واجتمعت ثلاثة عوامل حولت هذا العهد الذي أخذته المدن اليونانية على نفسها بأن تدوم المودة بينها خمسين عاماً كاملة إلى هدنة مؤقتة لم تدم إلا ست سنين. وهذه العوامل الثلاثة هي: الفساد الذي طرأ على السلم فجعله "حرباً بوسائل أخرى؛ وقيام ألقبيادس على رأس حزب ينادي بامتشاق الحسام؛ ومحاولة أثينة الاستيلاء على المستعمرات الدورية في صقلية، ورفض حلفاء إسبارطة أن يوقعوا شروط الاتفاق مع أثينة، وانشقوا عليها بعد أن ذهبت قوتها، وحولوا ولاءهم إلى أثينة. واحتفظ ألقبيادس في أثينة بالسلم رسمياً، ولكنه كان في واقع الأمر يعد العدة لمحاربة إسبارطة، وحشد المدن اليونانية الموالية لأثينة في واقعة دارت رحاها عند منتينيا Mantinea (418) . وانتصرت إسبارطة في المعركة، وعقدت المدن اليونانية هدنة أخرى على الرغم منها.
وفي هذه الأثناء سيَّرت أثينة أسطولاً إلى جزيرة ميلوس الدورية تطلب إليها أن تكون دولة خاضعة لسلطان الإمبراطورية الأثينية (416). ويقول توكيديدز - وأكبر الظن أن المؤرخ الذي فيه يخضع للفيلسوف السوفسطائي أو الطريد المنتقم - إن الرسل الأثينيين لم يبرروا اعتداءهم بأكثر من قولهم إن القوة هي الحق: "لقد أملت علينا الآلهة وعلمنا الناس أن هؤلاء وأولئك يحكمون أينما استطاعوا وفقاً لقانون محتوم متأصل في طبيعتهم، ولسنا نحن أول من سنّ هذا القانون أو عمل به؛ لقد وجدناه قائماً من قبلنا، وسنتركه قائماً سرمدياً من بعدنا؛ وكل ما نستطيع أن نفعله أن نسير على سننه، لأنا نعرف أنكم أنتم وكل من عداكم من الناس ستفعلون فعلنا إذا أوتيتم ما أوتينا من قوة" (16). وأبى أهل ميلوس أن يخضعوا وأعلنوا أنهم سيفوضون أمرهم إلى الآلهة ويضعون فيها ثقتهم. ولما أن وصلت بعدئذ إلى الأسطول الأثيني إمدادات لا قبل لهم بها استسلموا للغزاة الفاتحين بلا شرط ولا قيد. وأعدم الأثينيون كل من وقع في أيديهم من الذكور البالغين، وباعوا النساء والأطفال بيع الرقيق، وأقطعوا الجزيرة لخمسمائة من المستعمرين الأثينيين. وابتهجت أثينة بهذا الفتح المبين، وشرعت من ذلك الحين تبرهن، بما مَثل بين جدرانها من مآس حية، على ذلك المبدأ الذي مَثله كُتابها على المسرح، وهو أن الانتقام الإلهي يتعقب الانتصار الوقح.
وكان ألقبيادس ممن أيدوا في الجمعية القرار الماضي بإعدام الذكور من أهل ميلوس (17). وكان تأييده لكل اقتراح أياً كان نوعه يكفي في الغالب لإقراره، لأنه كان وقتئذ أقوى رجل في أثينة، تعجب به لفصاحة لسانه، وبهاء طلعته، وعبقريته المتعددة الكفايات، بل تعجب به أيضاً لعيوبه وجرائمه. وكان أبوه أقلينياس Cleinias الثري قد قتل في واقعة كورونيا Coronea، وكانت أمه وهي القميونية Alemaeonid تمت بالقرابة إلى بركليز، قد أقنعت ذلك السياسي أن يربي ألقبيادس في منزله. وكان الغلام مشاكساً، ولكنه ذكي شجاع، حارب وهو في سن العشرين بجانب سقراط في بوتيديا Potidaea، وحارب في السادسة والعشرين من عمره في واقعة دليوم Delium (424) . ويبدو أن الفيلسوف كان يحس بعطف قوي على الغلام، وأنه ردّه إلى الفضيلة، كما يقول بلوتارخ، بألفاظ، "بلغ من تأثيرها في ألقبيادس أن استدرت الدمع من عينيه، وأقلقت باله، ولكنه مع ذلك كان يسلم نفسه أحياناً للمتملقين، حين كانوا يعرضون عليه ألواناً من الملاذ، فيهجر سقراط، ويأخذ الفيلسوف في مطاردته كأنه عبد آبق" (18).
وكانت بديهة الشاب الوقّادة ومجونه حديث الناس في أثينة وموضع دهشتهم وإعجابهم. ولما أن عاب عليه بركليز تكبره واستبداده برأيه بقوله إنه لم يفعل فعله هو مع أنه هو الآخر كان زلق اللسان في صباه، رد عليه ألقبيادس بقوله: "أشد ما آسف له أنني لم أعرفك حين كان عقلك في عنفوانه" (19). وأراد مرة أن يرد على تحدي أحد رفاقه المتهورين الصخابين فصفع رجلاً من أغنى الأثينيين وأشدهم بطشاً يدعى هبونكس Hipponicus على وجهه، ثم دخل في اليوم الثاني بيت ذلك العظيم، وخلع ملابسه، ورجا هبونكس أن يضربه بالسوط عقاباً له على فعلته. وتأثر الشيخ بفعل الشاب فزوجه بابنته هبريتي ومهرها بعشر وزنات، وأقنعه ألقبيادس بأن يضاعف المهر وأنفق معظمه على نفسه، وعاش عيشة بلغت من الترف درجة لم تعرف أثينة مثلها من قبل. فقد ملأ بيته بالأثاث الثمين، واستخدم الفنانين في رسم الصور على الجدران، وجمع طائفة من جياد السباق، فاز بها مراراً في سباق المركبات في أولمبيا. وقد فازت خيله في إحدى هذه المباريات بالجوائز الأولى والثانية والرابعة فما كان منه إلا أن أولم وليمة لجميع أعضاء الجمعية (20). وكان في بعض الأحيان يعد السفن ويؤدي نفقات الممثلين من ماله الخاص، وإذا ما طلبت الدولة تبرعات للحرب من أبنائها كان هو أكبر المتبرعين.
ولم يكن ألقبيادس يتقيد بواعز من ضمير أو عرف أو خوف، ولهذا كان يعبث في صباه وكهولته عبثاً بهيمياً، وكأن أثينة بقضها وقضيضها كانت تستمتع معه بسعادته. وكان يتلعثم قليلاً في نطقه تلعثماً بلغ من سحره أن أصبح التلعثم الطراز الشائع بين شباب أثينة العصريين، واحتذى مرة طرازاً جديداً من الأحذية، فلم يلبث شباب المدينة الأثرياء المتأنقون أن لبسوا أحذية ألقبيادس؛ وقد خرج على مائة قانون، وأساء إلى مائة رجل، ولكن أحداً لم يجرؤ على مقاضاته. وقد بلغ من حب السراري له أن نقش على درعه الذهبي صورة لإله الحب وإلى جانبه صاعقة كأنه يعلن بذلك انتصاراته في الحب (21)، وصبرت زوجته على خياناته صبر الكرام، فلما تمادي فيها عادت إلى منزل أبيها وأخذت تستعد لمقاضاته طلباً للطلاق، ولما ظهرت أمام الأركون، احتضنها ألقبيادس، وسار بها إلى منزله مخترقاً السوق العامة دون أن يجرؤ إنسان على اعتراضه، فلم يسعها والحالة هذه إلا أن تطلق له العنان، وأن تقنع منه بفتات حبه، ولكن موتها المبكر يوحي بأنها ماتت كسيرة القلب بسبب خياناته الزوجية.
ولما أن دخل ميدان السياسة بعد موت بركليز لم يجد فيه إلا منافساً واحداً له، هو نيشياس الثري التقي. ولكن نيشياس كان ضالعاً مع طبقة الأشراف جانحاً للسلم، ومن أجل هذا شرع ألقبيادس يخص بعطفه طبقات التجار، ويدعو إلى النزعة الاستعمارية دعوة أثارت كبرياء الأثينيين. وكان صلح نيشياس مشيناً في نظره لأنه يحمل اسم منافسه. ولما اختير في عام 520 قائداً من عشرة قوّاد بدأ يضع تلك الخطط الطموحة التي قذفت بأثينة مرة أخرى في معمعان القتال، ولما أن هتفت له الجمعية ابتهج لهتافها تيمن Timon كاره المجتمع وتنبأ بما سوف يحل بها من الفواجع (22).
مصادر و المراجع :
١- قصة الحضارة
المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)
تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر
ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين
الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس
عام النشر: 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون
تعليقات (0)