يرى أرسطوفان أن انحلال الحياة الأثينية العامة يرجع إلى شرين أساسيين هما الديمقراطية والخروج على الدين. وهو يتفق مع سقراط في أن سيادة الأمة قد انقلبت فأصبحت سيادة السياسيين؛ ولكنه كان واثقاً من أن تشكك سقراط، وأنكساغورس والسوفسطائيين قد ساعد على انحلال عرى الروابط الخلقية التي كانت في الزمن القديم عاملاً قوياً في تدعيم النظام الاجتماعي والاستقامة الفردية. وقد سخر أشد السخرية من الفلسفة الجديدة في مسرحية السحب. وخلاصتها أن رجلاً من الطراز القديم يدعى استربسياديز Stripsiades كان يبحث عن حجة يبرر بها التنصل من ديونه، فيغتبط إذ يسمع أن سقراط يدير متجراً للتفكير، يستطيع كل إنسان أن يتعلم فيه كيف يثبت كل ما يريد إثباته ولو كان خاطئاً. ويتخذ الرجل طريقة إلى مدرسة "المفكرين الأشداء"، ويرى في وسط حجرة الدرس سقراط معلقاً من السقف في سلة، ومنهمكاً في التفكير كما يرى بعض الطلاب منحنين متجهين بأنوفهم نحو الأرض:
استربسياديز: ماذا يفعل هؤلاء الناس الذين ينحنون هذا الانحناء العجيب؟
الطالب: إنهم يفحصون عن الأسرار العميقة عمق ترتروس.
استربسياديز: ولكن لم- عفواً ولكن- أجزاءهم الخلفية- لم أراهم مثبتين في الهواء على هذا النحو العجيب؟
الطالب: إن أطرافهم الأخرى تدرس الفلك.
يطلب استربسياديز إلى سقراط أن يعلمه بعض الدروس
سقراط: وبأي الآلهة تقسمون، لأن الآلهة ليست من العملة الرائجة عندنا؟.
ويشير إلى فرقة المرتلين في مسرحية السحب
إن هؤلاء هم الآلهة الحقيقيون.
استربسياديز: لكن قل لي، ألا تؤمن بزيوس؟.
سقراط: ليس لزيوس وجود.
استربسياديز: ومن الذي ينزل المطر إذن؟.
سقراط: هذه السحب، فهل رأيت مطراً ينزل من غير سحاب؟
ولو أن زيوس كان هو الذي ينزل المطر لأنزله في الجو الصحو وحين تظهر السحب ...
استربسياديز: ولكن قل لي من الذي يرسل الرعد؟ إن جسمي ليرتجف منه
سقراط: إن هذه السحب في اندفاعها تحدث الرعد.
استربسياديز: كيف؟
سقراط: إذا امتلأت بالماء واندفعت في سيرها تساقطت بقوة عنيفة بعضها على بعض وأحدثت هذه القعقعة.
استربسياديز: ولكن من الذي يسوقها؟ أليس هو زيوس؟
سقراط: كلا، إن الدوامة الأثيرية هي التي تسوقها.
استربسياديز: إذن فأعظم الآلهة كلها هي الدوامة. ولكن ما الذي يحدث قعقعة الرعد؟
سقراط: سأعلمك من حالتك أنت نفسك. ألم يحدث لك مرة ما أن امتلأت بالطعام في إحدى الولائم،
ثم اضطربت معدتك فحدثت في داخلك كركرة؟
وفي منظر أخر يلتقي فيديبديز Pheidippides بن استربسياديز بالحجة الصحيحة والحجة الباطلة مجتمعتين. وتخبره أولاهما بأن عليه أن يقلد الفضائل الرواقية التي كان يتصف بها رجال مرثون، ولكن الأخرى تشير عليه بأن يتخلق بالأخلاق الحديثة. وتسأله الحجة الباطلة: هل في الناس من نال شيئاً بالعدالة أو الفضيلة أو الاعتدال؟، وتقول: إنه إذا وجد رجل شريف ناجح وجد معه على الدوام عشرة رجال خونة ناجحين معظمين. وتضيف على ذلك قولها: انظر على الآلهة نفسها. لقد كذبت، وسرقت، وقتلت، وزنت. وهاهي ذى يعبدها اليونان جميعهم. وحين تشك الحجة الصحيحة في أن معظم الناجحين كانوا خونة، تسألها الحجة الباطلة:
من أي طبقة من الناس يخرج رجال القانون عندنا؟
الحجة الصحيحة: من بين السفهاء.
الحجة الباطلة: هذا حق. ومن أي صنف يخرج شعراؤنا كتاب المآسي.
الحجة الصحيحة: من بين السفهاء.
الحجة الباطلة: وخطباؤنا العموميون؟
الحجة الصحيحة: كلهم سفهاء.
الحجة الباطلة: انظري الآن إلى من حولك:
تلتفت وتشير إلى النظارة
أية طبقة من الطبقات تنتمي إليها الكثرة الغالبة من أصدقائنا الحاضرين هنا؟.
وتغمض الحجة الصحيحة عن النظرة في جد ووقار
الحجة الصحيحة: إن الكثرة الغالبة منهم سفهاء.
وفيدبديز تلميذ الحجة الباطلة يأتمر بأمرها ويبلغ من طاعته إياها أن يضرب أباه بحجة أنه يقوى على ضربه وأنه يستمتع بهذا الضرب، ويسأل فوق ذلك "ألم تضربني وأنا غلام؟ " ويستحلفه استربسياديز بزيوس أن يرحمه، ولكن فيدبديز يرد عليه بقوله إن زيوس لم يعد له وجود، لأن الدوامة قد حلت محله. ويستشيط الوالد غضباً، ويهيم في الطرقات، ويدعو جميع المواطنين الصالحين إلى القضاء على هذه الفلسفة الجديدة، فيهاجمون متجر التفكير ويحرقونه ولا ينجو سقراط بحياته إلا بعد جهد شديد.
ولسنا نعرف ماذا كان لهذه المسلاة من أثر في مأساة سقراط. وكل الذي نعرفه أنها مثلث في عام 423 قبل المحاكمة الشهيرة بأربع وعشرين سنة؛ ويبدو أن ما فيها من فكاهة طيبة لم يغضب الفيلسوف، بل يقال إنه ظل واقفاً طوال التمثيل (128) ليمكن أعداءه من أن يروه أوضح رؤية. ويصور أفلاطون سقراط وأرسطوفان في صورة الصديقين بعد التمثيل، وقد أوصى أفلاطون نفسه ديونيشيوس الأول ملك صقلية بهذه الأعجوبة المسلية، وظل محتفظاً بصداقته لأرسطوفان حتى بعد أن مات أستاذه (129). وقد كان ملاتوس أحد الثلاثة الذين اتهموا سقراط في عام 399 طفلاً حين مثلت المسلاة، وكان ثانيهما وهو أنيتس على وفاق مع سقراط بعد أن مثلت (130)؛ وأكبر الظن أن انتشار المسرحية بعدئذ بوصفها قطعة أدبية أضر بالفيلسوف أكثر مما أضر به التمثيل الأول. ولقد أشار سقراط في دفاعه عن نفسه- كما يرويه أفلاطون- إلى هذه المسرحية وقال عنها إنها من أكبر الأسباب التي سوأت سمعته وألبت القضاة عليه.
وكان في أثينة هدف آخر وجه إليه أرسطوفان سهام هجائه، وقد وجهها هذه المرة سهام عداوة لا تنطفئ نارها. ذلك أنه لم يكن يثق بتشكك السوفسطائيين؛ أو بالفردية الأخلاقية، والاقتصادية، والسياسية التي كانت تنخر في عظام الدولة؛ أو بالدعوة النسائية العاطفية التي ترمي إلى مساواة النساء بالرجال، والتي كانت تثير ثائرة النساء؛ أو بالاشتراكية التي كانت تعمل عملها بين الأرقاء. لقد رأى هذه المبادئ كلها واضحة أجلى وضوح في يوربديز، واعتزم أن يقضي بالضحك والسخرية على ما كان للكاتب المسرحي الكبير من أثر في العقلية اليونانية.
وبدأ يعمل لهذه الغاية في عام 411 بمسرحية أسماها السموفريزوسيات The smophoriazusae. وقد اشتق هذا اللفظ من اسم النساء اللائى كن يحتفلن بعيد دمتر وبرسفوني عن طريق الامتناع الجنسي. وفيه يجتمع عبادهما ليناقشن آخر ما سخر به يوربديز من بنات جنسهن، ويدبرن أمر الانتقام منه. وتترامى أنباء هذه الخطة إلى يوربديز فيشير على نسيلكس Mnesilochus والد زوجته بأن يلبس ثياب النساء ويدخل الاجتماع ليدافع عنه. وتشكو أولاهن من أن الكاتب المسرحي قد حرمها من وسيلة كسب عيشها؛ فقد كانت من قبل تصنع أكاليل الزهر للهياكل، فلما أن قال يوربديز إنه لا وجود للآلهة، كسدت تجارتها. ويدافع نسيلكس عن يوربديز بقوله إن أسوأ ما قاله عن النساء حق لا مراء فيه، وإنه أخف مما تعرفه النساء أنفسهن من أخطائهن. وترتاب النساء في أن هذا الطعن في النساء صادر عن امرأة، فيمزقن ثياب نسيلكس، ولا يستطيع النجاة من تمزيق جسمه إرباً إلا بأن يختطف طفلاً رضيعاً من بين ذراعي امرأة، وينذرهن بأنه سيقتله إذا مسسنه هو بسوء. ولكنهن لا يعبأن بهذا التهديد ويهجمن عليه، فيخلع عن الطفل لفافته، فيجد أنه زق خمر قد لف في ملابس طفل هرباً من أداء ضريبة الإيراد. ويقول إنه رغم هذا سيقطع عنقه وتحزن لهذا صاحبة الزق وتصيح قائلة: "سألتك ألا تتلف زقي العزيز، فإن كنت لا بد فاعلاً فجيء بجفنة تتلق فيها دماءه". ويحل نسيلكس المشكلة بأن يشرب الخمر، ويرسل في الوقت نفسه دعوة إلى يوربديز بأن يخف لإنقاذه من ورطته. وخليق بنا أن نقول بهذه المناسبة إن يوربديز يظهر في أجزاء مختلفة من مسرحياته- في صورة منلوس، أو برسيوس، أو إكو Echo. وفي هذه المرة يفلح أخيراً في تمكين نسيلكس من الهرب.
ويعود في مسرحية الضفادع إلى مهاجمة يوربديز رغم موته. ذلك أننا نرى ديونيشس إله المسرحية غاضباً على من بقي حياً في أثينة من كُتاب المسرحيات، فينزل إلى الجحيم ليعود بيوربديز. وتلتقي به وهو ينتقل في قارب إلى العالم السفلي طائفة من الضفادع فتحييه بنقيقها تحية لا نشك في أن شباب أثينة ظل يتندر بها شهراً كاملاً. ولا ينسى أرسطوفان أيضاً أن يسخر من ديونيشس ولا يخشى من تمثيل طقوس إلوسبز تمثيلاً ساخراً. ذلك أن الإله حين يصل إلى العالم السفلي يجد يوربديز يحاول خلع إسكلس عن زعامة كُتاب المسرحيات جميعهم. ويتهم إسكلس يوربديز بأنه يعمل على نشر التشكيك، والحيل القانونية الخطرة، وعلى إفساد أخلاق نساء أثينة وشبابها. ويقول إن من سيدات الطبقة العليا من قتلن أنفسهن لأنهن لم يطقن سماع بذاءة يوربديز. ثم يؤتى بميزان ويلقي كل شاعر في إحدى كفتيه أبياتاً من مسرحياته. وترجح عبارة قوية من عبارات إسكلس على اثنتي عشرة عبارة من عبارات يوربديز (وهذا هجاء في الشاعر الشيخ نفسه). ويعرض إسكلس آخر الأمر أن يقفز الشاعر الشاب إلى إحدى الكفتين ومعه زوجه، وأبناؤه، ومتاعه، ويقول إنه يؤكد أن بيتاً واحداً من الشعر يرجح عليهم جميعاً. ويخسر المتشكك العظيم في آخر الأمر المباراة، ويعود إسكلس إلى أثينة منتصراً (1). وقد منح القضاة هذه المقالة الأولى في النقد الأدبي الجائزة الأولى، وبلغ من سرور النظارة بها أن أعيد تمثيلها مرة أخرى بعد بضعة أيام.
وكذلك وجه أرسطوفان سخريته إلى الحركة المتطرفة بوجه عام في مسرحية متوسطة القدر تدعى الإكليزيازوسيات The Ecclesiazusae أي نساء الجمعية (393). وموضوعها أن نساء أثينة يتخفين في زي الرجال، ويملأن مقاعد الجمعية، وترجح أصواتهن على أصوات أزواجهن، وإخوتهن، وأبنائهن، ويختار منهن حكام الدولة. وتتزعم هذه الحركة امرأة تدعى براكساغورا Praxagora شديدة التحمس لنيل النساء حقوقهن السياسية، وتتهم بنات جنسها بالغفلة لأنهن يرضين بأن يحكمهن الرجال البلهاء. وتقترح أن تقسم الثروة بالتساوي بين المواطنين على أن يترك الأرقاء من غير أن يفسدهن الذهب. ويتخذ الهجوم على "المدينة الفاضلة" صورة أخف من هذه وأرحم في مسرحية الطيور أرقى مسرحيات أرسطوفان جميعها (414). ومضمونها أن اثنين من مواطني أثينة يستولي عليهما اليأس، فيتسلقان إلى مسكن الطيور، يأملان أن يجدا فيه الحياة المثالية التي ينشدانها. ويستعينان بالطيور على بناء مدينة فاضلة بين الأرض والسماء تدعى نفلوككسيجيا Nepheloccygia أي "أرض وَقْوقَ السحاب". وتوجه الطيور مجتمعة خطابها إلى الآدميين في نشيد لا يفوقه أي نشيد آخر وضعه شعراء المآسي تقول فيه: أي بني الإنسان، يا قصار الأجل، ويا من تملأ الأحزان حياتكم يوماً بعد يوم، يا عراة، يا منزوعي الريش، يا ضعاف الأجسام، يا كثيري النزاع، يا مرضى، يا من تنتابكم النوائب، يا من خلقتم من طين! استمعوا إلى أقوال السادة الطيور، الخالدة، مالكة الهواء، التي تشرف من علِ بأعينها الرحيمة، على ما بينكم من نزاع، وشقاء، وكدح، وقلق.
وتضع الطيور خطة لمنع كل الاتصال بين الآلهة والبشر، ولا تسمح بأن تصعد القرابين إلى السماء. وتقول المصلحة منها إن الآلهة القدامى لن تلبث أن تموت جوعاً فتسود الطيور. ثم تخترع آلهة جدد على صورة الآدميين عن عروشها، ثم يأتي آخر الأمر وفد من أولمبس يسعى لعقد هدنة، ويقبل زعيم الطير أن يتزوج من خادمة زيوس، وتختتم المسرحية بهذا الزواج الموفق.
مصادر و المراجع :
١- قصة الحضارة
المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)
تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر
ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين
الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس
عام النشر: 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون
تعليقات (0)