لا مناص لنا من أن نوافق أرسطاطاليس على أن هذه المسرحيات، إذا نظرنا إليها من ناحية الفن المسرحي، لا تصل إلى المستوى الذي وضعه له إسكلس وسفكليز (96). نعم إن مسرحيات ميديا، وهبوليتس، والباخيات قد رسمت لها خطة محكمة، ولكن هذه المسرحيات نفسها لا يمكن مع ذلك أن توازن من حيث سلامة التركيب والبناء بمسرحية أرستيا، أو من ناحية الوحدة المعقدة بمسرحية أوديب الملك. ذلك أن يوربديز لا يثب دفعة واحدة إلى الحادثة الهامة في المسرحية فيعرضها ثم يفسر بعدئذ مقدماتها تفسيراً تدريجياً طبيعياً في سياق القصة، بل نراه يستخدم الوسيلة المصطنعة وسيلة المقدمة التمهيدية؛ بل يفعل ما هو أسوأ من هذا فيضعها على لسان إله من الآلهة. وهو لا يظهر لنا هذه الحادثة من بادئ الأمر كما يقضي بذلك فن التمثيل، بل نراه يأتي في كثير من الأحيان برسول يصفها وإن لم يكن فيها شيء من العنف. يضاف إلى هذه أنه لا يجعل الغناء الجماعي جزءاً من الحوادث التي تمثل، بل يحوله إلى عمل فرعي ثانوي، ويستخدمه لوقف تطور حوادث المسرحية بما يتضمنه من أغان جميلة على الدوام، ولكنها كثيراً ما تكون عديمة الصلة بتلك الحوادث. وهو لا يعرض ما يريد من آراء عن طريق الحادثات التي تتضمنها المسرحية، بل يعمد إلى استبدال الأفكار بالحادثات ويجعل المسرح مدرسة للتأمل والبلاغة والجدل. وما أكثر ما تعتمد حبكات مسرحياته على المصادفات "والذكريات" - وإن كانت الأفكار هنا حسنة التنظيم ومعروضة عرضاً مسرحياً صادقاً. وتختتم معظم مسرحيات يوربديز بإله ينزل من إله (كما كان يفعل بعض الكُتاب من قبله)، وتلك وسيلة لا يمكن أن نغتفرها له إلا إذا افترضنا أن المسرحية الحقيقية قد اختتمت قبل هذه الحيلة الدينية، وأن إله لم ينزل إلا لكي يختتم التمثيل بخاتمة فاضلة لولاها لكان في نظرهم شائناً فاضحاً (97). وقد استطاع عظماء الكتّاب الإنسانيين دون غيرهم أن يعرضوا بهذه الوسيلة مروقهم وإلحادهم على المسرح.
أما مادة المسرحية فهي، كصيغتها وشكلها، خليط من العبقرية والصناعة، وسبب ذلك أن أهم ما يمتاز به يوربديز هو الإحساس المرهف كما يجب أن يكون سائر الشعراء. وهو يحس بمشاكل الجنس البشري إحساساً قوياً ويعبر عنها تعبيراً مؤثراً عظيم الوقع في النفوس؛ ومآسيه أشد المآسي فجائع وهو أعظم كتابها إنسانية، ولكن إحساسه يكون في أغلب الأحيان مفرطاً في الحنو أو متكلفاً له؛ و "إذرافه الدمع السخين" (98) أيسر مما يجب أن يكون؛ وهو لا يدع فرصة تفلت منه ويستطيع أن يظهر فيها أماً تفارق طفلها، وينتزع كل ما يستطيع انتزاعه من العواطف من كل موقف من المواقف. وتلك المناظر دائمة الحركة، وهو يصفها في بعض الأحيان بقوة لا تعادلها قوة أي وصف من المآسي قبله أو بعده، ولكنها تنحط أحياناً إلى التمثيل الشجوي الغنائي وتتخم بالعنف والرعب كما ترى في خاتمة مسرحية ميديا. وقصارى القول أن يوربديز في بلاد اليونان هو بيرن، وشلي، وهوجو، مجتمعين، وهو بمفرده حركة إبداعية كاملة.
وهو يفوق منافسيه في تصوير الشخصيات، ويحل عنده التحليل النفسي، أكثر مما يحل عند سفكليز نفسه، محل تصاريف القضاء. وهو لا يمل من تقصي القوانين الأخلاقية والبواعث التي تحدد سلوك بني الإنسان. ويدرس أنواعاً مختلفة من الرجال: من زوج إلكترا الفلاّح إلى ملوك بلاد اليونان وطروادة؛ ولسنا نجد كاتباً مسرحياً غيره قد صور مثل ما صور هو من أصناف النساء المختلفة، أو صورها بمثل ما صورها هو من العطف عليها، فقد كان كل لون من ألوان الرذيلة أو الفضيلة يهمه ويسترعي انتباهه، فيصوره تصويراً واقعياً. وهو في هذا يختلف عن إسكلس وسفكليز، فقد كان هذان الكاتبان مستغرقين فيما هو عام وأبدى استغراقاً عجزا معه عن رؤية ما هو فردي ومؤقت سريع الزوال؛ وقد خلقاً بذلك أصنافاً من الشخصيات عميقة غير عادية، أما يوربديز فقد صور أفراداً أحياء، وحسبنا شاهداً على هذا أن أحداً ممن عاش قبله لم يتصور إلكترا بمثل الوضوح الذي تصورها هو به. وفي هذه المسرحيات نرى المسرحيات التي تمثل الصراع مع الأقدار تتخلى عن مكانها شيئاً فشيئاً إلى المسرحيات التي تمثل الموقف والأخلاق، وهي تمهد السبيل للمسلاة الخلقية التي استحوذت في القرن التالي على المسرح اليوناني على أيدي فلمون Philemon، ومنندر Menander.
مصادر و المراجع :
١- قصة الحضارة
المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)
تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر
ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين
الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس
عام النشر: 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون
تعليقات (0)