المنشورات

انتصار إسبارطة

وقضت هذه الكارثة على روح أثينة المعنوية، فقد هلك أو استرق فيها نصف مواطنيها تقريباً، وترمّل نصف هذه الطبقة من النساء، وتيتم نصف الأطفال. ولم يكد يبقى لها شيء من الأموال التي جمعها بركليز في خزائنها، وكان عام آخر كفيلاً باستنفاد كل درهم فيها. وحسبت المدن الخاضعة لأثينة أنها ساقطة لا محالة فامتنعت عن أداء الجزية، وتخلف عنها معظم حليفاتها وانضمت الكثيرات منهن إلى إسبارطة. وفي عام 413 ادعت إسبارطة أن أثينة قد خرقت أكثر من مرة شروط صلح "الخمسين عاماً" فأعلنت إليها الحرب من جديد، واستولى اللسديمونيون في هذه المرة على ديسيليا، وحالوا دون وصول الطعام إليها من عوبية والفضة من لوريوم. وتمرد الأرقاء الذين كانوا يعملون في هذه المناجم، وانضموا بكامل عددهم البالغ عشرين ألف رجل إلى الإسبارطيين. وبعثت سرقوصة جيشاً لينضم إلى المهاجمين، ورأى ملك الفرس الفرصة سانحة ليثأر لنفسه من هزيمة مرثون وسلاميس، فأمد بالمال الأسطول الإسبارطي الناشئ، بعد أن اتفق مع إسبارطة ذلك الاتفاق المشين، وهو أن تساعد الفرس على أن يستعيدوا سيادتهم على مدائن أيونيا اليونانية (25).
ومما يدل على شجاعة الديمقراطية الأثينية وما كان فيها من حيوية أن أثينة استطاعت أن تقاوم أعداءها عشر سنين أخرى، فقد نظمت حكومتها تنظيماً راعت فيه قواعد الاقتصاد، وجدت في جميع الضرائب وفرض الإعانات لبناء أسطول جديد، فلم تكد تمضي سنة على هزيمتها في سرقوصة حتى أصبحت متأهبة لأن تنازع إسبارطة سيادتها الجديدة على البحار. ولما كاد انتعاش أثينة يبدو أمراً مؤكداً نظم الحزب الألجركي ثورة في البلاد، واستولى على أزمة الحكم وأنشأ مجلساً أعلى قوامه أربعمائة ألف (411). ولم يكن أعضاء هذا الحزب في يوم من الأيام في جانب الحرب، بل إنهم كانوا في واقع الأمر يودون لو انتصرت إسبارطة على أثينة لتنتعش فيها الأرستقراطية. واستولى الرعب على الجمعية بعد أن اغتيل كثيرون من زعماء الديمقراطية فاقترعت على أن تكفي نفسها بنفسها. وناصر الأغنياء الثورة لأنهم رأوا فيها الوسيلة الوحيدة للقضاء على حرب الطبقات التي وحدت صفوف الطبقات المتماثلة في أثينة وإسبارطة، كما وحد كفاح الطبقات الوسطى ضد الأرستقراطية أحزاب الأحرار في إنجلترا وأمريكا إبان الثورة الأمريكية. وما كاد الألجركيون يستولون على أزمة الحكم حتى أرسلوا الرسل لعقد الصلح مع إسبارطة، وأخذوا يمهدون السبيل سراً لدخول الجيش الإسبارطي في أثينة. وفي هذا الوقت تولى ثرمنيز، وهو زعيم حزب وسط من الأرستقراط المعتدلين، ثورة مضادة للثورة السالفة الذكر، واستبدل بمجلس الأربعمائة الذي تولى الحكم نحو أربعة أشهر مجلساً آخر من خمسمائة عضو (411)، واستمتعت أثينة فترة قصيرة بحكم ديمقراطي أرستقراطي مشترك كان في نظر توكيديدز وأرسطاطاليس (26) (وكلاهما من الأشراف) خير ما رأته أثينة بعد عهد صولون من أنظمة الحكم وأكثرها عدلاً. ولكن الثورة الثانية نسيت، كما نسيت الثورة الأولى، أن طعام أثينة وحياتها نفسها يعتمدان على أسطولها، الذي حرمت الثورتان رجاله عدا قليلين من زعمائهم من حقوقهم السياسية. وثارت ثائرة البحّارة حين سمعوا هذا الخبر، فأعلنوا أنهم سيحاصرون أثينة إن لم تعد إليها حكومتها الديمقراطية. وانتظر الألجركيون قدوم الجيش الإسبارطي ولكن الإسبارطيين تباطئوا شأنهم في كل مرة، وولى الحكام الجدد الأدبار، وأعاد الديمقراطيون المنتصرون الدستور القديم (411). 

وكان ألقبيادس قد أيد الثورة الألجركية سراً، وكان يرجو أن تمهد السبيل لعودته إلى أثينة، فلما عادت الديمقراطية إلى سابق عهدها استدعته إليها ووعدته بالعفو عنه؛ ولعلها كانت تجهل دسائسه، ولكنها كانت تعرف بلا ريب سيئات الحكومات التي توالت عليها بعد نفيه منها. غير أن ألقبياس أرجأ عودته ظافراً إلى أثينة، وتولى قيادة الأسطول المرابط عند ساموس، وأقدم على العمل بسرعة ونجاح سعدت بهما أثينة فترة قصيرة من الزمان. فقد اجتاز الهلسبنت مسرعاً، والتقى بأسطول إسبارطي عند سزكس Cyzicus ودمره تدميراً تاماً. (410)، ثم حاصر خلقيدون وبيزنطية حصاراً دام عاماً كاملاً استولى بعده عليهما وأعاد بذلك إلى أثينة سيطرتها على مواد الطعام المارة بالبسفور. ثم عاد بأسطوله نحو الجنوب فالتقى بعمارة إسبارطية أخرى قرب جزيرة أندروس وهزمها دون عناء. ورجع بعدئذ إلى أثينة (407)، فحياه أهلها على بكرة أبيهم أحسن تحية واستقبلوه أحسن استقبال. لقد نسوا وقتئذ ذنوبه ولم يذكروا إلا عبقريته وحاجة أثينة الشديدة إلى قائد قدير مثله (27). ولكن أثينة وهي تحتفل بانتصاراته لم ترسل إليه المال الذي يؤدي به رواتب بحارة أسطوله. وهنا أيضاً قضى على ألقبياس عدم استمساكه بالمبادئ الأخلاقية الكريمة. ذلك أنه ترك الجزء الأكبر من أسطوله عند نوتيوم Notium ( قرب إفسوس) تحت إمرة رجل يدعى أنتيكس Antiochus، وأمره أن يبقى في الميناء وألا يشتبك في القتال مهما تكن الأسباب، ثم سار هو ومعه عدد قليل من السفن إلى كاريا Caria ليجمع منها المال إلى رجاله بأساليب لا يرضى عنها القانون. وطمع أنتيكس في الشهرة فغادر الميناء، وتحدى أسطولاً إسبارطياً صغيراً بقيادة ليسندر Lysander فقبل هذا القائد التحدي، وقَتَل أنتيكس بيده وأغرق معظم سفائن الأسطول الأثيني أو استولى عليها (407). ولما علمت أثينة بهذه الفاجعة، وكان لها في الجمعية رد فعل سريع، فقد اجتمعت من فورها ووجهت اللوم إلى ألقبيادس لتركه أسطوله وعزله من قيادته. وأصبح ألقبياس يخشى أثينة وإسبارطة على السواء، فلم ير بداً من الالتجاء إلى بيثينيا Bithynia.
وأمرت أثينة في يأسها أن يصهر ما في التماثيل والقرابين القائمة على الأكربوليس من ذهب وفضة، وأن ينفق هذا كله في بناء أسطول جديد من مائة وخمسين سفينة ذات ثلاثة صفوف من المجاديف، ثم قررت أن تعتق الأرقاء، وتمنح حقوق المواطنية للغرباء، الذين يدافعون عن المدينة. وهزم الأسطول الجديد عمارة إسبارطية بالقرب من جزائر أرجنوسي Arginusae ( جنوب لسيوس) في عام 406، واهتزت مشاعر أثينة مرة أخرى بنشوة الظفر، ولكن الجمعية استشاطت غضباً حين سمعت أن قوادها (1) قد تركوا بحارة خمس وعشرين سفينة من السفن التي أغرقها العدو يموتون غرقاً على أثر عاصفة بحرية. ونادى المتحمسون أن أرواح هؤلاء الغرقى الذين لم يدفنوا طبقاً للمراسيم المرعية، ستطوف قلقة حول العالم؛ واتهموا الباقين على قيد الحياة بإهمالهم إنقاذ الغرقى، واقترحوا أن يحكم بالقتل على ثمانية من القواد المنتصرين (ومنهم ابن بركليز من أسبازيا). وتصادف أن كان سقراط عضواً في لجنة الرياسة في ذلك اليوم فأبى أن يعرض هذا الاقتراح على الجمعية. ولكنه عرض ووافقت عليه على الرغم منه، ونفذ الحكم بنفس السرعة التي صودق بها عليه. وما هي إلا أيام قلائل حتى ندمت الجمعية على فعلتها، وحكمت بالإعدام على من أقنعوها بقتل القواد. وفي هذه الأثناء عرض الإسبارطيون، بعد أن أوهنتهم الهزيمة، أن يعقدوا الصلح مرة أخرى، ولكن الجمعية الأثينية رفضت هذا العرض متأثرة ببلاغة كليوفون المخمور (28).
واتجه الأسطول الأثيني بعدئذ نحو الشمال، تحت إمرة قواد من الطبقة الثانية، ليلاقي الإسبارطيين بقيادة ليسندر في بحر مرمرة. ورأى ألقبيادس من مخبئه بين التلال أن السفن الأثينية قد اتخذت لها موضعاً شديد الخطورة عند إيجسبتماي Aegospotami قرب لمبسكس Lampascus، فما كان منه إلا أن خاطر بحياته ونزل إلى الشاطئ على ظهر جواده، ونصح أمراء البحر الأثينيين أن يبحثوا لهم عن موضع أقل تعرضاً للخطر من موضعهم؛ ولكنهم لم يثقوا بنصحه ولم يعملوا به، وذكروه بأنه لم يعد له شأن بالقيادة. وفي اليوم الثاني حدثت المعركة الفاصلة، وأغرقت فيها مائتان من سفن الأسطول الأثيني المائتين والثمان، أو استولى عليها العدو، وأمر ليسندر بقتل ثلاثة آلاف من الأسرى الأثينيين (29). وترامى إلى ألقبياس أن ليسندر قد أمر بقتله، ففر إلى فريجيا مع القائد الفارسي فرنيزوس Pharnapazus الذي وهبه قصراً وحظية. ولكن ملك فارس أمر فرنيزوس بأن يقتل ضيفه عملاً بنصيحة ليسندر. وحاصر اثنان من القتلة ألقبيادس في قصره، وأشعلا النار فيه، فخرج منه عارياً يائساً، يريد أن يقاتل دفاعاً عن حياته، ولكن سهام مهاجميه وحربتيهما اخترقت جسمه قبل أن يمسهما سيفه فقضى نحبه في السادسة والأربعين من عمره؛ وكان أعظم العباقرة في تاريخ اليونان العسكري، كما كان إخفاقه أعظم الفواجع في هذا التاريخ.
وأصبح ليسندر بعدئذ صاحب السلطان المطلق في بحر إيجة، فأخذ يتنقل بأسطوله من مدينة إلى مدينة، يقضي على الديمقراطيات ويقيم مكانها حكومات ألجركية خاضعة لإسبارطة، ثم دخل ثغر بيرية من غير أن يلقى مقاومة، وضرب الحصار على أثينة، وقاومه الأثينيون ببسالتهم المعهودة، ولكن ما كان لديهم من الطعام لم يكفهم أكثر من ثلاثة أشهر، وامتلأت طرقات المدينة بالموتى أو المحتضرين. وعرض ليسندر على أثينة شروطاً للصلح مذلة ولكنها رحيمة. فقد قال إنه لا يريد أن يخرب مدينة أدت في الماضي خدمات مشرفة إلى بلاد اليونان، ولن يريد فوق ذلك أن يستعبد أهلها، ولكنه طلب دك الأسوار الطويلة واستدعاء الألجركيين المنفيين، وتسليم جميع ما كان باقياً من أسطولها عدا ثمان سفن، وأن تقطع على نفسها عهداً بأن تساعد إسبارطة مساعدة جدية في كل حرب تخوض غمارها في المستقبل، واحتجت أثينة على هذه الشروط ولكنها قبلتها صاغرة.
واستولى الألجركيون العائدون بزعامة أقرتياس وثرمنيز على أزمة الحكم بتأييد ليسندر، وألفوا مجلساً من ثلاثين عضواً ليحكم أثينة (404). ولم يفد هؤلاء العائدون من دروس الماضي شيئاً، كما لم يفد منها آل بربون Bourbon بعد أن عادوا إلى حكم فرنسا. فقد صادروا أموال كثيرين من أغنياء التجار، وأوغروا عليهم صدورهم. ونهبوا أموال الهياكل، وباعوا بثلاث وزنات أرصفة بيرية التي كلفت أثينة ألف وزنة (30)، ونفوا من المدينة خمسة آلاف من الديمقراطيين، وأعدموا ألفاً وخمسمائة آخرين؛ وقتلوا جميع الأثينيين الذين لم يكونوا هم راضين عنهم لأسباب سياسية أو شخصية؛ وقضوا على حرية التعليم والاجتماع، والكلام؛ وحرم أقريتياس على سقراط، وقد كان يوماً ما تلميذ هذا الفيلسوف، أن يواصل أحاديثه العامة. وأراد الثلاثون أن يُعرّضوا الفيلسوف للشبهات ويضموه إلى قضيتهم فأمروه هو وأربعة غيره أن يقبضوا على ليون Leon الديمقراطي، فأطاع الأربعة أمرهم ورفضه سقراط.
وازدادت جرائم الألجركيين وتضاعفت إلى حد أنسى الأثينيين أوزار الديمقراطية، فأخذ عدد من يريدون التخلص من هذا الطغيان الدموي، ومن بينهم كثيرون من ذوي اليسار؛ يزداد يوماً بعد يوم؛ ولما أن اقترب من بيرية ألف من الديمقراطيين المدججين بالسلاح بقيادة ثرازيبولس Thrasypulus لم يكد الثلاثون يجدون من يدافع عنهم غير شيعتهم الأقربين. ونظم أقريتياس جيشاً صغيراً، وخرج هو إلى ميدان القتال فهزم وقتل. ودخل ثرازيبولس أثينة وأعاد إليها الحكم الديمقراطي (403). وسارت الجمعية بإرشاده سيراً معتدلاً لم تألفه من قبل، فلم تحكم بالإعدام إلا على أكابر من بقوا على قيد الحياة من زعماء الثورة، وسمحت لهم بالنجاة من هذا الحكم بالخروج من المدينة؛ ثم أعلنت العفو العام عن جميع من ساعد الألجركيين من غير هؤلاء الزعماء، بل إنها ردت على إسبارطة المائة الوزنة التي أعارها حكامها إلى الثلاثين (31). وأعادت هذه الأعمال المنطوية على كثير من الإنسانية وحسن السياسة إلى أثينة ذلك السلام الذي حرمت منه جيل من الزمان. 












مصادر و المراجع :

١- قصة الحضارة

المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)

تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر

ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين

الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس

عام النشر: 1408 هـ - 1988 م

عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید