كان خيال ألقبيادس هو الذي أفسد عمل بركليز. ذلك أن أثينة قد انتعشت بعد ما حل بها من كوارث الحرب، وأخذت التجارة تدر عليها ثروة جزائر بحر إيجة. لكن القانون الطبيعي الذي يخضع له كل كائن حي هو قانون النماء الذاتي؛ فأما المطامع والإمبراطوريات فلا تقنع أبداً بما تبلغ، ولا تقف أبداً عند حد. وكان ألقبيادس يطمع في أن يبني لأثينة إمبراطورية جديدة في مدائن إيطاليا وصقلية الغنية، حيث تستطيع أن تجد الغلال، والمواد، والرجال، وحيث تستطيع أن تسيطر على موارد الطعام في البلوبونيز، وتضاعف الخراج الذي كان يوشك أن يجعلها أعظم المدن اليونانية. ولم يكن في وسع أية مدينة أن تنافسها غير سرقوصة، ولم تكن هي تطيق التفكير في هذه المنافسة، وكانت ترى أنها إن استولت على سرقوصة خضع لسلطانها جميع حوض البحر الأبيض المتوسط الغربي، ونالت أثينة من المجد ما لم يحلم به بركليز نفسه.
وحدث في عام 427 أن حذت صقلية حذو بلاد اليونان الأصلية فانقسمت إلى معسكرين متنازعين، تتزعم أحدهما سرقوصة الدورية، وتتزعم الأخرى ليونتيني Leontini الأيونية. وأرسلت ليونتيني غورغياس إلى أثينة يستنجدها، ولكن أثينة كانت وقتئذ أضعف من أن تغيث مستغيثاً.
وفي عام 416 أرسلت سجستا رسلاً إلى أثينة يبلغونها أن سرقوصة تعد العدة لتخضع صقلية كلها، وتفرض عليها حكومة دورية، وتمد إسبارطة بالمؤن والأموال إذا ما تجددت الحرب الكبرى. واغتنم ألقبيادس هذه الفرصة السانحة وقال إن اليونان في صقلية منقسمون على أنفسهم انقساماً لا يرجى من ورائه لهم خير، وإن كل مدينة فيها منقسمة على نفسها، وإن من أيسر الأمور وبقليل من الشجاعة أن تضم الجزيرة كلها إلى الإمبراطورية، وإن من أوجب الواجبات أن تظل الإمبراطورية تتسع رقعتها، وإلا فلا مناص لها من أن تبدأ في الاضمحلال، وإن الشعب الذي يريد أن تكون له إمبراطورية في حاجة إلى مناوشة من آن إلى آن لتدريبه على أساليب حكم الشعوب (23). وقام نيشياس في الجمعية يعارضه ويطلب إليها ألا تستمتع لرجل يغريه بذخه بالإقدام على مشروعات التوسع الخيالية، ولكن بلاغة ألقبيادس وخيال شعب تحلل الآن تحللاً خطيراً من المبادئ الأخلاقية تغلباً على حجج نيشياس، وأعلنت الجمعية الحرب على سرقوصة ووافقت على الأموال اللازمة لإعداد أسطول ضخم لغزوها، وكأنما أرادت أن تجعل هزيمة أثينة مؤكدة فوزعت القيادة بين ألقبيادس ونيشياس.
وسارت الاستعدادات على قدم وساق مدفوعة بالحماسة الشديدة التي هي من أخص خصائص الحرب؛ وأخذ الأهلون ينتظرون سفر الأسطول ليحتفلوا به احتفالاً وطنياً عظيماً. ولكن حدث قبل اليوم المحددة لسفره بأيام قلائل حادث عجيب هز مشاعر المدينة التي كانت قد فقدت كثيراً من تقواها وإن لم تفقد شيئاً من خرافاتها وأوهامها. وتفصيل ذلك أن أشخاصاً مجهولين تسللوا في جنح الظلام وحطموا أنوف تماثيل الإله هرمس، وآذانها، وأعضاء تذكيرها. وكانت هذه التماثيل قائمة أمام المباني العامة وكثير من المساكن الخاصة رمزاً للإخصاب ووقاية لها من كل سوء. وجاء باحث متحمس يفضي إلى القوم بشهادة لا سند لها منقولة عن جماعة من الغرباء والأرقاء يقولون فيها إن هذا العبث من فعل طائفة من أنصار ألقبيادس السكارى بزعامة ألقبيادس نفسه. واحتج القائد الشاب على هذا القول وحاول أن يبرئ نفسه منه، وطلب أن يقدم إلى المحاكمة على الفور، حتى يدان أو يبرأ قبل سفر الأسطول. ولكن أعداءه الذين كانوا يتوقعون صدور الحكم ببراءته، أفلحوا في تأجيل المحاكمة. وعلى هذا أبحر الأسطول العظيم في عام 415 وقد عقد لواؤه لداعية من دعاة السلم خوار القلب يبغض الحرب، ورجل جريء من أنصار الحرب، يقف توزيع القيادة وخشية البحارة أن يكون قد استحق غضب الآلهة، حائلاً بين عبقريته وبين الجهود التي لابد من بذلها لنيل النصر. ولم تكد تمضي على سفر الأسطول بضعة أيام حتى وردت أدلة كالأدلة السابقة لا سند لها يؤديها ولا يمكن الوثوق بها تقول إن ألقبيادس وأصدقاءه قد اشتركوا في تمثيل الطقوس الإلوريتية الخفية تمثيلاً هزلياً ساخراً. وأسرعت الجمعية تدفعها الجماهير الهائجة الغاضبة، فأرسلت السفينة السريعة سلامينيا Salaminia للحاق بألقبيادس وإعادته إلى أثينة ليقدم فيها للمحاكمة. وقبل ألقبيادس الدعوة، وانتقل إلى سلامينيا؛ ولما أن رست السفينة عند ثورباي نزل إلى البر خفية وفر هارباً. فلما أن غلبت الجمعية الأثينية على أمرها أصدرت حكمها بنفيه ومصادرة جميع أملاكه. وإعدامه إذا ما استطاع الأثينيون القبض عليه. واستولى عليه الحزن إذ رأى أن مشروعاته التي تهدف إلى مجد أثينة وتوطيد دعائم إمبراطوريتها قد قضى عليها من جرّاء حكم لا يزال يعده ظالماً، فلجأ إلى البلوبونيز، وحضر إحدى جلسات الجمعية الإسبارطية، وعرض أن يساعد إسبارطة على هزيمة أثينة وإقامة حكومة أرستقراطية فيها. ويقول توكيديدز على لسانه: "أما الديمقراطية فإن العقلاء منا يعرفون حقيقة أمرها، ولست أنا أقل علماً بذلك عن أي واحد منهم، لأن عندي من أسباب الشكوى منها أكثر مما عندهم، ولكني لا أجد شيئاً جديداً أذكره عن هذا السخف المتأصل فيها" (24). وأشار على الإسبارطيين أن يسّيروا أسطولاً لمساعدة سرقوصة، وجيشاً للاستيلاء على دسيليا Deceleia - وهي مدينة في أتكا إذا استولت عليها إسبارطة تحكمت عسكرياً في أتكا بأجمعها ما عدا أثينة، فتمنع بذلك مناجم الفضة في لوريوم أن تمد أثينة بالأموال التي تمكّنها من مقاومة الغزو، حتى إذا رأت المدن الخاضعة لأثينة أن هزيمتها محققة امتنعت عن أداء الجزية. وعملت إسبارطة بهذه النصيحة.
وظهرت قوة عزيمته حين نبذ ما تعوده في حياة الترف وعاش كما يعيش الإسبارطيون متقشفاً، مقتصداً، متحفظاً، يأكل غليظ الطعام، ويلبس خشن الثياب، ويسير حافي القدمين، ويستحم في نهر اليوروتاس Eurotas صيفاً وشتاءً، ويطيع قوانين لسدمونيا وعاداتها عن وفاء وإخلاص. لكن طلعته البهية، وجاذبيته رغم هذا كله أفسدتا عليه خططه، فقد هامت الملكة بحبه، وحملت منه بولد، وأسرّت إلى أصدقائها في زهو وفخار أنه أبوه. واعتذر هو لأصدقائه عن فعلته هذه بأنه لم يستطع أن يقاوم رغبته في أن يكون ملوك لكونيا من نسله. وجاء الملك أجيس إلى بلده، وكان متغيباً عنه مع جيشه. وعلم ألقبياس بذلك فحصل على منصب في قسم أسطول إسبارطة كان مسافراً إلى آسية. وتبرأ الملك من الطفل، وبعث بأوامر سرية تقضي باغتيال ألقبيادس، ولكن أصدقاءه حذروه من هذا، ففر وانضم لطشفرن Tissaphernes قائد الأسطول الفارسي في سرديس.
وكان نيشياس يواجه في الطرف الآخر من ميدان القتال مقاومة لا يستطيع التغلب عليها إلا عبقرية ألقبيادس العسكرية ومهارته في حبك الدسائس وتدبير المؤامرات. ذلك أن صقلية بأجمعها تقريباً خفت لمساعدة سرقوصة. وفي عام 414 استطاع أسطول صقلية بمساعدة أسطول إسبارطي يقوده جيبلس Gylippus أن يحصر السفن الأثينية الحربية في ميناء سرقوصة ويمنع عنها الطعام. وفقدت هذه السفن آخر فرصة أتيحت لها للخروج من هذا المأزق حين خسف القمر فارتاع لذلك نيشياس وكثيرون من جنوده وحملهم هذا الروع على أن ينتظروا فرصة أخرى أكثر من هذه إرضاء للآلهة. ولكنهم في اليوم الثاني وجدوا أنفسهم يحيط بهم أعداؤهم فاضطروا كارهين أن يخوضوا المعركة، ومنوا بالهزيمة في البحر أولاً ثم في البر بعدئذ. وحارب نيشياس رغم ضعفه ومرضه ببسالة، ولكنه أسلم نفسه آخر الأمر لرحمة السرقوصيين، فلم يكن منهم إلا أن أعدموه؛ ثم أرسل من بقي على قيد الحياة من الأثينيين، وكانوا كلهم من طبقة المواطنين، إلى العمل في مناجم صقلية، حيث ذاقوا طعم الحياة التي ظل يحياها عدة أجيال أولئك الذين ظلوا عدة قرون يكدحون في استخراج الفضة من مناجم لوريوم وهلكوا فيها كما هلك هؤلاء.
مصادر و المراجع :
١- قصة الحضارة
المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)
تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر
ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين
الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس
عام النشر: 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون
تعليقات (0)