وحاولت أثينة للمرة الأخيرة أن تؤلف هذه الوحدة. واستطاعت بفضل أسوارها الطويلة، وأساطيلها التي جددت بناءها، وماليتها الثابتة الموثوق بها، وما تيسر لها من زمن بعيد من الوسائل المالية والتجارية، استطاعت بفضل هذا كله أن تستعيد ما كان لها من سيادة تجارية في بحر إيجة. وكانت الدول التي خضعت لها من قبل والدول المتحالفة معها قد علمتها الحروبُ التي دامت خمسين عاماً كاملة إنها في مسيس الحاجة إلى سلامة أعظم مما تهيئه لها السيادة الفردية، ولهذا اتحدت معظم هذه الدول مرة أخرى في عام 378 بزعامة أثينة، ولم يحل عام 370 حتى كانت هذه المدينة مرة أخرى أقوى الدول سلطاناً في شرق البحر الأبيض المتوسط.
وكانت الصناعة والتجارة هما وقتئذ عماد حياتها الاقتصادية. ذلك أن أرض أتكا لم تكن في يوم من الأيام مما يوائم الزراعة الجماعية. نعم إن العمل الشاق الطويل قد جعلها أرضاً مثمرة بفضل عناية الأهلين بأشجار التوت وبالكروم؛ ولكن الإسبارطيين كانوا قد دمروا هذه الغروس، وقلما كان من المزارعين من يستطيع الصبر نصف جيل حتى تثمر بساتين الزيتون الجديدة ثمارها. وكان معظم الزراع الذين عاشوا قبل الحروب قد قضوا نحبهم، وكان معظم من بقي من الزُراع قد دب اليأس في نفوسهم فمنعهم أن يعودوا إلى أملاكهم المخربة فباعوها بأبخس الأثمان لملاك يستغلونها وهم بعيدون عنها، وفي وسعهم أن يستثمروا أموالهم فيها استثماراً طويل الأجل. وبهذه الطريقة، وبانتزاع ملكية الأراضي الزراعية المثقلة بالدين، انتقلت هذه الأراضي في أتكا إلى أيدي عدد قليل من الأسر كانت تستغل كثيراً من المزارع الواسعة بجهود الأرقاء (10). وأعيد فتح مناجم لوريوم، وأرسل إلى الحفر ضحايا جدد، وتكونت ثروات جديدة من الفضة الغفل ومن الدماء البشرية؛ وعرض أكسانوفون (11) طريق ظريفة تستطيع بها أثينة أن تملأ خزائنها بالمال، ولا تكلفها أكثر من أن تشتري مائة ألف من الأرقاء تؤجرهم إلى المقاولين في لاريوم. وأثمرت هذه الطريقة ثمرتها المرجوة فاستخرجت من الفضة مقادير تفوق ما كان ينتج من السلع، فارتفعت الأثمان، أسرع من ارتفاع الأجور، ووقع عبء هذا الانقلاب على كاهل الفقراء.
وازدهرت الصناعة وتلقت محاجر بنتلكس ومصانع الفحار في السرمكس طلبات من عالم بحر إيجة كله. وجمع بعضهم ثروات طائلة لشراء منتجات الصناع اليدويين أو المصانع الصغيرة بأثمان بخسة وبيعها بعدئذ بأغلى الأثمان في الأسواق المحلية أو الخارجية. وسرعان ما تضاعف عدد المصارف المالية في أثينة تبعاً لنمو التجارة وتجمع الثروة النقدية بدل الثروة العقارية. وتلقت هذه المصارف كثيراً من النقود أو الذخائر القيمة لحفظها لديها، ولكن يلوح أنها لم تكن تؤدي فوائد من هذه الودائع. وسرعان ما وجد أصحاب المصارف أن هذه الودائع لا تسترد كلها في وقت واحد في الظروف العادية، فشرعوا يقرضون المال بفوائد عالية، واقتصروا في بادئ الأمر على إقراض المال دون الاشتغال بوسائل الائتمان الأخرى، فكانت تضمن عملاءها، وتحصل لهم مطلوباتهم، وتقرض النقود بضمان العقاري أو النفائس، وتمد السفن التي تنقل البضائع بحاجتها من المال. وكان في وسع التاجر، بفضل هذه المصارف وأكثر من هذا بفضل القروض التي يقدمها الأفراد مجازفة منهم ومضاربة لجني الأرباح الطائلة، أن يستأجر سفينة ينقل عليها بضاعته إلى إحدى الأسواق الأجنبية، ويشتري منها بدل هذه البضاعة شحنة أخرى، إذا وصلت إلى بيرية بقيت فيها ملكاً لأصحاب الديون حتى يستردوا ديونهم (12). ولما تصرم بعض القرن الرابع نشأ نظام من نظم الائتمان الحقيقي: فشرع أصحاب المصارف يصدرون خطابات الاعتماد، والأذون المالية، والتحاويل المصرفية بدل أن يقدموا النقود؛ وبهذه الطريق أصبحت الثروة تنتقل من عميل إلى عميل بتدوينها في سجلات المصارف لا غير (13). وكان رجال الأعمال أو أصحاب المصارف يصدرون السندات للحصول على القروض التجارية، حتى صارت هذه السندات جزءاً كبيراً من كل شركة. وكان لبعضهم - كالمعتوق باسيون مثلاً - صلات مالية متشعبة، واشتهروا بين الناس بأمانتهم ونزاهتهم فوثقوا بهم، وكانت سنداتهم موضع الثقة في جميع بلاد اليونان. وكان لمصرف باسيون Pasion أقسام متعددة يعمل فيها عدد كبير من الموظفين معظمهم من الأرقاء، ويحتفظ بطائفة كبيرة من السجلات المختلفة الأنواع تدون فيها كل عملية مالية بعناية فائقة جعلت في المحاكم أدلة لا يقبل الطعن فيها. ولم يكن إفلاس المصارف أمراً غير مألوف، ويحدثنا المؤرخون عما كان يحدث من "ذعر" مالي يغلق فيه مصرف بعد مصرف أبوابه (14). وكانت توجه أحياناً إلى المصارف، ومنها أعظمها نفوذاً، تهم خطيرة لسوء استعمال ما آل إليها من سلطان، وكان الناس ينظرون إلى رجال المصارف نظرة يجتمع فيها من الحسد والإعجاب، والكراهية مثل ما يجتمع في نظرة الفقراء إلى الأغنياء في جميع العصور (15).
وأنتج تبدل الثروة من عقارية إلى منقولة كفاحاً شديداً للحصول على المال، وكان لا بد للغة اليونانية من أن تخترع لفظاً تعبر به عن هذه الشهوة الجامحة للحصول على "أكثر فأكثر" من المال، فأطلقت عليه لفظ "بليونكسيا Pleonexia" ولفظاً آخراً يعبر عن الانهماك في طلب الثراء "كرماتستيكي Chrematistike". وأخذت السلع والخدمات من ذلك الوقت تقدر قيمتها بالمال، بل إن الناس أنفسهم أصبحوا يقدرون به وبما يمتلكون منه، وأصبحت الثروات تتكون ثم تزول بسرعة لا عهد للناس بها، وتنفق في مظاهر من البذخ لو شهدتها أثينة في عصر بركليز لارتاعت واهتزت منها مشاعرها. فأخذ "الأثرياء المحدثون" (وكان لهم عند اليونان اسم خاص هو نيوبلوتوي Neoplutoi) يشيدون البيوت الكثيرة الزخرف، ويزينون نساءهم بالملابس والجواهر الغالية ويفسدونهن بكثرة الخدم، وأصبح تقديم أغلى أصناف المأكل والمشرب للضيوف دون غيرها من المأكولات والمشروبات هو القاعدة المقررة المألوفة (16).
وانتشر الفقر وسط هذه الثروة الطائلة، ذلك بأن حرية التبادل وأنواعه المختلفة اللتين أمكنتا مهرة الناس من جمع المال جعلتا السذج منهم يفقدونه أسرع مما كانوا يفقدونه من قبل، فكان الفقراء في نظام الاقتصاد التجاري الجديد أفقر نسبياً مما كان في أيام استرقاقهم في أملاك إقطاعيين؛ فكان الفلاحون في الريف يكدحون ليحصلوا بكدحهم وعرقهم على قليل من الزيت أو الخمر؛ وفي الحواضر ظلت أجور العمال الأحرار منخفضة المستوى بسبب منافسة الأرقاء؛ وكان مئات من المواطنين يعتمدون في معيشتهم على الأجور التي ينالونها نظير حضور جلسات الجمعية أو المحاكم؛ ولم يكن آلاف من الناس يجدون طعاماً إلا ما تقدمه لهم المعابد أو الدولة، ولا يملكون شيئاً. وفي عام 431 بلغ عدد من لا يملكون شيئاً قط من الناخبين (دع عنك عدد السكان بوجه عام) خمسة وأربعين في المائة من مجموعهم الكلي، فلما حلت سنة 335 ارتفعت هذه النسبة إلى سبعة وخمسين في المائة (17). وفقدت الطبقات الوسطى، التي كانت لكثرة عددها وسلطانها تحفظ التوازن بين الأشراف والعامة، جزءاً كبيراً من ثروتها، ولم يعد في وسعها أن تتوسط بين الأغنياء والفقراء، بين المتحفظين الشديدي العناد والخياليين المتطرفين، وبذلك انقسم المجتمع الأثيني إلى "مدينتي" أفلاطون-"إحداهما مدينة الفقراء والأخرى مدينة الأغنياء، وكلتاهما في حرب مع الأخرى" (18). وأخذ الفقراء يضعون الخطط لسلب مال الأغنياء بالتشريع أو بالثورة، كما أخذ الأغنياء ينظمون أنفسهم جماعات لاتقاء شر الفقراء. ويقول أرسطاطاليس إن المنتمين إلى بعض النوادي الألجركية كان كل منهم يقسم بأن "أكون عدو الشعب" (أي العامة) "وأن أوذيهم في المجلس بكل ما أستطيع من الأذى" (19) وقد كتب إسقراط حوالي عام 366 يقول: "لقد أصبح الأغنياء ينفرون من سائر الطبقات الأخرى نفوراً يفضلون معه أن يلقوا بثروتهم في البحر عن أن يعينوا بشيء منها المحتاجين، على حين أن الرقيقي الحال يسرهم أن ينتهبوا أموال الأغنياء أكثر مما يسرهم العثور على كنز ثمين" (20).
وانحاز عدد متزايد من أفراد الطبقات المتعلمة إلى جانب الفقراء (21). ذلك بأنهم كانوا يحتقرون التجار ورجال المصارف لما بدا لهم من أن ثروتهم تتناسب تناسباً عكسياً مع ثقافتهم وأذواقهم. وحتى الأغنياء من هؤلاء العلماء أخذت تدور بخلدهم أفكار شيوعية. وكان بركليز قد اتخذ من الاستعمار صمام أمان ليقلل به حدة النزاع بين الطبقات (22)؛ ولكن ديونيشيوس كان يسيطر على الغرب، ومقدونية كانت تمد أملاكها في الشمال، فأخذت الصعاب تزداد في سبيل فتح أثينة بلاداً جديدة والاستقرار فيها. واستحوذ الفقراء في آخر الأمر على جميع السلطة في الجمعية وشرعوا يقررون مصادرة أموال الأغنياء ويحولونها إلى خزائن الدولة، لتوزعها من جديد على المحتاجين والناخبين عن طريق المشروعات الحكومية والأجور (23). وأخذ رجال السياسة يبذلون كل ما في وسعهم من جهد ويستخدمون كل ما وهبوا من ذكاء ليكشفوا عن موارد جديدة لزيادة إيراد الدولة، فضاعفوا الضرائب غير المقررة، والضرائب الجمركية على الواردات والصادرات، وضريبة الواحد في المائة على نقل الملكية العقارية، وظلوا في وقت السلم يجبون الضرائب غير الاعتيادية التي قررت زمن الحرب، وأخذوا يطالبون بالتبرعات "الاختيارية"، وفرضوا على الأغنياء "فروضاً" أو "خدمات" جديدة متزايدة لتمويل المشروعات العامة من أموالهم الخاصة. وكانوا يلجأون بين الفينة والفينة إلى مصادرة الأموال ونزع الملكيات، ووسعوا نطاق ضريبة الإيراد حتى شملت مستويات من الثروة أدنى مما كانت تشملها من قبل (24).
وكان في وسع كل من يلقى عليه عبء إحدى الخدمات العامة أن يستعين بالقانون لكي يرغم غيره على أدائها، إذا استطاع أن يثبت أن لهذا الممول الثاني أكثر منه ثروة، وأنه لم تفرض عليه خدمة ما في خلال سنتين. وعملوا على تسهيل جمع الإيرادات بتقسيم دافعي الضرائب إلى مائة جماعة من الشركاء. فكان يطلب إلى أغنى الأعضاء في كل جماعة أن يؤدوا في بداية كل سنة ضرائبية جميع الضريبة المفروضة على هذه الجماعة طوال السنة، ثم يترك لهم بعدئذ أن يجبوا في خلال السنة ما يخص غيرهم من الأعضاء بما يرونه من الوسائل.
وكانت نتيجة هذه الفروض أن أخذت هذه الجماعات والأفراد تخفي ثروتها وإيرادها إخفاءً تاماً، وانتشر التهرب من الضرائب بين الناس جميعاً، وتفننوا في أساليبه تفنن الدولة في فرضها وجبايتها. وفي عام 355 عين أندروتيون Androtion على رأس فرقة من رجال الشرطة مهمتها البحث عن الإيرادات المخبوءة، وجباية الضرائب المتأخرة، وحبس الذين يفرون من الضرائب، فكانت تكبس البيوت وتصادر الأمتعة، ويلقى الرجال في السجن. ولكن الثروة مع ذلك ظلت تختفي أو تذوب. وقال إسقراط الشيخ الغني الغاضب في عام 353 يشكو مما فرض عليه من خدمات: "لما كنت في صباي، كانت الثروة تعد من الأشياء المأمونة التي يعجب بها الناس، حتى كان الواحد منا يتظاهر بأن لديه أكثر مما يملك فعلاً ... أما الآن فقد أصبح من واجب كل إنسان أن يدفع عن نفسه تهمة الغنى، كأن هذا أشنع الجرائم" (25). ولم تكن الطريقة التي اتبعت في غير أثينة لمنع تركيز الثروة تستند إلى القانون كما كانت تستند إليه فيها. من ذلك أن المدنيين في متليني قتلوا دائنيهم جملة بحجة أنهم جياع، وأن الدمقراطيين في أرغوس (370) انقضوا فجاءة على الأغنياء وقتلوا منهم ألفاً ومائتين، وصادروا أملاكهم، وعقدت الأسر الغنية في غير هذه من الدول التي كان العداء قائماً بينها لغير هذا السبب حلفاً سرياً تعهدت فيه أن يساعد بعضها بعضاً إذا قامت في إحداها ثورات شعبية. وأخذت الطبقات الوسطى تحذو حذو الطبقات العليا في عدم الثقة بالدمقراطية وترى أنها حسد أتيح له السلطان، كما أخذ الفقراء يفقدون ثقتهم فيها ويرونها مساواة زائفة بين الناخبين تنقصها الفروق الهائلة بين الثروات. وقد تركت هذه الأحقاد المريرة بين الطبقات بلاد اليونان منقسمة على نفسها داخلياً ودولياً حين انقض عليها فليب، حتى لقد رحب بقدومه كثيرون من الأغنياء في المدن اليونانية، ورأوا أنه لولاه لما كان هناك مفر من اندلاع لهيب الثورة في أرجائها (26).
وسار الانهيار الخلقي مع ازدياد الترف واستنارة العقل جنباً إلى جنب، واعتزت العامة بخرافاتها واستمسكت بأساطيرها، فقد كانت آلهة الأولمبس تلفظ أنفاسها الأخيرة ولكن آلهة أخرى كانت تولد، فكانت أرباب غريبة مثل إيزيس وأمون، وأتيس، وبندس، وسبيل، وأدنيس تستورد من مصر وآسية؛ وجمع انتشار الأرفية عباداً جدد للديونشس في كل يوم. ولم يكن للدين التقليدي القديم فائدة تذكر لطبقة الملاك الوسطى النصف الأجنبية الآخذ شأنها في الارتفاع، فلم تكن آلهة المدينة التي ترعاها تنال من هذه الطبقة إلا الاحترام الصوري الرسمي، ولم تعد توحي إلى أفرادها بالمبادئ الخلقية أو الإخلاص للدولة والولاء لها (1). وكافحت الفلسفة لكي تجد في الولاء السياسي ومبادئ الأخلاق الطبيعية بديلاً من الأوامر الإلهية، أو أن تتخذ منها رباً يرقب الناس من علٍ، ولكن قل من المواطنين من كان يهمه أن يعيش عيشة البساطة السقراطية أو عيشة رجل سقراط السامي "ذي العقل العظيم".
ولما فقد دين الدولة سلطانه على الطبقات المتعلمة زاد بالتدريج تحرر الأفراد من القيود الأخلاقية القديمة - فتحرر الابن من سلطان أبويه، وتحرر الذكور من الزواج، وتحررت المرأة من الأمومة، وتحرر المواطن من التبعة السياسية. وما من شك في أن أرسطوفان قد بالغ في وصفه لهذه التطورات، وإذا كان أفلاطون، وأكسانوفون، وإسقراط كلهم يتفقون معه في رأيه، فإنهم كانوا جميعاً من المحافظين الذين ترتعد فرائصهم من مثال الجيل الناشئ الجديد. وتحسنت أخلاق الناس في الحرب خلال القرن الرابع، وجاءت موجة من الإنسانية المستنيرة في أعقاب تعاليم يوربديز وسقراط والمثل الذي ضربه للناس أجسلوس (27). ولكن الآداب والجنسية السياسية ظلت سائرة في طريق الانهيار، وزاد عدد العزاب والسراري وأصبحت الصلات بين هؤلاء وأولئك هي الطراز الحديث الذي يهواه الناس، كما أن الاتصال الحر بين الرجال والنساء أصبحت له الغلبة على الزواج الشرعي (28). انظر مثلاً إلى هذا السؤال الذي يسأله أحد الأشخاص في مسلاة ألفت في القرن الرابع: "أليست الحظية مرغوباً فيها أكثر من الزوجة؟ ولم لا؟ إن إحداهما في جانبها القانون الذي يرغمنا على الاحتفاظ بها، مهما نكن كارهين لها، أما الأخرى فهي تعلم أن من واجبها أن تتسلط على الرجل بحسن سلوكها، وإلا فإن عليها أن تبحث لها عن رجل غيره" (29). وعلى هذا النحو عاشر بركستليز ومن بعده هيبريديز Hypereides فريني Phryne، وعاشر أرستبوس لئيس Lais، وعاشر أستلبو Stilpo نكريتي Nikarete، وعاشر ليسياس متنيرا Metaneira، وعاشر إسقراط الصارم لجسكيوم Lagiscium (30) . وفي ذلك يقول ثيوبمبس مبالغاً في قوله كعادة رجل الأخلاق: "لقد كان الشبان يقضون كل أوقاتهم بين السراري والقيان، أما الذين هم أكبر من هؤلاء قليلاً فكانوا منهمكين في الميسر والفسق، وكان الناس كلهم ينفقون على المآدب العامة والملاهي أكثر مما ينفقونه على الأعمال اللازمة لحفظ كيان الدولة ورعاية مصالحها" (31).
وأصبح تحديد عدد أفراد الأسرة تحديداً اختيارياً هو الطراز العصري في ذلك الوقت؛ وكانوا يصلون إلى هذا الغرض بمنع الحمل، أو الإجهاض، أو قتل الأطفال. ويقول أرسطاطاليس إن بعض النساء كن يمنعن الحمل بطلاء جزء الرحم الذي يسقط عليه مني الرجل بزيت شجر الأرز، أو بمرهم الرصاص. أو الكندر الممزوج بزيت الزيتون (1). وكانت الأسر القديمة سائرة في طريق الانقراض فلم تكن توجد، على حد قول إسقراط، إلا في قبورها؛ وأخذت الطبقات الدنيا يتضاعف عدد أفرادها، أما طبقة المواطنين في أتكا فقد نقص عددها من 000ر43 في عام 431 إلى 000ر22 في عام 400 وإلى 000ر21 في عام 313 (33). ويقابل هذا نقص في عدد المواطنين الذين كانوا يجندون للخدمة العسكرية؛ ويرجع بعض هذا النقص إلى مذابح الحرب، وبعضه إلى قلة من لهم في الدولة أملاك يتحتم عليهم الدفاع عنها، وبعضه إلى رغبة الناس عن الخدمة العسكرية. ذلك أن حياة الدعة والانصراف إلى العناية بالشئون المنزلية، والانهماك في الأعمال التجارية والصناعية، وطلب العلم، كل ذلك قد حل محل حياة الرياضة البدنية، والتربية العسكرية، والعناية بالشئون العامة، وهي الحياة التي كان يألفها الناس في عهد بركليز (34). فأما الرياضة فقد أصبحت حرفة، وصار المواطنون الذين كانوا في القرن السادس يملأون مدارس التدريب الرياضية يقنعون الآن بأن يجهد غيرهم أنفسهم بالنيابة عنهم، وحسبهم هم أن يشاهدوا استعراض المحترفين. وكان بعض الشبان يتلقون بعض الدروس في فن الحرب، ولكن الكبار كانوا يجدون عشرات من الطرق للهرب من الخدمة العسكرية. وأضحت الحرب نفسها مهنة بسبب ما دخل عليها من التعقيدات الفنية، تحتاج إلى رجال مدربين لها تدريباً خاصاً يستغرق وقتهم كله؛ وكان لا بد من استبدال الجنود المرتزقة بالمحاربين المواطنين، وكان هذا نذيراً بأن زعامة بلاد اليونان لن تلبث أن تنتقل من رجال السياسة إلى رجال الحرب. وبينما كان أفلاطون يتحدث عن الملوك الفلاسفة، كان الملوك العسكريون ينشئون تحت سمعه وبصره. وكان مرتزقة اليونان يبيعون أنفسهم إلى القواد سواء كانوا من اليونان أو "البرابرة" بلا تفريق بين هؤلاء وأولئك؛ ولقد حاربوا في الجيوش التي غزت بلاد اليونان بقدر ما حاربوا دفاعاً عنها، وشاهد ذلك أن الجيوش الفارسية التي واجهها الإسكندر كانت ملأى باليونان؛ فلم يكن الجنود وقتئذ يسفكون دماءهم دفاعاً عن بلادهم، بل كانوا يسفكونها في سبيل من يؤدي لهم أكبر الأجور.
وظل الفساد السياسي والاضطراب اللذان أعقبا موت بركليز سائرين في طريقهما خلال القرن الرابع، إذا استثنينا من ذلك حكم يكلديز الطاهر النزيه (403)، وإدارة ليقورغ المالية (338 - 326). فالرشوة مثلاً كان يعاقب عليها، حسب نص القانون، بالإعدام؛ لكن إسقراط يقول إن المرتشي كان يجزى على ارتشائه بالترقي في المناصب العسكرية والسياسية. ولم يجد الفرس أية صعوبة في إرشاء ساسة اليونان وحملهم على أن يشنوا الحرب على الدول اليونانية أو على مقدونية؛ وحتى دمستين نفسه أصبح في آخر الأمر مرآة تنعكس عليها أخلاق أهل زمانه. لقد كان من أنبل الأفراد في جماعة من أحط الجماعات في أثينة - أعني جماعة الخطباء المأجورين الذين صاروا في ذلك القرن محامين وساسة محترفين. ومن هؤلاء الناس من كانوا مثل ليقورغ شرفاء معقولين، ومنهم من كانوا مثل هيبريديز ذوي شهامة ومروءة، ومنهم من لم يكونوا خيراً مما وجب عليهم أن يكونوه؛ وإذا جاز لنا أن نصدق ما يقوله عنهم أرسطاطاليس فقد كان منهم من تخصص في إبطال نصوص الوصايا (36). وجمع الكثيرون منهم ثروات طائلة بانتهاز الفرص السياسية وبالتهريج والخطابة في الجماهير.
وانقسم الخطباء المأجورون أحزاباً، ومزقوا الهواء بحملاتهم. ونظم كل حزب لنفسه لجاناً، ووضع له كلمات سر، وعين له وكلاء، وجمع له مالاً. وكان الذين يؤدون نفقات هذه الأعمال كلها يعترفون صراحة بأنهم "سيستردونها ضعفين" (37).
وكانت الروح الوطنية تضعف كلما زادت السياسة قوة، واستنفذت مرارة الانقسام كل الجهود العامة والوفاء للوطن، فلم تترك للمدينة من هذه الجهود وذلك الإخلاص إلا القليل الذي لا يغني، وكان دستور كليستنيز، والنزعة الفردية التي أثارتها التجارة والفلسفة، قد زعزعا كيان الأسرة، وحررا الفرد؛ وكأنما أراد الفرد الحر وقتئذ أن يثأر للأسرة مما أصابها من انحلال فهوى بمعوله على الدولة يقوض أركانها.
وأراد الدمقراطيون المنتصرون في عام 400 ق. م أو حواليه أن يضمنوا حضور المواطنين الفقراء في الإكليزيا، وأن يمنعوا بذلك ذوي الأملاك أن تكون لهم السيطرة عليها، فجعلوا حضور الجمعية هو الآخر عملاً من الأعمال التي يؤجر الناس عليها. وكان كل مواطن في بادئ الأمر يؤجر على حضور الجلسة أبلة (17 slash100 من الريال الأمريكي)، ولما زادت نفقات المعيشة زيد هذا الأجر إلى أبلتين، ثم إلى ثلاث أبلات، وظل يزداد حتى كان في زمن أرسطاطاليس درخمة (أي ريالاً أمريكياً) عن اليوم الواحد (38). ولقد كان هذا في حد ذاته تدبيراً معقولاً لا غبار عليه، لأن المواطن العادي كان يكسب في أواخر القرن الرابع درخمة في كل يوم؛ ولم يكن ينتظر منه أن يترك عمله دون أن يعوض عن تركه. وما لبثت هذه الخطة أن جعلت للفقراء الأغلبية في الجمعية، ويئس الأغنياء من الانتصار فيها، فزاد إعراضهم عنها تدريجاً، وامتنعوا عن حضور جلساتها. وعدل الدستور في عام 403 وقصر حق التشريع على هيئة مكونة من خمسة مشترعين Nomothetai يُختارون من بين المواطنين الذين انتخبوا بالقرعة ليكونوا قضاة، ولكن هذا التعديل لم تكن له أقل فائدة في الحد من طغيان الطبقات الدنيا. ذلك أن هذه الهيئة الجديدة هي الأخرى إلى جانب العامة، وكان تدخلها سبباً في إضعاف هيئة المجلس الذي هو أكثر محافظة من الجمعية والانتقاص من سلطانه. ويبدو أن مستوى الذكاء في الجمعية قد نقص في القرن الرابع، ولعل منشأ هذا النقص هو أداء الأجور على حضور جلسات الجمعية. نقول هذا ببعض التحفظ لأن الذين نعتمد عليهم في هذا القول هم الرجعيون المتحيزون أمثال أرسطوفان وأفلاطون (39). ويقول إسقراط إن أعداء أثينة هم الذين يجب عليهم أن يؤدوا الأجور لحضور جلسات الجمعية حتى يكثر اجتماعها، وذلك لكثرة ما ترتكبه من الأغلاط (40) في أعمالها.
وخسرت أثينة بسبب هذه الأغلاط إمبراطوريتها وحريتها جميعاً. ذلك أن الحرص الشديد على المال والسلطان الذي قوض أركان الحلف الأول قد دك وقتئذ قواعد الحلف الثاني أيضاً، فقد شعرت أثينة بعد سقوط إسبارطة في لكترا أن في وسعها الآن أن توسع أملاكها، وكانت وهي تنظم إمبراطوريتها الجديدة قد قطعت على نفسها عهداً ألا تسمح للرعايا الأثينيين بامتلاك أرضين خارج حدود أتكا (41). ولكنها بعد أن فتحت ساموس، والكرسنيز التراقية، ومدائن بدنا، وبوتيدبا، وميتوني على سواحل مقدونية وتراقية استعمرتها على أيدي المواطنين الأثينيين. واحتجت على ذلك الدول المتحالفة معها وانسحب الكثير منها من الحلف. واستخدمت أثينة وسائل القسر والعقاب التي استخدمتها من قبل في القرن الخامس، ولكنها لم تجنِ من ورائها فائدة في هذه المرة كما لم تجن منها فائدة في المرة السابقة. وكانت النتيجة أن أعلنت طشيوز، وكوس، ورودس، وبيزنطية في عام 357 "حرب" عصيان "اجتماعية". ولما أن رفض تموثيوس Timotheus وأفكراتيز، وهما قائدان من أعظم القواد الأثينيين كفاية، أن يهاجما الأسطول الثائر في الهلسبنت أثناء عاصفة هوجاء، اتهمتهم الجمعية بالجبن، وفرضت على تموثيوس غرامة باهظة لا قبل لأحد بأدائها قدرها مائة وزنة (000ر600 ريال أمريكي)، فلم يجد أمامه سبيلاً إلا الفرار من البلاد، وبرئ إفكرتيز ولكنه لم يقم لأثينة بخدمة ما فيما بقي من حياته. وأحبط الثوار كل ما بذلته من محاولات لإخضاعهم، فاضطرت في عام 355 إلى أن توقع صلحاً تعترف فيه باستقلال بلادهم، وأضحت المدينة العظيمة بلا أحلاف، ولا زعماء، ولا مال، ولا أصدقاء.
ولعل عوامل أخرى أدق وأخفى من العوامل السابقة كان لها أثر في إضعاف أثينة. ذلك أن حياة الفكر تعرض للخطر كل حضارة تزدان بهذه الحياة. ففي المراحل الأولى من تاريخ الأمة قل أن يكون للتفكير وجود، بل الذي يسود وينتشر هو العمل، ويكون الناس في هذه المراحل صريحين، محررين من عوامل الكبت جريئين في مشاكساتهم وصلاتهم الجنسية. وكلما ارتقى مدارج الحضارة وفرضت عليهم العادات، والأنظمة، والشرائع، وقواعد الآداب والأخلاق، قيوداً تزداد على مر الأيام كبتاً للغرائز، حل التفكير محل العمل، والخيال محل الإقدام، والاحتيال محل الصراحة، والخفاء محل التعبير الصادق، والعطف محل القسوة، والشك محل اليقين؛ وزالت الوحدة الأخلاقية التي يشترك فيها الإنسان البدائي مع الحيوان؛ وأصبح السلوك مجزءاً طابعه التردد، والإدراك، وتقدير العواقب؛ وضعفت الرغبة في القتال، واستحالت ميلاً إلى الجدل الذي لا يقف عند حد. وما أقل الأمم التي استطاعت أن تصل إلى الرقي العقلي والإحساس القوي بالجمال من غير أن تضحي في سبيل ذلك بالقدر الكثير من رجولة أبنائها ووحدتهم، فلم تستطيع صد الأقوام الهمج المعدمين الطامعين في ثروتها. فحول كل رومة يحوم الغاليون، وحول كل أثينة يحوم المقدونيون.
مصادر و المراجع :
١- قصة الحضارة
المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)
تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر
ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين
الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس
عام النشر: 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون
تعليقات (0)