المنشورات

دمستين (دمستنيز)

إن تمثال الخطيب العظيم القائم في متحف الفاتيكان ليعد من الروائع الفنية الواقعية التي أخرجها العصر الذي انتشرت فيه الحضارة اليونانية خارج بلاد اليونان الأصلية؛ فوجهه يبدو عليه الهم والقلق، كأن كل نصر أحرزه فليب قد أحدث غصناً جديداً في جبهته؛ والجسم نحيل منهوك، ومظهره مظهر الرجل الذي يوشك أن يدعو الناس للأخذ بيده للدفاع عن قضية يرى أنه قد خسرها. وتكشف العينان عن حياة قلقة، وتتنبئان بموت مدبر.
وكان أبوه صانع سيوف وأسِرَّة، ترك له تجارة تبلغ قيمتها أربع عشرة وزنة (000ر84 ريال أمريكي). واختار الوالد ثلاثة من الرجال ليديروا هذه الأملاك لصالح الغلام، ولكنهم أنفقوها على أنفسهم بسخاء، اضطر معه دمستين حين بلغ سن العشرين (363) أن يقاضي الأوصياء عليه لكي يستعيد ما بقي من ميراثه. وأنفق معظم ما آل إليه في تجهيز سفينة ذات ثلاثة صفوف من المجاديف وهبها للأسطول الأثيني، ثم أخذ يعمل لكسب عيشه بكتابة الخطب للمتقاضين؛ وكان أقدر على الكتابة منه على الكلام، لأنه كان ضعيف الجسم عيّ اللسان. ويقول عنه بلوتارخ إنه كان في بعض الأحيان يعد دفاعاً لكلا الطرفين المتنازعين. وكان يعمل في هذه الأثناء للتغلب على ما فيه من نقص طبيعي، فكان يخاطب البحر وفمه مملوء بالحصباء، أو يخطب وهو يصعد فوق الجبل. وكان مجداً في عمله لا يشغله عنه إلا السراري والغلمان. وقال أمين سره يشكو أمره: "ماذا عسى أن يفعل الإنسان بدمستين؟ إن الشيء الذي قضى عاماً كاملاً يفكر فيه لتربكه امرأة واحدة في ليلة واحدة" (54). وأصبح الرجل بعد جهود مضنية دامت عدة سنين أغنى المحامين في أثينة، يعرف دقائق هذا الفن ويقنع المستمعين إلى خطبه، ولا يتقيد كثيراً بقواعد الأخلاق. وشاهد ذلك أنه دافع عن المصرفي فورميو طالباً تبرئته من تهم وجهها هو بعينها إلى الأوصياء عليه، وكان يتناول أجوراً عالية من الأفراد نظير تقديم بعض القوانين للجمعية والدفاع عنها، ولم يدفع عن نفسه التهمة التي وجهها إليه زميله هيبريديز وهي أنه كان يتلقى المال من ملك الفرس ليشعل نار الحرب على فليب (55). وبلغت ثروته في ذروة مجده عشرة أضعاف ما خلفه له أبوه.
لكنه رغم هذا بلغ من النزاهة درجة رضي معها بالتعذيب والموت في سبيل الآراء التي استؤجر للدفاع عنها. ذلك أنه أخذ يندد باعتماد أثينة على الجنود المرتزقة، وأصر على أن المواطنين الذين يتقاضون أجوراً من "الرصيد" المخصص لإعانة من يحضرون ألعاب الحفلات الدينية ويشاهدون المسرحيات، يجب أن يكسبوها بالخدمة في الجيش؛ وبلغ من شجاعته أن طالب بألا يؤدى هذا المال أجوراً لهؤلاء المواطنين، بل يجب أن ينفق في إعداد قوة حربية للدفاع عن الدولة أحسن من القوة التي لديها (1). وقال للأثينيين إنهم قوم كسالى منحلون فقدوا ما كان يتصف به آباؤهم من فضائل حربية، وأبى أن يصدق أن دولة المدينة قد وهنت قواها بالانقسامات الحزبية والحروب، وأن الوقت قد آن لتوحيد بلاد اليونان. وأنذر الأثينيين بأن هذه الوحدة ليست إلا أقوالاً تخفي ورائها خضوع بلاد اليونان جميعها لرجل واحد. ولقد تبين أطماع فليب من أعراضها الأولى وتوسل إلى الأثينيين أن يحاربوا للاحتفاظ بأحلافهم ومستعمراتهم في الشمال.
وكان، إسكنيز وفوشيون وحزب السلم يعارضون دمستين وهيبريديز وحزب الحرب. وليس ببعيد أن كلتا الطائفتين كانت مرتشية الثانية من قبل الفرس والأولى من قبل فليب (57)، وأن الاثنتين كانتا تعملان بإخلاص للوصول إلى أغراضها تدفعهما الحماسة التي أثارتها كلتاهما في قلوب أتباعها. وقد أجمع أهل ذلك العصر على أن فوشيون كان أشرف رجال السياسة في أيامه - كان رواقياً قبل أن يؤسس زينون الرواقية، وفيلسوفاً من خريجي مجمع أفلاطون العلمي، وخطيباً يحتقر الجمعية احتقاراً يستطيع القارئ أن يتبينه إذا ذكرنا له أنها حين صفقت له التفت إلى أحد أصدقائه وسأله: "ألم أرتكب خطأ في قولي من حيث لا أدري؟ " (58) وقد اختير قائداً ( Strategos) خمساً وأربعين مرة ففاق في هذا بركليز نفسه؛ وتولى مراراً كثيرة قيادة الجيش وأظهر في كل مرة كفاية عظيمة، ولكنه قضى معظم حياته يدعو إلى السلم. ولم يكن رفيقه إسكنيز رواقياً في معيشته، بل كان رجلاً ارتقى من الفقر المدقع إلى الثراء الواسع، اشتغل في صباه بالتدريس والتمثيل فأعانه ذلك على أن يكون خطيباً مصقعاً، وأول خطيب يوناني - على ما يقول المؤرخون - يرتجل الخطب ارتجالاً وينجح في ذلك أعظم نجاح (59)، بينما كان منافسوه يعدون خطبهم ويكتبونها قبل إلقائها. واشترك مع فوشيون في عدة وقائع حربية، فأخذ عنه سياسة التراضي مع فليب بدل الاشتراك معه في الحرب؛ ولما أن كافأه فليب على جهوده استحال تحمسه للسلم ولاءً لها وإخلاصاً.
واتهم دمستين إسكنيز مرتين بأنه يرتشي بالذهب من مقدونية، ولكنه في كلتا المرتين عجز عن إثبات التهمة. على أن فصاحة دمستين الحربية وتقدم فليب نحو الجنوب أقنعا الأثينيين آخر الأمر أن يمتنعوا وقتاً ما عن توزيع رصيد المناظر وأن يستخدموه في الاستعداد للحرب. ففي عام 338 نظموا على عجل قوة زحفوا بها إلى الشمال لملاقاة فيالق فليب عند قيرونيا البؤتية. وأبت إسبارطة أن تقدم معونتها لأثينة، ولكن طيبة أحست بقبضة فليب تطبق على عنقها فأرسلت فرقتها المقدسة لتحارب إلى جانب الأثينيين، وقتل الثلاثمائة جندي الذين تتألف منهم هذه الفرقة في الميدان؛ وحارب الأثينيون بهذه الشجاعة نفسها أو بما يقرب منها، ولكنهم كانوا قد تباطأوا فوق الحد المباح، ولم يعدوا العدة لملاقاة جيش المقدونيين المسلح على أحدث طراز. فكانت النتيجة أن منوا بهزيمة شتتت شملهم ففروا أمام بحر الرماح الزاحفة عليهم وفر معهم دمستين. وكان الإسكندر بن فليب يبلغ وقتئذ الثامنة عشر من عمره، وكان يقود فرقة الفرسان المقدونية بشجاعة تبلغ درجة التهور أنالته شرف الانتصار في هذه المعركة الحامية الوطيس.
وكان فليب كريماً في انتصاره كرماً تمليه عليه خطته السياسية التي رسمها. نعم إنه أعدم بعض زعماء طيبة المعادين للمقدونيين، وأقام في تلك المدينة حكومة ألجركية من أشياعه، ولكنه أطلق سراح الألفي أثيني الذين وقعوا أسرى في يديه، وأرسل الإسكندر الظريف وانتباتر Antipater العاقل الحكيم ليعرضا الصلح على أثينة على شريطة أن تعترف به قائداً عاماً لبلاد اليونان كلها ضد عدوها المشترك. وكانت أثينة تتوقع شروطاً أقسى من ذلك كثيراً، ولهذا فإنها لم تقبل هذا الشرط فحسب، بل أصدرت فوق ذلك قرارات تكيل فيها الثناء لهذا الأجممنون الجديد. وعقد فليب في كورنثة جمعية (سندريون Sunderion) من الدول اليونانية، وألف منها جميعاً (عدا إسبارطة) حلفاً على نظام الحلف البؤوتي، ورسم الخطوط الرئيسية لخططه التي تهدف إلى تحرير آسية. واختير بالإجماع قائداً عاماً لهذه المغامرة الكبرى، وتعهدت كل دولة أن تمده بالرجال والسلاح، ووعدته ألا يحارب يوناني من أي بلد كان في صفوف أعدائه. وكانت هذه التضحيات كفارة رخيصة للعداء الذي أظهرته هذه المدن من قبل. 

ولم تقف النتائج التي تمخضت عنها قيرونيا عند حد. فقد تحققت بها الوحدة التي عجزت عن تحقيقها بلاد اليونان من قبل، وإن كانت لم تتحقق إلا على ظبا سيف رجل يكاد أن يكون أجنبياً عنها. وكانت الحرب البلوبونيزية قد أثبتت عجز أثينة عن تنظيم هلاس، وأثبتت الحوادث التي أعقبت هذه الحرب عجز إسبارطة عن هذا التنظيم، وعجزت طيبة عن بسط سيادتها على البلاد، وأنهكت حرب الجيوش والطبقات قوى دول المدائن، وتركتها ضعيفة عاجزة عن الدفاع عن نفسها. لهذا كان من حسن حظها أن تجد لها في هذه الظروف فاتحاً معقولاً يعرض عليها أن ينسحب من ميدان النصر ويترك للمغلوبين قسطاً كبيراً من الحرية. والحق أن فليب ومن بعده الإسكندر كانا يحيطان استقلال الدول المتحالفة بحمايتهما ورقابتهما، حتى لا تضم إحدى هذه الدول غيرها إليها فيكون لها من القوة ما تستطيع به أن تحل بينها محل مقدونية. بيد أن فليب قد سلبها نوعاً غالياً من الحرية - ونعني به حق الثورة. فقد كان محافظاً صريحاً، يرى أن استقرار الملكية حافز لا غنى عنه للإقدام والنشاط، ودعامة لا بد منها للحكم. ومن أجل هذا حمل المجمع المقدس في كورنثة على أن يضع بين مواد الحلف عهداً يقطعه المتحالفون على ألا يُدخلوا في الدستور تغييراً ما، وألا يبدلوا النظم الاجتماعية بحال من الأحوال، وألا يتورطوا في الانتقامات السياسية. وكان في كل ولاية يؤيد بنفوذه المدافعين عن الملكية، وقضى قضاءً تاماً على الضرائب الفادحة التي تبلغ درجة مصادرة الأملاك.
وكان قد أحكم وضع خططه كلها إلا ما يختص منها بزوجته أولمبياس Olympias، ولهذا فإن الذي قرر مصيره آخر الأمر لم يكن هو انتصاره في ميدان القتال، بل كان عجزه عن الانتصار على زوجته. ولم يكن يرهب منها أخلاقها وحِدَّة طباعها فحسب، بل كان يرهب فوق ذلك اشتراكها في الطقوس الديونيشية الهمجية. وقد وجد في ذات ليلة أفعى إلى جانبها في السرير، فارتاع ولم يذهب عنه روعه حتى بعد أن قيل له إن الأفعى إله من الآلهة. وأسوأ من هذا أن أولمبياس أخبرته ذات مرة أنه لم يكن والد الإسكندر الحقيقي، بل إن صاعقة قد انقضت عليها ليلة زفافها، وأشعلت فيها النار، وأن الإله العظيم زيوس - أمون هو الذي حملت منه بالأمير المقدام. ونفّرت هذه المنافسات المختلفة فليب منها فولى وجهه شطر غيرها من النساء، وشرعت أولمبياس تثأر لنفسها منه فأخبرت الإسكندر بسر أبوته الإلهية (60). وزاد الطين بلّة أن قائداً من قواد فليب يدعى أتلس Atallus طلب أن يشرب نخب ولد فليب المرتقب من زوجة أخرى وقال إنه الوارث "الشرعي" (أي المقدوني لحماً ودماً) لعرش البلاد. فما كان من الإسكندر إلا أن ضربه بالكأس في رأسه وصاح قائلاً: "وهل أنا إذن ابن زنى؟ ". واستل فليب سيفه يريد أن يقتل به ولده ولكنه كان ثملاً لا يستطيع الوقوف. فضحك منه الإسكندر وقال: "هاهو ذا رجل يستعد للانتقال من أوربا إلى آسية وهو لا يستطيع أن يخطو آمناً من مقعد إلى مقعد". وبعد بضعة أشهر من ذلك طلب ضابط من ضباط فليب يدعى بوسينياس أن يأخذ له الملك بحقه من أتلس لإهانة لحقت به منه، فلما لم يجبه الملك إلى طلبه اغتاله (336). وكان الإسكندر محبوباً من الجيش حباً يقرب من العبادة، وكانت أولمبياس تؤيده (1) فاستولى على أزمة الملك، وتغلب على كل ما لقيه من مقاومة، وأخذ يعد العدة لفتح العالم.













مصادر و المراجع :

١- قصة الحضارة

المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)

تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر

ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين

الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس

عام النشر: 1408 هـ - 1988 م

عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید