. وفر بروتاغوراس إلى صقلية ولكنه، على ما ترويه القصة، غرق في الطريق (94).
وواصل غورغياس الليونتيني Gorgias of Leontini هذه الثورة التشكيكية، ولكنه أوتي من الحكمة ما جعله يقضي معظم حياته في خارج أثينة. وكانت سيرته أنموذجاً لسير الرجال الذين يجمعون بين الفلسفة والسياسة في بلاد اليونان. وقد ولد في عام 483، ودرس الفلسفة والبلاغة مع أنبادوقليس، وبلغ من شهرته في الخطابة وفي تدريسها أن أرسلته ليونيني في عام 427 سفيراً لها في أثينة. واستحوذ في الألعاب الأولمبية التي أقيمت في عام 408 على قلوب حشد كبير من الناس بخطاب له طلب فيه إلى اليونان المتحاربين أن يعقدوا الصلح فيما بينهم لكي يواجهوا وهم متحدون واثقون من الفوز قوة بلاد الفرس الآخذة في الانتعاش، وأخذ يتنقل من مدينة إلى مدينة ويشرح أينما حل آراءه بأسلوب خطابي طلي، وألفاظ ممتعة وعبارات منسقة في معناها ومبناها، متزنة اتزاناً دقيقاً بين الشعر والنثر، لم يجد معها أية صعوبة في جذب الطلاب إليه يعرضون عليه مائة مينا نظير منهجه الدراسي. وقد حاول في كتابه في الطبيعة أن يثبت ثلاث قضايا مدهشة مروعة هي أنه: (1) لا وجود لشيء ما. (2) ولو أن شيئاً وجد لكانت معرفته غير ممكنة. (3) ولو أن شيئاً كانت معرفته ممكنة لما أمكن نقل هذه المعرفة من شخص إلى آخر (1). ولم يبق من كتابات غورغياس غير هذه القضايا. وبعد أن استمتع بكرم كثير من الدول وأجورها ألقى عصا التسيار في تساليا وهدته حكمته إلى استهلاك معظم ثروته الطائلة قبل وفاته (96). ويؤكد لنا كل من أرَّخوا له أنه عاش حتى بلغ من العمر مائة سنة وخمس سنين على أقل تقدير، ويقول لنا كاتب قديم إن غورغياس، وإن بلغ من العمر مائة سنة وثمان سنين، لم يضعف جسمه من طول العمر، بل ظل إلى آخر حياته في جيد الصحة لا تقل قوة حواسه عن قوة حواس الشباب (97).
وإذا كان السوفسطائيين مجتمعين قد كونوا مدرسة متفرقة، فإن هيبياس الإليسي ( Elis) كان مدرسة بمفرده، وكان أنموذجاً للرجل المتعدد المعارف في عالم لم تكن المعرفة فيه قد بلغت من الاتساع حداً يجعلها في غير متناول عقل واحد. فقد كان يعلم الفلك والرياضيات، وكانت له بحوث مبتكرة في الهندسة وكان شاعراً، وموسيقياً، وخطيباً. وكان يلقي محاضرات في الأدب، والأخلاق والسياسة، وكان مؤرخاً، وضع أساس التأريخ اليوناني وتقويمه وتسلسله بأن جمع ثبتاً من أسماء الفائزين في الألعاب الأولمبية، وأرسلته إليس مبعوثاً لها لدى دول أخرى، وكان يعرف من الفنون والحرف عدداً كبيراً أمكنه به أن يصنع ملابسه وأدوات زينته (98). وكان عمله في الفلسفة صغيراً ولكنه خطير، فقد كان يعترض على حياة المدن المصطنعة المؤدية إلى الانحلال، ويوضح الفرق بين الطبيعة والقانون، ويقول: إن القانون الظالم مستبد بالخلق (99). وواصل برودكس ألكيوس عمل بروتاغورس في النحو، وحدد أجزاء الكلام، وأدخل السرور على الشيوخ بوضعه قصة خرافية يصف فيها هرقل وهو يختار الفضيلة المجهدة بدل الرذيلة الهينة (100). ولم يكن غيره من السوفسطائيين أتقياء مثله: وكان منهم أنتيفون الأثيني الذي حذا حذو دمقريطس في ماديته وإنكاره الآلهة، والذي عرّف العدالة تعريفاً يجعلها هي الطريقة الملائمة للظروف الموصلة إلى الغاية المطلوبة، ومنهم ثرازيماكس الخلقدوني Thrasymachus of Chalcedon الذي قال إن الحق هو القوة (إذا أخذنا بما يقوله عنه أفلاطون) وإن نجاح الأوغاد ليبعث في نفوسنا الشك في وجود الآلهة (101).
والسوفسطائيين في مجموعهم يعدون من العوامل التي كان لها أعظم الأثر في تاريخ اليونان، فهم الذين اخترعوا لأوربا النحو والمنطق، وهم الذين رقوا فن الجدل، وحللوا أشكال الحوار، وعلموا الناس كيف يكشفون الخطأ المنطقي وكيف يمارسونه، وبفضل ما بعثوه في اليونان من حافز قوي وما ضربوه بأشخاصهم من أمثلة شغف مواطنوهم بالمناظرة والاستدلال، وهم الذين استخدموا المنطق في اللغة فزادوا الأفكار وضوحاً ودقة، ويسروا انتقال المعرفة انتقالاً صحيحاً دقيقاً. وهم الذين جعلوا النثر صورة من صور الأدب والشعر ووسيلة للتعبير عن الفلسفة، وطبقوا التحليل على كل شيء، وأبوا أن يعظموا التقاليد المتواترة التي لا تؤيدها شواهد الحس أو منطق العقل، وكان لهم شأن كبير في الحركة العقلية التي حطمت آخر الأمر دين اليونان القديم عند طبقات الذهنيين. وفي ذلك يقول أفلاطون: إن "الرأي السائد" في زمنه هو أن "العالم وكل ما فيه من حيوان ونبات ... وجماد نشأ من علة تلقائية غير مدركة" ولا عاقلة. ويحدثنا ليسياس Lysias عن وجود مجتمع يكفر بالآلهة يطلق على نفسه اسم "نادي الشياطين Kadodatimoniotai" كان أعضاؤه يتعمدون أن يجتمعوا ليطعموا في الأيام المقدسة التي كان الصيام مقرراً فيها (103). وكان بندار في بداية القرن الخامس يقبل ما ينطق به الوحي في دلفي قبول الأتقياء الصالحين، وكان إسكلس يدافع عنه دفاع السياسيين، وفي عام 450 انتقده هيرودوت وهو خائف وجل، وكفر به توكيديدس صهره في آخر ذلك القرن، وشكا أوطيفرون Euthyphro من أن الناس كانوا يسخرون منه إذا تحدث عن النبوءات في الجمعية، ويعدونه من البلهاء الذين دالت دولتهم (104).
وليس من حقنا أن نعزو الفضل في هذا كله إلى السوفسطائيين أو أن نلومهم عليه، فقد كان الكثير منه في الجو الذي يحيط بهم، وكان نتيجة طبيعية لازدياد الثراء، والفراغ، والأسفار، والبحث، والتفكير. وكذلك كان نصيبهم في تدهور الأخلاق أنهم اشتركوا في هذا التدهور مع غيرهم، ولم يكونوا العامل الأساسي فيه، ذلك أن الثراء في حد ذاته، إذا لم تقترن به الفلسفة، يقضي على التزمت وعلى الرواقية. ولكن السوفسطائيين عجلوا في نطاق هذه الحدود الضيقة وعلى غير علم منهم سير حركة الانحلال. لقد كان معظمهم، إذا غضضنا النظر عن حبهم الجم للمال وهو حب متأصل في طبائع البشر، من ذوي الأخلاق الطيبة والحياة المحتشمة المهذبة، ولكنهم لم ينقلوا إلى تلاميذهم التقاليد أو الحكمة التي جعلتهم أو أبقتهم فضلاء رغم علمهم أن المبادئ الخلقية قد نشأت بين بني الإنسان ولم تنزل عليهم من آلهة السماء، وأنها تختلف باختلاف الزمان والمكان. ولعل نشأتهم في المستعمرات لا في بلاد اليونان الأصلية قد جعلتهم يستخفون بقوة العادة، بوصفها بديلاً سلمياً للقوة أو القانون، في المحافظة على النظام والأخلاق. ولقد كان تعريفهم للأخلاق أو لقيمة الإنسان تعريفاً قائماً على أساس المعرفة، كما فعل بروتاغوراس قبل سقراط بجيل من الزمان (105)، كان هذا التعريف باعثاً قوياً على التفكير، ولكنه كان ضربة زلزلت قواعد الأخلاق نفسها، كذلك كانت توكيد المعرفة والتعظيم شأنها من الأسباب التي رفعت مستوى اليونان العلمي والثقافي، ولكنه لم يقو من ذكائهم بنفس السرعة التي حرر بها عقولهم. ولم يكن قولهم إن المعرفة شيء نسبي سبباً في حمل الناس على التواضع كما يجب أن يكون، بل إنه أغرى كل إنسان بأن يتخذ من نفسه معياراً يقدر به جميع الأشياء، فأصبح كل شاب نابه يحس بأنه خليق بأن يحكم على القانون الأخلاقي الذي يسير عليه بنو وطنه، وأن يرفضه إذا لم يفهمه أو يعجبه، ثم يصبح بعدئذ حراً في أن يبرر رغباته حسب ما يراه هو بعقله، ويقول إنها فضائل النفس التي تحررت من رق القانون. وكانت التفرقة بين "الطبيعة" والعرف، وميل صغار السوفسطائيين إلى القول بأن ما تبيحه "الطبيعة" خير في ذاته على الرغم من حكم العادة أو القانون، كان هذا الميل وتلك التفرقة عاملاً في تقويض الدعائم القديمة للأخلاق اليونانية، ومشجعاً للناس على القيام بكثير من التجارب في أساليب العيش. وأخذ الشيوخ يأسفون لانقضاء ما كان يسود المنزل من بساطة وإخلاص، ولانهماك الناس في السعي وراء اللذة وجمع المال متحللين في ذلك من قيود الدين (106). ويحدثنا أفلاطون وتوكيديدس عن المفكرين والقادة الذين يقولون إن الأخلاق وهم وخرافة، والذين لا يعترفون بأي حق غير حق القوة. وهذه الفردية العارمة التي لا قيد لها من الضمير هي التي جعلت منطق السوفسطائيين وبلاغتهم وسيلة للاحتيال القانوني والتهريج السياسي، وحطت من قيمة نزعتهم العالمية الواسعة الأفق فجعلتها مجرد إحجام وحذر عن الدفاع عن بلادهم أو استعداد لبيعها لمن يؤدي فيها أغلى الأثمان، دون أن يشعروا بشيء من وخز الضمير. وأخذ الزراع المتدينون والأشراف المحافظون يرون ما يراه عامة المواطنين من أهل الحواضر الديمقراطيين وهو أن الفلسفة قد أصبحت خطراً يهدد كيان الدولة وينذرها بشر مستطير.
واشترك بعض الفلاسفة أنفسهم في مهاجمة السوفسطائيين، فاتهمهم سقراط (كما اتهم أرسطوفان سقراط من بعد) بأنهم يموهون الخطأ بزخرف المنطق ويقنعونه بقوة البلاغة، وكان يحتقرهم لأنهم يتقاضون من الناس أجوراً (107). ويبرر جهله بالنحو بأنه لم يكن يستطيع حضور منهج برودكس الذي يكلف خمسين درخمة، ويقول إن كل ما كان في وسعه أن يحضر منهج الدرخمة الواحدة الذي يقتصر على المبادئ الأولية (108). وكتب في ساعة مشئومة تلك المقارنة القاسية يكشف فيها عن أمرهم:
"إنا لنعتقد يا أنتيفون أن في وسعنا أن نتصرف في الجمال أو في الحكمة تصرفاً شريفاً أو غير شريف، فالشخص إذا باع جماله بالمال إلى كل راغب في شرائه، سماه الناس "عاهراً" ذكراً، أما إذا صادق إنسان شخصاً يعرف أنه إنسان شريف جليل القدر يعجب به حسبناه رجلاً فطناً حصيفاً. والذين يبيعون الحكمة بالمال لكل من يتقدم لشرائها يسميهم الناس سوفسطائيين أو عاهري الحكمة إذا صح هذا التعبير. أما من يصاحب شخصاً يعرف أنه جدير بصحبته، ويعلمه كل ما يعرف من الخير فإنا نصفه بأنه يضطلع بالعمل الذي يليق بالمواطن الشريف" (109). ولم ير أفلاطون حرجاً في أن يوافق على هذا الرأي لأنه كان من الأثرياء. وبدأ إسقراط Isocrates حياته بخطبة ضد السوفسطائيين، ثم صار أستاذاً ناجحاً للبلاغة، يتقاضى ألف درخمة (ألف ريال أمريكي) عن النهج الواحد (110)، وواصل أرسطاطاليس هجومه عليهم وعرف السوفسطائي بأنه الرجل "الذي لا يحرص إلا على أن يثرى من وراء التظاهر بالحكمة" (111)، واتهم بروتاغورس بأنه "يعد الناس بجعل أسوأ الأسباب يبدو كأنه أحسنها" (112).
وكان شر ما في هذه المأساة أن كلتا الطائفتين كانت على حق. فالشكوى من الأجور كانت غير عادلة. ذلك أنه لم تكن ثمة وسيلة غيرها يستطاع بها الإنفاق على التعليم العالي إلا إذا أمدته الدولة بالمال، وإذا ما انتقد السوفسطائيين التقاليد والأخلاق السائدة في عصرهم فلم يكن ذلك بطبيعة الحال عن سوء قصد فقد كانوا يظنون أنهم بعملهم هذا يحررون الناس من رق العقول، وكانوا بهذا الوصف وهم الطبقة الراجحة العقل في زمانهم يتصفون بما يتصف به أهل ذلك الجيل من شغف بالحرية العقلية، وقد فعلوا ما فعله علماء الموسوعات في عصر الاستنارة في فرنسا إذ انقضوا على الماضي الميت انقضاضاً جديراً بالإعجاب فاكتسحوه أمامهم دفعةً واحدةً. ولم يطل عمرهم، أو لم يكونوا بعيدي النظر في تفكيرهم، حتى يقيموا نظماً جديدة بدل النظم التي قوضها العقل بعد انطلاقه من عقاله. ولا بد في كل حضارة أن يحين الوقت الذي يتحتم فيه بحث الأساليب القديمة من جديد إذا أريد أن تكيف الحضارة نفسها لكي توائم التغيرات الاقتصادية التي لا تستطاع مقاومتها. ولقد كان السوفسطائيون أداة هذا البحث الجديد، ولكنهم عجزوا عن أن يضعوا السياسة المؤدية إلى هذا التكيف. وكفاهم فخراً أنهم كانوا حافزاً قوياً لطلب المعرفة، وأنهم جعلوا التفكير سنة العصر، وأنهم جاءوا من كافة أركان العالم اليوناني إلى أثينة بأفكار جديدة وأسباب للتفكير جديدة، وأيقظوا فيها الوعي الفلسفي والنضوج الذهني. ولولاهم لما وجد سقراط أو أفلاطون أو أرسطاطاليس.
مصادر و المراجع :
١- قصة الحضارة
المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)
تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر
ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين
الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس
عام النشر: 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون
تعليقات (0)