المنشورات

يوربديز المسرحيات

كما شق جيتو Giotto الطريق الوعر للتصوير الإيطالي في بداية عهده، ثم أوصله بروحه الهادئة إلى كماله الفني، وأتم ميكل أنجلو تطوره بأعماله التي صدرت عن عبقريته المعذبة؛ وكما شق باخ Bach بجهوده الجبارة الطريق الرحب إلى الموسيقى الحديثة، وأبلغها موزار ببساطتها العذبة الرخيمة إلى أرقى الدرجات، ثم أتم بيتهوفن تطورها بمؤلفاته التي لا يدانيها شيء في فخامتها وجلالها؛ كذلك شق إسكلس بشعره القوي وفلسفته الصارمة الطريق الذي سارت فيه المسرحيات اليونانية، وحدد أشكالها، ثم هذب سفكليز هذا الفن بموسيقاه المتزنة وحكمته الهادئة، وأتم يوربديز تطوره بمؤلفاته التي تفيض بالشعور الجائش والشك القوي. لقد كان إسكلس في مسرحياته واعظاً لا يكاد يقل صراحة عن أنبياء بني إسرائيل، وكان سفكليز فناناً سامياً يتشبث بإيمان مزعزع موشك على الانهيار، وكان يوربديز شاعراً عاطفياً إبداعياً لا يستطيع أن يكتب مسرحية كاملة لأن الفلسفة شتت قواه. وكان هؤلاء هم إشعيا وأيوب والجامعة في كتاب اليونان المقدس.
ولد يوربديز في عام سلاميس، ويقول بعضهم إنه ولد في يوم سلاميس بالذات، وأكبر الظن أن مسقط رأسه هو تلك الجزيرة التي يقال إن أبويه فرا إليها هرباً من الغزاة الميديين (80). وكان أبوه رجلاً من أصحاب المال والسلطان في مدينة فيلا Phyla الأتكية، وكانت أمه تنحدر من أسرة شريفة (81)، وإن كان منافسه أرسطوفان يصر على أنها كانت تدير حانوت بدال، وتبيع الفاكهة والأزهار في الطرقات. وقضى يوربديز أيامه الأخيرة في سلاميس، مولعاً بعزلة تلالها، وجمال مناظرها، وزرقة بحارها؛ وكما أراد أفلاطون أن يكون كاتباً مسرحياً فكان فيلسوفاً، كذلك أراد يوربديز أن يكون فيلسوفاً فكان كاتباً مسرحياً. ويقول استرابون (82) إنه "تلقى منهج أنكساغورس كله، ودرس بعض الوقت على برودكس، وكان صديقاً حميماً لسقراط، وبلغ من صلته به أن بعض الناس يظنون أن قد كان للفيلسوف يد في مسرحيات الشاعر (83). وكان للحركة السوفسطائية كلها أثر كبير في تعليمه، واستحوذت عن طريقه على المسرح الديونيشي، فكان هو فلتير عصر الاستنارة اليوناني، يعبد العقل ويلمح إلى هذه العبادة في ثنايا مسرحياته التي كانت تمثل لتمجيد إله من الآلهة تلميحاً أفسدها وكان له أسوأ الأثر فيها.
وتعزو إليه سجلات المسرح الديونيشي فضل تأليف خمس وسبعين مسرحية، بدأت ببنات بلياس في عام 455 واختتمت بالباخيه Bacchae في عام 406، ووصلت إلينا منها ثمان عشرة كاملة وهتامات مختلفة من باقي المسرحيات (1). ومادتها هي أساطير اليونان الأولين، تتخللها إشارات من التشكك تبدو أولاً في حذر ثم تظهر سافرة جريئة بين السطور. ونرى في مسرحية أيون Ion أبا القبائل الأيونية المزعوم وقد وقع في ورطة حرجة: فقد جاء على لسان وحي أبلو أن أباه هو أكسوثوس Xuthus، ولكن أيون يكشف أنه ابن أبلو الذي أغوى أمه ثم خلعها على أكسوثوس، ويسأل أيون نفسه أيمكن أن يكون الإله النبيل كاذباً؟ وفي مسرحيتي هرقل وألسستيز Alcestis نرى الفتى الغوي ابن زيوس وألكمينا في صورة إنسان سكير طيب القلب، له نهم جارجنتوا Gargantua وعقل لويس السادس عشر. وتقص مسرحية ألسستيز القصة المنفرة فتصف كيف اشترطت الآلهة نظير إطالة عمر أدميتس Adametuas ( ملك فيري Pherae في تساليا) أن يرضي إنسان ما أن يموت بدلاً منه. وتعرض زوجته أن تفتديه بحياتها، وتودعه بقصيدة من مائة بيت يستمع إليها في صبر ونبل، وتُحمل ألسستيز باعتقاد أنها قد ماتت ولكن هرقل يخرج من مجلس الخمر والولائم، ويجادل الموت، وينهره، ويرغمه على ترك ألسستيز، ويعيد إليها حياتها. ولا يمكن فهم المسرحية إلا على أنها محاولة خبيثة لتسخيف هذه الخرافة (1).
وتستخدم مسرحية هيبوليتس Hippolytus هذه الطريقة عينها طريقة إقامة البرهان بنقض نقيضه، ولكن بطريقة أظرف وأكثر دهاء. فالبطل الوسيم هنا شاب صياد يقسم لأرتميس Artemis العذراء إلهة الصيد أن يكون على الدوام وفياً لها، وأن يتجنب النساء طول حياته، وأن يجد أعظم لذته في الأدغال. وتغضب أفرديتي لهذه العزوبة المهينة فتصب في قلب فدرا Phaedra زوجة ثسيوس هياماً جنونياً بهبوليتس بن ثسيوس من أنتيوبي Antiope زوجته المحاربة. وهذه هي أولى مآسي العشق فيما لدينا من كتابات أدبية، وفيها نجد من بداية الأمر جميع أعراض الحب في أعقد أزماتها وأقوى درجاتها، وذلك حين يصد هبوليتس عن فدرا فيتحطم قلبها، ويذوى غصنها، وتكاد تقضى من فرط الأسى. وتصبح مربيتها فيلسوفة على غير انتظار فتأخذ في التفكير في الحياة بعد الموت، وتظهر في تفكيرها هذا من الشك في هذه الحياة ما لا يقل عن شك هملت فيها:
"ومع هذا فحياة الإنسان كلها ألم وكدر، وليس ثمة راحة على ظهر هذه الأرض؛ وإذا كانت هناك حالة بعيدة أحب إلى الموتى من الحياة فإن يد "الظلماء" تقبض عليها وتحجبها في ظلمات من فوقها ومن أسفل منها. ومن الناس من يرغبون في الحياة ويتعلقون بالبقاء على هذه الأرض بهذا الشيء البراق الذي لا أعرف ماذا أسميه، وذلك لأن الحياة الأخرى نبع مختوم مغلق، والأعماق التي من تحتنا لم تكشف لنا، ونحن تتقاذفنا الخرافات والأوهام إلى أبد الدهر" (84).
وتحمل المربية رسالة إلى هبوليتس تقول إن فدرا ترحب به في فراشها؛ ويرتاع هو لهذه الرسالة لأنه يعرف أن التي تدعوه إلى فراشها زوجة أبيه، وينطلق لسانه بإحدى الفقرات التي اشتهر من أجلها يوربديز بأنه عدو النساء:
"رباه! لم وضعت في سبيلنا هذا الشرك البراق، تلك النساء اللاتي يتعقبن خطانا على ظهر هذه الأرض السعيدة؟ هل إرادتك هي التي اقتضت أن يولد الإنسان عن طريق الحب والمرأة؟ " (85).
ثم تموت فدرا، ويجد زوجها في يدها رسالة كتب فيها أن هبوليتس أغواها. ويستشيط ثسيوس غضباً، ويدعو بوسيدن أن يقتل هبوليتس؛ ويحتج الشاب بأنه بريء ولكن أحداً لا يصدقه؛ ويخرجه ثسيوس من البلاد. وبينما كانت عربته تمر في سيرها بشاطئ البحر إذ يخرج من الموج أسد بحر ويطارده؛ ويجفل جواداه ويقلبان العربة ويجران هبوليتس (بعد أن مزقه الجوادان) فوق الصخور حيث يموت شر ميتة. وترفع فرقة المنشدين صوتها بهذه الأبيات التي أدهشت أثينة وأزعجتها بلا ريب: "أيتها الآلهة، يا من أوقعته في الشرك، إني أقذف في وجهك كرهي واحتقاري".

وفي مسرحية ميديا ينسى يوربديز إلى حين غضبه على الآلهة ويصوغ من قصة ركاب السفينة أرجوس أقوى مسرحياته على الإطلاق. فعندما يصل جيسن Jason إلى كلشيز، تهيم الأميرة ميديا بحبه، وتساعده على أخذ الجزة الذهبية، وفي دفاعها عنه تخدع أباها وتقتل أخاها. ويقسم جيسن أن يحبها حبا أبديا ويأخذها معه إلى أيوكلس Iolcus. وهناك تدس ميديا الوحشية الطباع السم إلى الملك بلياس لكي تجلس جيسن على العرش الذي وعد به. وإذ كانت شريعة تساليا تحرم الزواج من الأجنبيات فإن جيسن يعيش مع ميديا عيشة العاشقين بغير زواج وتلد له طفلين. ولكنه لا يلبث أن يضيق ذرعا بشهوتها الوحشية، ويتطلع حوله باحثا عن زوجة شرعية ووارث لملكه، ويعرض أن يتزوج ابنة كريون ملك كورنثة. ويوافق كريون على هذا الزواج وينفي ميديا من البلاد؛ وتفكر ميديا فيما ارتكبته من أخطاء، وتنطق بفقرة من أشهر فقرات يوربديز التي يدافع فيها عن النساء:
"لم أر بين جميع الأشياء التي تنمو ويسيل منها الدم، شيئاً تهشم كما تهشمت المرأة. إن علينا أن نقدم كل ما جمعناه من الذهب وادخرناه لهذا اليوم الوحيد، لنبتاع به حب رجل، ولكننا نبتاع به سيداً ليتصرف في أجسامنا! وهذا لعمري أشد ما يؤلمنا في هذا العمل المشين. ولا نعرف بعد ذلك هل سيكون هذا السيد إنساناً خيراً أو شريراً، وذلك هو خطر يتهددنا طوال حياتنا ... إن بيتها لم يعلمها أحسن وسيلة تهدي بها ذلك الشيء الذي ينام بجانبها سبل السلام. وإن التي تجد بعد جهودها المضنية الطويلة وسيلة تجعله يحسب لها حسابها، فلا ينفض عن ظهره عبأها بعنف، تعد نفسها سعيدة. أما التي تعجز من النساء عن العثور على تلك الوسيلة فلتتمن الموت. إن زوجها إذا مل رؤية وجهها في داخل المنزل غادره، وذهب إلى مكان أروح من المنزل وأحب منه إلى قلبه؛ أما هي فقد كتب عليها البقاء حيث هي، لا تقع عيناها إلا على نفس واحدة. ثم يقولون بعدئذ إنهم هم الذين يلبون نداء الحرب، على حين أننا نجلس في عقر دورنا وفي حمايتها بعيدات عن كل خطر! إن هذا لسخرية وبهتان! ولأن أنزل ثلاث مرات إلى ميدان القتال، أخوض المعارك وترسي في يدي لأحب إليَّ من أن أحمل طفلاً واحداً (86).
ثم تتبع هذه القصة انتقامها الرهيب، فترسل إلى منافستها مجموعة من الأثواب الثمينة متظاهرة بأنها تريد بذلك أن تسترضيها. وتلبس الأميرة الكورنثية أحد هذه الأثواب فتحترق بالنار؛ ويحاول كريون أن ينجيها فيحترق هو أيضاً ويموت. وتقتل ميديا أطفالها، وتخرج بجثثهم على مرأى من جيسن، وتنشد فرقة المرتلين هذه الخاتمة الفلسفية:
"لزيوس في السماء ردهات ملأى بالكنوز يفرق منها على بني الإنسان مصائرهم القريبة من خير وشر لم يكونوا يرجونه أو يرهبونه. فأما الغاية التي كانوا يتطلعون إليها فلا ينالونها؛ فهناك طريق لم يفكر أحد فيه! ذلك ما حدث في هذا المكان".
وتدور سائر المسرحيات في الغالب حول قصة طروادة. ففي مسرحية هلن نرى القصة كما رواها استسكورس Stesichorus وهيرودوت (87)؛ فملكة إسبارطة حسب هذه الرواية لا تفر مع باريس إلى طروادة، بل تنقل رغم إرادتها إلى مصر، حيث تنتظر مجيء زوجها دون أن يعتدي أحد على عفافها؛ ويقول يوربديز إن بلاد اليونان كلها قد خدعتها خرافة هلن في طروادة. وفي مسرحية إفجينيا في أوليس يغمر يوربديز قصة تضحية أجممنون بفيض من العواطف لم تعهد من قبل في المسرحيات اليونانية، وبطائفة من أشنع الجرائم التي دفع الناسَ إليها دينُهم القديم. وكان إسكلس وسفكليز قد كتبا أيضاً في هذا الموضوع، ولكن مسرحياتهما لم تلبث أن نسيت وطغى عليهما سناً من المسرحيات الحديثة. وفي هذه المسرحية ينظر يوربديز إلى قدوم كليتمنسترا وابنتها نظرة عطف وحنان، ويظهر أرستيز "وهو لا يزال بعد طفلاً رضيعاً لا يستطيع الكلام" ليشهد خرافة القتل التي تقرر مصيره فيما بعد. وترى الفتاة يجللها الخفر وتغمرها السعادة وهي تهرول لتحيي الملك:
إفجينيا: ما أشد شوقي يا أبتاه إلى أن أرتمي على صدرك بعد هذا

الغياب الطويل؟ وأرجو ألا يغضبك أنني قد سبقت غيري

إليك- لأني مشتاقة إلى طلعتك .... ولأنك يسرك كل

السرور أن تراني. ولكن لم أراك مهموماً محزوناً؟

أجممنون: إن الملوك والقادة كثيرو الهموم.

إفجينيا: لتكن هذه الساعة لي- هذه الساعة لا أكثر. لا تستسلم للهموم!.

أجممنون: سأكون كلي لك؛ فلا تتشتتي يا أفكاري. . .

إفجينيا: ومع هذا- ومع هذا- فإني أرى الدموع تترقرق في عينيك!

أجممنون: نعم، لأن الغياب في المستقبل سيطول.

إفجينيا: لست أعرف، لست أعرف، يا أبتي العزيز ماذا تقصد؟

أجممنون: إن فطنتك الرشيدة تضاعف أحزاني.

إفجينيا: سأنطق إذن بالسخف لأدخل السرور على قلبك (88).

وحين يقبل أخيل تتبين أنه لا يعرف شيئاً عن زواجهما المزعوم، بل تعرف بدل هذا أن الجيش قد طال انتظاره للتضحية بها؛ فتلقي بنفسها على قدمي أجممنون وتتوسل إليه أن يبقى على حياتها:
لقد كنت أولى أبنائك- وأولى من قال لك يا أبت، وأولى من جلس على ركبتيك من أطفالك؛ وتبادلت وإياك الحديث في مسرات الحياة. وهذا ما كنت تقوله لي: "أي بنيتي العزيزة، هل يقدر لي أن أراك ممتعة سعيدة في بيت سيدك وزوجك الخليق بك؟ " واحتضنت لحيتك التي أمسك بها الآن متوسلة، وأجبتك بقولي: "وأنا الأخرى سأرحب بك يا أبت، حين يبيض شعرك من طول السنين، في داخل بيتي الحلو الجميل، وسأجزيك على حبك إعزازاً وتكريماً". هذا كنا ما نتحدث عنه، أذكره جيداً، ولكني أراك تنساه وتريد أن تقضي على حياتي" (89).
وتندد كليتمنسترا باستسلام أجممنون لهذه الطقوس الوحشية، وتتوعده بعبارات تحتوي على الكثير من المآسي: "لا تضطرني إلى الغدر بك"، وتشجع أخيل على ما يبذله من الجهد لإنقاذ الفتاة، ولكن إفجينيا تغير رأيها وتأبى أن تهرب:
استمعي يا أماه إلى ما خطر ببالي وأنا أقلب الفكر في أمري:

لقد اعتزمت أن أموت، ويسرني أن أموت هذه الميتة المجيدة- وأن أبعد عني جميع الأفكار الدنيئة ... إن هلاس العظيمة كلها تتطلع إلي، وما من أحد غيري يستطيع أن يمد إليها يداً ويسدي إليها تلك النعم: فتسير سفنها، وتهزم فيريجيا عدوتها، وتنقذ بناتها من البرابرة في أيامها المقبلة، حتى لا يستطيع الناهبون أن يختطفونهم من بيوتهن ويقضوا بذلك على سعادتهن، بعد أن يعاقب باريس على اعتدائه وهلن على ما جللت به نفسها من عار. كل هذا الخير ستناله البلاد بموتي، وسيكون اسمي مباركاً محوطاً بالإجلال لأني وهبت الحرية لهلاس (90).
وحين يقبل الجنود ليأخذوها تأمرهم بألا يمسوها بأيديهم وتسير طائعة مختارة إلى كومة وقود التضحية.
وفي مسرحية هكيبا تضع الحرب أوزارها، ويستولى اليونان على طروادة، ويقتسم المنتصرون الأسلاب. وترسل هكيبا زوجة بريام بوليدورس أصغر أبنائها ومعه كنز من الذهب إلى بولمنستر Polymnestor ملك تراقيا وصديق بريام. لكن بولمنستر يطمع في الذهب فيقتل الغلام ويلقي بجثته في البحر، فتقذفها الأمواج فوق ساحل إليون. وتحمل إلى هكيبا. وفي هذه الأثناء يمنع شبح أخيل الميت الريح من أن تدفع الأسطول اليوناني إلى بلاده، حتى يضحي له بيولكسينا Polyxena أجمل بنات بريام. ويأتي تلثبيوس Talthybius رسول اليونان إلى هكيبا ليأخذ منها الفتاة، فيجدها ملقاة على الأرض منفوشة الشعر ذاهلة، وقد كانت منذ قليل ملكة مكرمة، ينشد أبياتاً من الشعر تدل على تشكك يوربديز:
ماذا أقول يا زيوس؟ - أأقول إنك تنظر إلى الخلق؟ أم إلى قولنا إن هناك جيلاً من الآلهة ليس إلا وهماً وخداعاً كاذباً نستمسك به ولا يجدينا نفعاً، وإن المصادفة دون غيرها هي التي تسيطر على جميع مصائر البشر؟ (91).
والفصل التالي في المسرحية المركبة هو المرأة الطروادية. وقد مثلت هذه المسرحية الجزئية في عام 415، بعد أن دمر الأثينيون ميلوس في عام 406 بزمن قليل، وقبيل الحملة التي سيرت إلى صقلية للاستيلاء عليها وضمها إلى الإمبراطورية الأثينية. وكانت هذه هي اللحظة التي روع فيها يوربديز بالمذبحة التي وقعت في ميلوس، وبالنزعة الاستعمارية الوحشية التي دفعت الأثينيين إلى مهاجمة سرقوصة، فجرؤ على الجهر بدعوة حارة إلى السلم، صور فيها ما حدث تصويراً جريئاً على أنه انتصار من وجهة نظر المغلوبين، وكان تصويره هذا "أعظم تشهير بالحرب في الأدب القديم" (92). وهو يبدأ حيث ينتهي هومر- بعد الاستيلاء على طروادة. فالطرواديون ملقون على الأرض بعد مذبحة جامعة، ونساؤهم قد ذهب الروع بعقولهن، وهن يخرجن من مدينتهن المخربة ليكن سبايا للغالبين. وتقبل هكيبا مع ابنتيها أندرمكي وكسندرا بعد أن ضحى بحياة بولكسينا، ويأتي تلثيبيوس ليأخذ كسندرا إلى خيمة أجممنون. وتسقط هكيبا على الأرض من فرط الحزن، وتحاول أندرمكي أن تواسيها، ولكنها هي الأخرى يغلب عليها الجزع حين تضم الأمير الصغير أستياناكس Astyanax إلى صدرها وتذكر أباه الميت.
أندرمكي: ... ولقد شددت وتر قوسي من زمن بعيد وصوبت سهمي نحو حسن سمعتي، وأدركت أن سهمي قد أصاب هدفه، ومن أجل هذا فأنا بعيدة كل البعد عن السلام. لقد أحببت من أجل هكتور كل ما يثني عليه الرجال فينا، وبذلت جهدي في الوصول إليه. لقد عرفت أن التجوال في خارج البلاد يسيء إلى سمعة المرأة سواء أصابها شر في هذا التجوال أو عادت منه بريئة طاهرة، ومن أجل هذا قمعت في نفسي هذه الرغبة، وكان تجوالي في حديقة بيتي، ولم تدخل قط من باب داري ألفاظ النساء المستهترة أو أحاديثهن المرحة. وتحدثت إلى قلبي، ولم أكن أبغي ذلك الحديث، فسعدت به. وكثيراً ما لزمت الصمت وأسبلت العين حين كان هكتور يحييني، وحرصت كل الحرص على أساليب الحياة الطيبة وعرفت أين أرشد، وأين أطيع ...
ولقد قال الناس إن ليلة واحدة تذلل المرأة وتلقيها في أحضان الرجل. فيا للعار، يا للعار! أي شفتين هاتين اللتين توردان المرأة موارد الهلكة وتسمحان للغريب أن يقبلهما؟. إن أنثى الحيوان الأعجم، إن المهرة، لا تجري خالية من الهموم إذا كان رفيقها بعيداً عنها ...
أي هكتور! يا أحب الناس إليّ، لقد كنت زوجي، وكنت كل شيء لي، كنت أميري، وحكيمي، يا أشجع الشجعان! إن رجلاً ما لم يمسني أو يقترب مني من يوم أن أخذتني من دار أبي وجعلتني زوجة لك ... وها أنت ذا قد مِتَّ وقذفت بي الحرب إلى الرق وعيش المذلة في هلاس وراء البحار الكريهة!.
وتفكر هكيبا في يوم انتقام بعيد فتأمر أندرمكي أن ترضى بسيدها الجديد لعله يسمح لها أن تربي استياناكاس، حتى يستطيع في يوم من الأيام أن يعيد بيت بريام ومجد طروادة. غير أن اليونان كانوا قد فكروا هم أيضاً في هذا، ويقبل تلثبيوس ليعلن أن استياناكاس لابد أن يموت: "لقد قرروا أن يلقي ولدك من فوق سور طروادة العالي ذي الأبراج". وينتزع الطفل من بين ذراعي أمه، وتتشبث به أندرمكي إلى آخر لحظة وتودعه وداعاً حاراً وعقلها مشتت مضطرب:
الق الموت يا أحب الناس إليّ وأعزهم عليّ، بأيدي رجال قساة غلاظ الكباد، واتركني وحيدة في هذا المكان؛ لقد كان أبوك شجاعاً مقداماً، ومن أجل هذا يقتلونك ... ولا تجد من يرحمك! ... ألا أيها المخلوق الصغير الذي تتلوى بين ذراعي، ما أزكى هذه الرائحة التي تنبعث من حول عنقك! أيها الحبيب أعبثاً ضمك هذا الصدر وغذاك، وهل إلى غير غاية قضيت الليالي قلقة أسهر عليك في مرضك حتى أضناني السهر؟ قبلني قبلة واحدة لن تتكرر بعد ذلك أبداً. امدد ذراعيك وارفع نفسك حول عنقي، قبلني الآن وضع شفتيك فوق شفتي ... آه أيها اليونان الظرفاء، لقد عثرتم على نوع من العذاب لم يعرف مثله الشرق من قبل! ... أسرعوا خذوه، جروه، ألقوه من فوق الأسوار، إن كنتم تريدون أن تلقوه من فوقها! مزقوه أيها الوحوش، عجلوا! لقد خارت عزيمتي فلست أقوى على رفع يدي لأنجي طفل من الهلاك.
ثم تأخذ في الهذيان، ويغشي عليها، ويخرج بها الجند، وحينئذ يظهر منلوس، ويأمر جنوده أن يأتوا بهلن، وكان قد أقسم ليقتلنها، وترتاح هكيبا حين تفكر أن هلن ستلقى آخر الأمر جزاءها:
أباركك يا منلوس، أباركك إن أنت قتلتها! ولكن حذار أن تنظر إلى وجهها لئلا تأسرك فتخر صريعاً!.
وتدخل هلن، لم يمسسها أحد بسوء. ولا تخش أن تمس بسوء، تزهو إذ تشعر بأنها جميلة. 

هكيبا: هل أتيت الآن مزدانة الصدر والجبين، وهل تتنفسين مع سيدك ما يتنفسه من هواء، أنت يا ذات القلب الخبيث، فليطأطأ رأسك، ولينفش شعرك، ولتمزق أثوابك، فلن يكون من تحتها شيء يرفع من شأنك، بل سيكون من داخلها ما يجللك العار لما ارتكبت من الآثام. كن صادق العزم أيها الملك، وضع على جبين هلاس تاج العدالة؛ اقتل هذه المرأة ...
منلوس: صه، أيها العجوز صه ... (ثم يلتفت إلى الجند):
أعدوا لها سفينة كبيرة متعددة الحجرات تجوب فيها البحار ....
هكيبا: إن من أحب مرة سيظل محباً على الدوام.
وحين تخرج هلن ويخرج منلوس يعود تلثبيوس يحمل جثة أستياناكس القتيل!.
تلثبيوس: لقد سحرت أندرمكي ... هذه الدموع في عيني وهي تبكي بلادها من وراء البحار. لقد نظرت إلينا، وأخذت تتحدث إلى قبر هكتور، وترجو أياً كان ما نفعله به ألا نغفل المراسم المرعية في دفن هذا الطفل ... وأمرتني أن ألفه في أربطة الموت وأثوابه وأن أضعه بين يديك ... (تأخذ هكيبا الطفل).
هكيبا: آه! أي موت لاقيت أيها الصغير! ... أيها الذراعان الرقيقان. إن صورتكما العزيزة لهي بعينها صورة ذراعيه ... ويا أيتها الشفتان اللتان يشع منهما الكبرياء، لقد انطبقتما إلى أبد الدهر! ماذا كانت تلك الكلمات الكاذبة التي نطقت بها وأنت تحبو إلى فراشي؟ لقد ناديتني بأسماء رقيقة وقلت لي: أي جدتي، سأقص شعري حين تموتين وأركب على رأس القواد إلى قبرك". لم خدعتني هذا الخداع؟ وهاأنذا، العجوز، الطريدة، الثكلى، أبكيك بالدمع الغزير، أبكي طفولتك وأبكي ميتتك التعسة. أي إلهي! وأبكي خطاك حين تجيء لترحب بي، وأبكي جلوسك في حجري، وأبكي رقادنا معاً! لقد ذهب كل هذا ولن يعود. وكيف يستطيع شاعر أن ينحت شاهد قبرك ليقص قصتك صادقة؟ 
"هنا يثوي طفل خافه اليونان، فقتلوه لأنهم خافوه". نعم، وستبارك بلاد اليونان بأجمعها القصة التي يقصها ذلك الشاهد.
ألا ما أشد غرور الإنسان، إنه يتباهى بمسراته ولا يخاف شيئاً، ومن حوله صروف الزمان ترقص رقص البلهاء في الريح! .... (تلف الطفل في أكفانه).
إن أحسن الثياب الفريجية التي كنت أحتفظ بها ليوم زواجك بإحدى ملكات الشرق بعد أن جبت البلاد القاصية للبحث عنها، إن هذه الثياب تلفك الآن إلى أبد الدهر (93) ...
وفي مسرحية إلكترا نرى الموضوع القديم قد خطا خطوات إلى الأمام فأجممنون قد مات، وأرستيز في فوسيس، وإلكترا قد زوجتها أمها بفلاح يخلص لها إخلاصاً ساذجاً، ويرهب أصلها الملكي أشد رهبة، ولا يؤثر في إخلاصه لها ورهبته إياها طول تفكيرها في أمرها وإهمالها شئونه. وبينما هي تفكر هل يعثر عليها أرستيز ويأتي إليها إذ يأمره أبلو نفسه (ويؤكد يوربديز هذه النقطة ويحرص على إبرازها) بأن يثأر لموت أجممنون. وتستفزه إلكترا، وتقول إنه إذا لم يقتل السفاح فستقتله هي، ويبحث الصبي عن إيجسثس ويقتله ثم ينقلب على أمه. وتبدو كليتمنسترا هنا عجوزاً شمطاء، ذليلة، منهوكة القوى، ويؤنبها ضميرها على جرائمها، يتنازع قلبها خوف الأطفال الذين يكرهونها وحبها إياهم في نفس الوقت، وتطلب الرحمة في غير توسل، وترضى إلى حد ما بما جوزيت به على ذنوبها. وحين ينتهي القتل يرتاع أرستيز من هول ما حدث ويقول:
شقيقتي، هل لمستها مرة أخرى، واحسرتاه غطي جسدها، وضعي عليه ثوبها الجميل، وسدي هذا الجرح الأحمر المميت. أي أماه، هل كانت نتيجة آلامك أن ولدت قاتلك (94)؟.
ويسمي يوربديز الفصل الخامس من فصول المسرحية إفجينيا في توريس أو إفجينيا بين التوريين. وفيه يبدو أن أرتميس قد وَضعت على كومة الحريق في أوليس غزالة بدل ابنة أجممنون، واختطفت الفتاة من اللهب، وجعلتها كاهنة في معبد أرتميس بين التوريين أنصاف الهمج سكان القرم. وكانت عادة التوريين أن يضحوا للآلهة بكل غريب تطأ قدمه بلادهم، وتقوم إفجينيا بدور العاملة البائسة الشقية التي تقدم الضحايا. وكانت الثمان عشرة سنة المليئة بالأحزان التي قضتها خارج بلاد اليونان قد بلدت ذهنها، وكان أبلو قد وعد أرستيز على لسان الوحي أن ينزل السكينة على قلبه إذا انتزع من التوريين صورة أرتميس المقدسة وجاء بها إلى أتكا. ويبحر أرستيز وبيلاديز ويصلان آخر الأمر إلى أرض التوريين، ويقبلهما هؤلاء الناس ويرونهما هدية طيبة أهداها البحر إلى أرتميس، ويسرعون بهما ليذبحوهما على مذبحها. وتنتاب أرستيز نوبة عصبية يخر على أثرها مغشياً عليه عند قدمي إفجينيا، وهي، وإن كانت لا تعرفه، تأخذها الشفقة عليه حين ترى رفيقين في نضرة الشباب يساقان إلى الموت:
إفجينيا: إن أحداً من الناس لم يعط علم بداية أحزانه أو نهايتها؛ ذلك أن الله خفي، وأساليبه كلها تخفيها المصادفات العمياء عنا فلا نعرفها. ألا أيها الرجلان الشقيان، من أين جئتما؟ ... ومن أمكما؟ ومن أبوكما؟ أفصحا أيها الغريبان، ومن هي أختكما إن كانت لكما أخت؟ ولم تتركانها من غير أخوة وكلاكما في ميعة الصبا ونضرة الشباب وشجاعته ... ؟
أرستيز: ألا ليت يد أختي تسبل عيني وأنا مسجي على فراش الموت!
إفجينيا: وا أسفاه، إنها تعيش تحت سماوات بعيدة، ودعاؤك أيها الشقي لا يجديك نفعاً. ولكنك من أرجوس، ومن أجل هذا فسأقدم لك كل ما في وسعي من عناية، ولن أضن عليك بشيء منها. سآتيك بثياب ثمينة تدفن فيها، وبزيت يبرد كومة حريقك حين يلفها اللهب الذهبي، وسألقي عليها الشهد الذي جمعه النحل الطنان من آلاف الأزهار الجبلية لكي يفنى معك في وسط العبير. 

وتعدهما بأن تنجيهما إذا حملا معهما إلى أرجوس رسالة تأمرهما بأن ينقشاها في ذاكرتهما.
إفجينيا. قولا "لأرستيز بن أجممنون إن التي قتلت في أويس، والتي فقدتها بلاد اليونان ولكنها لا تزال حية، إن إفجينيا تبعث إليه السلام".
أرستيز: إفجينيا! أين هي؟ أعادت من بين الأموات؟
إفجينيا: أنا هي! ولكن لا تتكلم حتى لا تفسد عليّ تدبيري. "خذني يا أخي إلى أرجوس قبل أن أموت".
ويريد أرستيز أن يضمها بين ذراعيه، ولكن الحراس يمنعونه، لأن كاهنة أرتميس لا يصح أن يمسها إنسان. ويعلن أنه أرستيز، ولكنها لا تصدقه فيقنعها بأن يذكر لها القصص التي روتها لهما إلكترا.
إفجينيا: أهذا هو الطفل الذي عرفته، الطفل الصغير قد انتقل خفيفاً كما ينتقل الطير؟. أي أرض أرجوس، أيها الموقد، أيها اللهب المقدس الذي أشعلك سكلوبس الشيخ؛ إني أباركك لأنه عاش، ولأنه نما، وصار ضياء وقوة، أخي وابن أبي، إني أبارك اسمك إلى أبد الدهر (95).
ويعرضان عليها أن ينجياها من أسرها، وتساعدهما هي على أن يأخذا صورة أرتميس. ويستطيعان بحيلتها الماهرة أن يصلا آمنين إلى سفينتهما، ويحملان التمثال إلى برورون Brauron. وفيها تصير إفجينيا كاهنة، وتصبح بعد موتها إلهة معبودة. ويتخلص أرستيز من ربات الانتقام، وينعم بالطمأنينة والسلام بضع سنين، وتروي الآلهة غليلها وتتم مسرحية أطفال تنتالوس.













مصادر و المراجع :

١- قصة الحضارة

المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)

تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر

ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين

الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس

عام النشر: 1408 هـ - 1988 م

عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید