المنشورات

إباميننداس

وكأنما أرادت إسبارطة أن تقوي هذا الحقد في صدور الدول اليونانية الأخرى، فادعت لنفسها حق تفسير شروط "صلح الملك" وإرغام هذه الدول على الخضوع لها. وأرادت أن تضعف قوة طيبة فأصرت على أن الحلف البؤوتي لا يتفق مع الشرط القاضي باستقلال الدول اليونانية الكبرى وحتمت حله. وتذرعت إسبارطة بهذه الحجة فأقامت في كثير من المدن البؤوتية حكومات ألجركية موالية لها، تؤيدها في كثير من الحالات حاميات إسبارطية، ولما احتجت طيبة على هذا العمل استولت قوة لسديمونية على كدميا Cadmeia معقلها الحصين، وأقامت فيها حكومة ألجركية خاضعة لسيطرة إسبارطة. وأثارت هذه الأزمة في نفس طيبة بطولة لا عهد لها بها، فاغتال بلبداس Plopidas وستة من رفاقه طغاة طيبة الأربعة صنائع إسبارطة، وأعادوا إلى المدينة حريتها واستقلالها. وأعيد تنظيم الحلف واختير بلبداس زعيماً له. واستدعى بلبداس لمعونته صديقه وحبيبه إباميننداس، فدرب الجيش الذي أعاد إسبارطة إلى عزلتها القديمة، وقاده بنفسه في المعارك التي انتهت بهذه النتيجة.
وكان إباميننداس من أسرة عريقة أخنى عليها الدهر، تفخر بأن ترجع بأصولها إلى أنياب الهولة التي زرعها كدمس قبل مولده بألف عام. وكان رجلاً هادئاً قيل عنه إنه ليس بين الناس من هو أقل منه كلاماً أو أكثر منه معرفة (7)؛ وقد حببه إلى أهل طيبة، على الرغم من النظام العسكري الذي أخذهم به، تواضعه واستقامته، وحياته التي لا تكاد تفترق في شيء عن حياة الزهاد، وإخلاصه لأصدقائه، وسداد رأيه إذا استنصح، وشجاعته المصحوبة بالتؤدة وضبط النفس وقت العمل. ولم يكن يحب الحرب ولكنه كان يعتقد أنه لا توجد أمة على ظهر الأرض تستطيع الاحتفاظ بحريتها إذا فقدت روحها وعاداتها الحربية. ولما اختير المرة بعد المرة رئيساً للحلف البؤوتي حذر الذين أرادوا أن يعطوه أصواتهم بقوله: "فكروا في الأمر مرة أخرى لأنني إذا وليتموني قيادتكم سأضطركم إلى الخدمة في جيشي" (8). ودرب الطيبيون المتراخون تحت قيادته حتى صاروا جنوداً بواسل، وحتى العشاق اليونان الذين كثر عددهم في المدينة ألّف منهم بلبداس "عصبة مقدسة" تبلغ عدتها ثلاثمائة من المحاربين قطع كل منهم على نفسه عهداً بأن يقف في المعركة إلى جانب صديقه حتى يموت.
ولما غزا بؤوتية جيش إسبارطي عدته عشرة آلاف جندي يقوده الملك كليمبروتس، التقى به إباميننداس عند لكترا بالقرب من بلاتية ومعه ستة آلاف رجل وانتصر عليه نصراً كان له أعظم الأثر في تاريخ اليونان كله وفي أساليب أوربا العسكرية. وكان هو أول يوناني وجه عنايته إلى دراسة الحركات العسكرية، وكان يقدر على الدوام أنه سيواجه في كل معركة عدواً يفوقه في عدد الرجال، فكان يركز نخبة مقاتليه ليهاجم به أحد جناحي العدو، ثم يأمر بقية الجيش أن تلتزم خطة الدفاع؛ فإذا تقدم العدو في القلب أمكن تشتيت شمله بهجوم على جناحه الأيسر. ولما تم له النصر في واقعة لكترا زحف هو وبلبداس إلى البلوبونيز وحررا مسينيا من تبعيتها لإسبارطة التي دامت قرناً من الزمن، وأسسا مدينة مغالوبوليس لتكون معقلاً لجميع الأركاديين. ونزل الجيش الطيبي إلى ليكونيا نفسها؛ وتلك حادثة لم يكن لها مثيل منذ مئات من السنين. ولم تستفق إسبارطة قط مما لحق بها من الخسارة في هذه الحرب: "فلم تستطع" على حد قول أرسطاطاليس "أن تفيق من هزيمة واحدة، وقضى عليها قلة عدد مواطنيها" (9).
ولما أقبل فصل الشتاء انسحب الطيبيون إلى بؤوتية. واغتر إباميننداس بالنصر كما كان يغتر به سائر قواد اليونان المنتصرين، فبدأ يفكر في إنشاء إمبراطورية طيبية تحل محل الوحدة التي أفاءتها زعامة أثينة أو إسبارطة من قبل على بلاد اليونان، وقد جرته هذه الخطة إلى محاربة الأثينيين، وأرادت إسبارطة أن تسترد مكانتها السابقة فتحالفت مع أثينة، والتقت جيوش الأعداء عند منتينيا عام 362 ق. م، وانتصر إباميننداس في هذه المعركة، ولكنه قتل في أثنائها بيد جرلس Gryllus بن أكسانوفون. ولم تجنِ هلاس خيراُ دائماً من زعامة طيبة القصيرة. نعم إنها حررت بلاد اليونان من طغيان إسبارطة، ولكنها عجزت، كما عجز مَن قبلها، على أن توجد نطاق بؤوتة وحدة متجانسة متماسكة؛ وكان من أثر النزاع الذي خلقته في بلاد اليونان أن أضحت الدول اليونانية من أثره مضطربة ضعيفة عاجزة عن لقاء فليب حينما انقض عليها من الشمال.












مصادر و المراجع :

١- قصة الحضارة

المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)

تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر

ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين

الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس

عام النشر: 1408 هـ - 1988 م

عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید