المنشورات

قناع سيلينس Silenus

مما يغتبط له الإنسان أن يقف آخر الأمر وجهاً لوجه أمام شخصية تبدو في ظاهر أمرها واقعية كشخصية سقراط. ونقول في ظاهر أمرها لأننا إذا تدبرنا المصدرين الذين لا مناص لنا من الاعتماد عليهما في كل ما نعرفه عن سقراط، وجدنا أن أحدهما وهو أفلاطون يكتب مسرحيات خيالية، وأن الآخر وهو أكسانوفون يكتب روايات تاريخية، وهذه وتلك لا يمكن أن تعدا من التاريخ الصادق الصحيح. وقد كتب ديوجين ليرتيوس في ذلك يقول: "يقولون إن سقراط حين سمع أفلاطون يقرأ الليسيس Lysis صاح قائلاً: أي هرقل! ما أكثر الأكاذيب التي قالها عني هذا الشاب! ذلك بأن أفلاطون قد أنطق سقراط بأشياء كثيرة لم ينطق هو بشيء منها" (113).
والحق أن أفلاطون لا يدعي بأنه يقصر أقواله على الحقائق، وأكبر الظن أنه لم يدر بخلده قط أن المستقبل قد يعدم الوسائل التي يفرق بها بين ما هو سيرة حقة وما هو من نسج الخيال في كتابه. ولكن أفلاطون يرسم في المحاورات صورة منسقة لأستاذه من أيام شباب سقراط الوجل في البارمنيدس وثرثرته الوقحة في البروتاغوراس إلى تقواه المكبوتة واستسلامه في الفيدون، لا يسع الإنسان معها إلا أن يعتقد أنه إذا لم يكن هذا سقراط بحق فإن أفلاطون يعد من أكبر مبتدعي الشخصيات في الأدب بأجمعه. ويعتقد أرسطاطاليس أن الآراء المعزوة إلى سقراط في البروتاغوراس هي آراؤه بحق (114). وقد كشفت حديثاً هتامات من كتاب عن ألقبيادس كتبها إسكنيز الاسفتوزي Aeschines of Sphettos أحد تلاميذ سقراط نفسه ترجح تأييد الصورة التي رسمها له أفلاطون في الأجزاء الأولى من محاوراته كما ترجح تأييد قصة العلاقة الوثيقة التي كانت بين الفيلسوف وبين ألقبيادس (115). غير أن أرسطاطاليس من جهة أخرى يعد الذكريات Memorabilia والمائدة Banquet من القصص الموضوعة، أي الأحاديث الخيالية التي يردد سقراط في أكثرها آراء أكسانوفون (1) نفسه. وإذا كان أكسانوفون قد صدق فيما نقله عن سقراط صدق إكرمان Eckerman فيما نقله عن جيته، فإن كل ما نستطيع أن نقوله في هذه الحال أنه عني بجمع سخافات المعلم التي لا ضرر منها، وأنه ليس من المعقول أن رجلاً أوتي من الفضائل ما أوتي سقراط حسب ما وصفه به أكسانوفون يستطيع أن يقلب الحضارة القائمة رأساً على عقب. على أن غير أكسانوفون من الكتاب الأقدمين لم يصوروا الحكيم القديم في صورة القديسين الصالحين كما صوره أكسانوفون. من ذلك أن أرسطوقسانيس التارنتي Aristoxenus of Tarentum ينقل عن أبيه - الذي يدعي أنه كان يعرف سقراط شخصياً - حوالي عام 318 أن الفيلسوف كان شخصاً مجرداً من التعليم "جاهلاً فاجراً" (117)، وأن يوبوليس Eupolis الشاعر الهزلي فاق منافسه أرسطوفان في الافتراء على المشاء العظيم (118). وإذا أسقطنا من حسابنا ما يجر إليه الجدل من قسوة في اللفظ اتضح لنا على الأقل أن سقراط كان رجلاً نال من كره الناس وحبهم أكثر مما ناله أي إنسان آخر في عصره.
وكان أبوه مَثالاً، ويقال إنه هو نفسه نحت تمثالاً لهرمس، وآخر لربات القدر الثلاث أقيم قرب مدخل الأكروبوليس (119). أما أمه فكانت قابلة، وكان من الفكاهات التي لا ينفك ينطق بها عن نفسه أنه لم يفعل أكثر من مواصلة حرفة أمه، ولكنه نقلها إلى دائرة الأفكار، فكان يساعد غيره على أن يخرجوا للعالم آراءهم. وتقول إحدى الروايات إنه ابن أحد الأرقاء (120)، ولكنا نرجح بطلان هذه الرواية لأنه عمل هيليتا أي جندي في فرق المشاة الثقيلة (وذلك واجب لا يضطلع به إلا المواطنون (121))، وأنه ورث عن أبيه بيتاً، وكان عنده من المال سبعون مينا (000ر7 ريال أمريكي)، يستثمرها له صديقه أقريطون (122)، أما فيما عدا هذا فإنه يصور لنا على أنه رجل فقير (123). وقد عني عنايةً كبيرةً بصحة جسمه، وكان في غالب أيامه قوي البنية جيد الصحة، واكتسب شهرةً فائقةً في الجندية أثناء حرب البلوبونيز، وحارب في بوتيديا Potidaea عام 432، وفي ديليوم Delium عام 424، وفي أمفبوليس عام 422. وفي بوتيديا أنقذ حياة الشاب ألقبيادس وسلاحه، ونزل عن جائزة الشجاعة إكراماً لخاطر هذا الشاب، وفي ديليوم كان آخر من تقهقر من الأثينيين أمام الإسبارطيين، ويلوح أنه أنجى نفسه بالتحديق في العدو، فخافه الإسبارطيين وهم قوم لا يخافون. ويقال إنه في هذه الوقائع كلها بز جميع أقرانه في قوة الاحتمال وفي الشجاعة، وإنه كان يصبر على الجوع والتعب والبرد فلا يشكو ولا يتململ (124). أما في بلده، إذا طاوعته نفسه على الإقامة فيه، فكان يشتغل بقطع الأحجار ونحت التماثيل، ولم يكن مولعاً بالأسفار، وقلما كان يخرج من المدينة ومرفئها. وتزوج من إكسانثبي Xanthippe التي كانت تعيب عليه إهمال شئون أسرته، فكان يعترف بعدالة شكواها (125)، ويثني على كرم أخلاقها وحسن معاملتها لابنه وأصدقائه. ولم يكن الزواج يضايقه قط فقد يبدو أنه اتخذ لنفسه زوجة ثانية حين أباح القانون تعدد الزوجات مدة قصيرة لكثرة من قتل في الحروب من الذكور (128).
والعالم كله يعرف وجه سقراط وملامحه. وإذا حكمنا عليه من تمثاله النصفي المحفوظ في متحف ترمي Museo Dell Terme برومة، وذلك حكم لا يستند إلى أساس قوي، قلنا أنه لم يكن أنموذجاً صادقاً للوجه اليوناني (129). ذلك أن سعة وجهه، وأنفه الأفطس العريض، وشفتيه الغليظتين، ولحيته الكثة، كلها توحي بأنه ينتمي إلى أرض السهوب التي جاء منها أناكارسيس Anacharsis صديق صولون، أو ذلك السكوذي الحديث تولستوي. وقد كتب عنه ألقبيادس في إصرار عجيب، حتى في الوقت الذي يجهر فيه بحبه يقول: "أقول إن سقراط يشبه كل الشبه أقنعة سيلينس، التي يمكن رؤيتها في حوانيت التماثيل، وفي أفواهها مزامير وصفارات، وتنفتح في أوساطها فترى في داخلها صور الآلهة. وأقول أيضاً إنه يشبه مارسياس Marsyas الكائن الخرافي الذي يتكون نصفه الأعلى من إنسان ونصفه الأسفل من ماعز ( Satyr) ، ولست أعتقد أنك يا سقراط تنكر أن وجهك هو وجه ذلك المخلوق الخرافي" (130). ولم يعترض سقراط على هذا القول، بل إنه فعل ما هو شر من هذا فقد اعترف بأن له كرشاً مفرطة في الكبر وأنه يرجو أن ينقصها الرقص (131).
ويتفق أفلاطون وأكسانوفون في وصفهم عاداته وأخلاقه. من هذه أنه كان يقنع بثوب بسيط رث يلبسه طول السنة، ويفضل الحفاء على الأحذية أو الأخفاف (132). وقد تحرر إلى حد لا يصدقه العقل من داء التملك الوبيل المصاب به الجنس البشري، ويقال إنه أبصر ذات مرة كثرة البضائع المعروضة للبيع فقال: "ما أكثر الأشياء التي لا أحتاجها! " (133) وكان يشعر بأنه غني في فقره. وكان مضرب المثل في الاعتدال وضبط النفس، ولكنه كان أبعد الناس عن حياة القديسين. وكان في وسعه أن يشرب كما يشرب أي رجل مهذب مثقف، ولم يكن في حاجة إلى الزهد لكي يحتفظ باستقامة خلقه (1). ولم يكن ناسكاً يعتزل الناس، بل كان يحب الرفقة الطيبة، وكان لا يأبى أن يُدعى إلى ولائم الأغنياء من حين إلى حين، ولكنه لم يخضع لهم أو ينحني امتثالاً لأمرهم، وكان في وسعه أن يعيش أحسن العيش دون معونتهم، وكان يرفض هدايا الكبراء والملوك وولائمهم (135). وجملة القول أنه كان رجلاً محظوظاً يعيش من غير كد، ويقرأ من غير أن يكتب، ويعلم من غير أن يلتزم خطة رتيبة، ويشرب دون أن يدور رأسه، ثم يموت قبل أن يدركه وهن الشيخوخة، وكان موته بلا ألم.
وكانت أخلاقه أحسن الأخلاق الملائمة لعصره، ولكنها أخلاق يصعب أن يرضى بها كل الرجال الصالحين الذين يثنون عليه. فقد "سرت نار" الحب في جسمه حين رأى كرميدس Charmides، ولكنه ضبط عواطفه بأن سأل نفسه هل لهذا الفتى هو الآخر "نفس نبيلة (136)؟ ". ويصف أفلاطون سقراط وألقبيادس بأنهما عاشقان، ويقول عن الفيلسوف إنه "يطارد الفتى الوسيم" (137)، والشيخ وإن كان يبدو أنه قد جعل حبه في الغالب حباً أفلاطونياً، لم يستنكف أن يقدم النصح للائطين وللسراري عن خير الوسائل لاصطياد المحبين. وقد دفعته شهامته إلى أن يعد الحظية ثيودروا بمعونته، وقد جازته على هذه المعونة بدعوتها إياه أن "يتردد عليها ليزورها" (139). ولم تكن تفارقه دعابته ورقة حاشيته، ومن أجل هذا فإن الذين يطيقون آراءه السياسية يجدون من السهل عليهم أن يحتملوا أخلاقه. ولما قضى نحبه قال عنه أكسانوفون إنه "بلغ من إنصافه أنه لم يظلم إنساناً حتى في أتفه الأمور ... ، وبلغ من عدالته أنه لم يفضل في وقت من الأوقات اللذة عن الفضيلة، وبلغ من حكمته أنه لم يخطئ قط في تمييز الخبيث من الطيب، ومن قدرته على تبين أخلاق الناس ومن حضهم على اتباع سبيل الفضيلة والشرف أن بدا أنه بلغ أحسن ما يأمله أحسن الناس وأسعدهم" (140). وقد عبر أفلاطون عن هذا المعنى نفسه ببساطة خلابة فقال إنه "كان بحق أعقل، وأعدل، وأحسن من عرفت من الناس في حياتي كلها" (141). 















مصادر و المراجع :

١- قصة الحضارة

المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)

تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر

ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين

الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس

عام النشر: 1408 هـ - 1988 م

عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید