المنشورات

الفنان والمفكر

أرسطوفان مزيج من الجمال والحكمة والقذارة لا نستطيع أن نحدد الصنف الذي ينتمي إليه من الناس. كان في وسعه إذا اعتدل مزاجه أن يكتب أغاني من الشعر اليوناني الخالص الرصين، لم يستطع مترجم حتى الآن أن ينقله بروعته إلى لغة غير لغته الأصلية. وحواره هو الحياة نفسها، أو لعل أكثر سرعة، وأعظم طلاوة، وأشد قوة مما تجرؤ أن تكون عليه الحياة، وهو يشبه ربليه Rabelais وشكسبير، ودكنز، في قوة أسلوبه وحيويته، وشخصياته كشخصياتهم أصدق تصويراً للعصر الذي عاش فيه من جميع ما ألفه المؤرخون في ذلك العصر؛ ويفوح منها شذاه أقوى مما يفوح من هذه المؤلفات كلها مجتمعة؛ وليس في وسع أحد أن يعرف الأثينيين حق المعرفة إذا لم يكن قد قرأ مسرحيات أرسطوفان. ومع هذا فإن حبكات مسرحياته هزأة سخيفة، جمع أطرافها بإهمال يكاد أن يكون مرتجلاً. وتراه في بعض الأحيان يستنفد موضوع المسرحية الرئيسي قبل أن يبلغ منتصفها، ويتعارج ما بقي منها على عكازتي المجون والهزل حتى يصل إلى نهايتها. والفكاهة في العادة من النوع الدنيء؛ مثقلة بالجناس السهل الساذج، وتطول حتى لا يطيق الإنسان طولها، وكثيراً ما تستعار عباراتها من عمليات الهضم، والتكاثر، والتبرز. ففي مسرحية الأركانيين تسمع عن شخص لا ينقطع ساعة عن التبرز طيلة ثمانية أشهر (131). وفي السحب نرى فضلات الإنسان الكبيرة تمتزج بالفلسفة العليا (132)، ولا تمر صفحة إلا نجد في التي تليها أردافاً، وصدراً، وغدداً تناسلية، وسفاداً، ولواطاً، واستنماءً، كل ذلك يعرض علينا (133)؛ ثم نراه يتهم منافسه الشيخ أقراطينوس Cratinus بسيأ البول ليلاً (134). وهو بهذا كله أكثر الشعراء القدامى شبهاً بأهل هذه الأيام لأن الإسفاف والبذاءة لا يختص بهما عصر من العصور. وإذا ما تحدثنا عنه بعد حديثنا عن مؤلف يوناني سواه - وبخاصة بعد حديثنا عن يوربديز - بدا لنا مسفاً إلى حد تشمئز منه النفس وتنقبض، حتى ليصعب علينا أن نتصور أن النظارة الذين يستمعون إلى أحدهما هم بعينهم الذين يستمعون إلى الآخر.
وإذا كنا محافظين صادقين أطقنا هذا كله، وحجتنا في ذلك أن أرسطوفان يهاجم التطرف بكافة أشكاله، ويستمسك مخلصاً بالفضائل والرذائل القديمة أياً كان نوعها. وهو على ما نعلم أحط الكُتاب اليونان جميعهم خلقاً، ولكنه يأمل أن يعوض هذا النقص بمهاجمة الفساد الخلقي، ونراه دائماً إلى جانب الأغنياء، ولكنه يشتهر بالجبن؛ ويكذب كذباً يؤسف على يوربديز حياً وميتاً، ولكنه يهاجم الغدر والخيانة؛ ويصف نساء أثينة بالفظاظة إلى حد غير معقول، ولكنه يشهر بيوربديز لأنه يفتري ويسخر بالآلهة سخرية جريئة (1). وإذا وازنا بينه وبين سقراط التقي لم نجد بداً من أن نصوره كافراً مهزاراً، لكنه رغم هذا يدعو بقوة إلى الدين ويتهم الفلاسفة بأنهم يعملون للقضاء على الآلهة. لكن تصوير كليون ذي السلطان القوي تصويراً هزلياً، وكشف عيوب ديموس أمام ديموس نفسه يتطلبان شجاعة حقة؛ وتبين الخطر الشديد الذي يتهدد حياة أثينة من جراء اتجاه الدين والأخلاق من التشكك السوفسطائي إلى الفردية الأبيقورية، نقول إن تبين هذا الخطر يتطلب كثيراً من الفطنة ونفاذ البصيرة. ولعل أثينة كان يصلح حالها لو أنها عملت ببعض نصائحه، ولم تشتط في نزعتها الاستعمارية، وعقدت صلحاً مبكراً مع إسبارطة، وخففت بزعامة أرستقراطية ما فشا في الديمقراطية التي قامت بعد عصر بركليز من فوضى وفساد.
ولقد أخفق أرسطوفان لأنه لم يكن جاداً في نصائحه إلى الحد الذي يحمله على العمل بها. وكان إسرافه في تمثيل الدعارة وفي الشتائم من الأسباب التي أدت إلى تحريم الهجو الشخصي؛ ومع أن القانون الذي صدر بهذا التحريم قد ألغى بعد قليل من الوقت، فإن "المسلاة القديمة" ذات النقد السياسي قد ماتت قبل موت أرسطوفان (385)، وحلت محلها في مسرحياته الأخيرة نفسها "المسلاة الوسطى" مسلاة الأخلاق والغرام. لكن الحيوية التي كانت تمتاز بها المسلاة اليونانية قد اختفت باختفاء ما كان فيها من إسراف ووحشية، وظهر فليمون ومناندر واختفيا وعفا ذكرهما، أما أرسطوفان فقد ظل باقياً رغم تبدل المبادئ الأخلاقية والأنماط الأدبية، حتى وصل إلى عصرنا هذا ومعه إحدى عشرة مسرحية من مسرحياته الاثنتين والأربعين كاملة لم ينقص منها شيء. ولا يزال إلى هذا اليوم حياً في هذه المسرحيات رغم ما يعترض فهمها وترجمتها من صعاب. وإذا ما استطعنا أن نسد أنوفنا حتى لا يؤذيها فحشه وبذاءته استطعنا أن نقرأ مسرحياته بكثير من البهجة الدنسة.













مصادر و المراجع :

١- قصة الحضارة

المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)

تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر

ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين

الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس

عام النشر: 1408 هـ - 1988 م

عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید