وانضمت بلاد اليونان كلها إلى هذا الطرف أو ذاك من الطرفين المتنازعين، فانضمت دول البلوبونيز ما عدا أرغوس إلى إسبارطة، وحذت حذوها كورنثة، وميغارا وبؤونية، ولكريس، وفوسيس. أما أثينة فقد قدمت لها المدائن الأيونية واليكسينية، والجزائر الإيجية في بادئ الأمر بعض معونتها. وكانت المرحلة الأولى من مراحل تلك الحرب كالمرحلة الأولى من الحرب العالمية الكبرى في هذه الأيام (1) صراعاً بين القوتين البحرية والبرية، فقد ضرب الأسطول الأثيني مدن البلوبونيز الساحلية، وأما الجيش الإسبارطي فغزا أتكا واستولى على غلاّتها وأتلف تربتها. ودعا بركليز سكان أتكا إلى الاعتصام داخل أسوار أثينة، وأبى أن يخرج جيوشه للقتال، ونصح الأثينيين الذين هاج هائجهم بأن يصبروا ويصابروا حتى ينتصر أسطولهم.
وقد كان هذا تدبيراً سديداً من الناحية العسكرية الفنية، ولكنه غفل عن عامل كاد أن يحسم النزاع. فقد كان ازدحام أثينة بأهل أتكا سبباً في تفّشي وباء فيها - لعله الملاريا (11) - في عام 430 دام قرابة ثلاث سنين، وأهلك ربع جنودها، وعدداً كبيراً من أهلها المدنيين (2). واستولى اليأس على قلوب الأهلين لما لحقهم من العذاب بسبب الوباء والحرب فاتهموه بأنه أصل كليهما. وتقدم كليون وغيره للقضاة متهمين بركليز بأنه أساء التصرف في الأموال العامة؛ وإذا كان قد استخدم أموال الدولة كما يبدو في إرشاء ملوك إسبارطة لعقد الصلح، فقد عجز من أن يقدم حساباً مقنعاً عما تصرف فيه من الأموال؛ وثبتت عليه التهمة، وأخرج من منصبه، وفرضت عليه غرامة باهظة مقدارها خمسون وزنة (000ر300 ريال أمريكي). وفي ذلك الوقت عينه أو حواليه ماتت أخته ومات اثنان من أبنائه الشرعيين بالوباء. لكن الأثينيين لم يجدوا لهم زعيماً يخلفه فأعادوه إلى منصبه (429)؛ وأرادوا أن يظهروا تقديرهم له وعطفهم عليه في محنته، فخرقوا قانوناً كان هو واضعه، ومنحوا ابناً له من اسبازيا حقوق المواطنية الأثينية. ولكن الأثيني الطاعن في السن كان هو نفسه قد أصيب بالوباء، ووهنت قواه يوماً بعد يوم ومات بعد بضعة أشهر من عودته إلى منصبه. ولقد وصلت أثينة في عهده إلى ذروة مجدها، وصلت إليها بفضل الثروة التي أفاءها عليها حلف كاره من جهة، وبفضل القوة التي أوغرت عليها صدور الدول جميعاً من جهة أخرى، ولهذا فإن القواعد التي رست عليها دعائم العصر الذهبي لم تكن سليمة، وكان لا بد أن تتقوض حين عجزت السياسة الأثينية عن تسيير دفة الحكم في زمن السلم.
ولعل أثينة، كما يشير توكيديدز، كانت تستطيع أن تظفر بالنصر رغم هذا العجز، لو أنها ظلت تسير على خطة فابيوس Fabius التي وضعها بركليز. ولكن خلفاءه تعجلوا في تنفيذ منهاج كان يتطلب كثيراً من ضبط النفس. فقد كان زعماء الحزب الديمقراطي الجدد تجاراً من نمط كليون تاجر الجلود، ويكراتيز Eucrates بائع الحبال، وهيبربولس Hyperbolus صانع المصابيح. وكان هؤلاء الرجال يدعون إلى مواصلة الحرب في البر والبحر، وكان كليون أقدرهم جميعاً وأعظمهم كفايةً، وأفصحهم لساناً، وأكثرهم استهتاراً بالمبادئ الأخلاقية، وأشدهم فساداً. ويصفه بلوتارخ بأنه "أول خطيب من الأثينيين خلع رداءه وضرب على فخذه وهو يخاطب الجماهير" (12)؛ ويقول أرسطاطاليس إن كليون كان شديد الحرص على الظهور على المنصة في ثياب العمال (13). وكان على رأس عدد كبير من الزعماء الشعبيين حكموا أثينة منذ مات بركليز إلى أن فقد الأثينيون استقلالهم يوم قيرونة Chaeronea (335) .
وأثبت كليون كفايته عام 425 حين حاصر الأسطول الأثيني جيشاً إسبارطياً في جزيرة اسفكتيريا Sphacteria القريبة من بيلس Pulus المسينية. ولاح أنه لا يوجد قائد بحري يستطيع الاستيلاء على الحصن، فلما أن عهدت الجمعية إلى كليون الإشراف على الحصار (وكانت ترجو بعض الرجاء أن يقتل في الهجوم عليه)، أدهش الناس كلهم بتوجيه الهجوم بمهارة وشجاعة أجبرتا اللسدمونيين على الاستسلام على غير عادتهم. وأذل هذا الاستسلام إسبارطة فطلبت الصلح والتحالف مع أثينة نظير الإفراج عن أسراها، ولكن كليون استطاع بفصاحته الخطابية أن يقنع الجمعية بأن ترفض هذا العرض وأن تواصل الحرب. وقويت سيطرته على الجماهير بعد أن عرض على الجمعية اقتراحاً أجازته من فورها يعفي الأثينيين فيما بعد من أداء الضرائب التي تتطلبها مواصلة الحرب، على أن يؤخذ ما يلزمها من المال بزيادة الخراج الذي تؤديه المدن الداخلة في نطاق الإمبراطورية (424). وكانت السياسة التي يسير عليها كليون في هذه المدن، كالسياسة التي يسير عليها في أثينة، هي أن يستولي من الأغنياء على أكبر قدر يجده عندهم من المال. ولما أن ثارت الطبقات العليا في متليني، ونبذت الحكم الديمقراطي، وأعلنت تحرر لسيوس من ولائها لأثينة (429)، اقترح كليون أن يقتل جميع الذكور البالغين من سكان المدينة العاصية. ووافقت الجمعية على هذا الاقتراح - ولعل الذين حضروا هذه الجلسة لم يكونوا سوى العدد القانوني الذي يصح أن تعقد بحضوره - وأرسلت سفينة تحمل أوامره بتنفيذه إلى باكيز Paches القائد الأثيني الذي قمع الثورة. ولما أن ذاع نبأ هذا الأمر الوحشي في أثينة، دعا العقلاء المعتدلون إلى عقد اجتماع ثان للجمعية، واستصدروا منها قراراً بإلغاء القرار السابق، وأرسلوا سفينة أخرى أدركت باكيز قبيل تنفيذ أمر المذبحة. وبعث باكيز إلى أثينة ألفاً من زعماء الثوار، قتلوا عن آخرهم إجابة لاقتراح كليون وجرياً على سنة ذلك العصر (14). وكفر كليون على ذنبه بأن مات في الميدان وهو يحارب البطل الإسبارطي براسيداس Brasidas الذي كان يستولي على المدن في شمال بلاد اليونان الأصلية والخاضعة لأثينة أو المتحالفة معها مدينة في إثر مدينة. وهذه الحرب هي التي خسر فيها توكيديدز منصبه البحري ومسكنه في أثينة من جرّاء تباطؤه في إنقاذ أمفبوليس المدينة التي كانت تتحكم في مناجم الذهب في تراقية. وقتل براسيداس في هذه الحرب نفسها، فلم تجد إسبارطة زعيماً يستطيع مواجهة الهيلوتيين الذين كانوا يهددونها بالثورة فعرضت الصلح مرة أخرى على أثينة، وانصاعت أثينة للمرة الأولى لنصيحة الزعيم الألجركي فوقعت صلح نيشياس (421). ولم تكتف المدن المتحاربة بأن تعلن انتهاء الحرب، بل وقعت شروط حلف يستمر خمسين عاماً، وتعهدت أثينة أن تخف لمساعدة إسبارطة إذا ما ثار عليها الهيلوتيون (15).
مصادر و المراجع :
١- قصة الحضارة
المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)
تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر
ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين
الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس
عام النشر: 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون
تعليقات (0)