إذا وازنا بين حال العلم في القرن الرابع وبين الخطوات الجريئة التي خطاها إلى الأمام في القرن الخامس، وبالانقلاب الثوري الذي حدث فيه في القرن الثالث، حكمنا من فورنا بأنه كان في هذا القرن الأوسط في حالة ركود، وأنه قنع في معظم الأحوال بتسجيل ما تجمع له في القرن السابق. فقد كتب أكسانوقراطيس Xenocrates تاريخاً للهندسة، وكتب ثاوفرسطوس تاريخاً للفلسفة الطبيعية، وكتب مينون Menon تاريخاً للطب، وأوديموس Eudemus تواريخ للحساب، والهندسة، والفلك (1). وبدا لعلماء ذلك العصر أن المسائل الدينية والأخلاقية والسياسية أكثر أهمية وأولى بالدرس من مشاكل الطبيعة، فتحول الناس مع سقراط من دراسة العالم المادي دراسة موضوعية إلى البحث في أحوال النفس وشئون الدولة.
وكان أفلاطون يحب العلوم الرياضية فغمر فيها فلسفته إلى أعماق بعيدة، وجعلها شغل المجمع العلمي، وكاد في سراقوصة أن يهب لها ممالك بأسرها. لكن الحساب كان في نظره نظريات في الأعداد تتصف بالكثير من الغموض؛ ولم تكن الهندسة هي قياس الأرض، بل كانت تدريباً عقلياً، خالصاً، وطريقاً يصل به العقل إلى الله. ويحدثنا بلوتارخ عن "غضب" أفلاطون من أودسكوس Eudoxus وأرخيتاس Archytas لأنهما قاما بتجارب في الميكانيكا "فأفسدا الشيء الوحيد الطيب في الهندسة، وقضيا عليه قضاء مبرماً، وأبعداه بطريقة مخجلة يجللهما العار من المسائل العقلية الخالصة غير المجسمة إلى المحسوسات، واستعانا على عملهما هذا بالمادة". ويقول بلوتارخ بعد ذلك: "إن الميكانيكا قد انفصلت بهذه الطريقة عن الهندسة، وأنكرها الفلاسفة، وأهملوا أمرها، فأصبحت من فنون الحرب" (2). على أن أفلاطون رغم هذا قد قدم للعلوم الرياضية بطريقته العقلية المجردة أجل الخدمات؛ فأعاد تعريف النقطة وقال إنها مبدأ الخط (3)، ووضع قاعدة لإيجاد الأعداد المربعة التي هي مجموع مربعين (4)، واخترع التحليل الرياضي أو ارتقى به (5)، ونعني بالتحليل الرياضي البرهنة على صحة قضية أو خطأها بالنظر إلى النتائج التي يؤدي إليها الأخذ بها؛ وليست طريقة إقامة البرهان بنقض نقيضه إلا صورة من هذه الطريقة. وكان الاهتمام بالرياضيات في منهاج المجمع العلمي عوناً كبيراً للعلوم الطبيعية، ولو لم يؤد هذا الاهتمام إلا لتدريب تلاميذ مبتكرين أمثال أودكسوس النيدي (1)، وهرقليدس البنتي، لكفاه فضلاً.
وعمل أرخيتاس صديق أفلاطون على ترقية رياضيات الموسيقى، وضاعف المكعب، وكتب أول رسالة معروفة في الميكانيكا. هذا إلى أنه اختير حاكماً لمدينة تاراس Taras سبع مرات، وكتب عدة بحوث في الفلسفة الفيثاغورية. ويعزو إليه الأقدمون ثلاثة اختراعات عظيمة الخطر - البكرة وطارة السير، واللولب، (والخشخيشة). وكان الاختراعان الأولان أساس الصناعة الآلية، أما ثالثهما فيقول عنه أرسطاطاليس في كثير من الجد والوقار إنه "هيأ للأطفال عملاً يشغلون به أنفسهم فمنعهم بذلك أن يحطموا ما في البيت من أدوات" (6). وفي هذا العصر نفسه "ربع" ديونستراتس Dinostratus " الدائرة" باستخدام القوس الذي يمكن به إيجاد الخطوط المستقيمة المساوية لمحيطات الدوائر أو غيرها من المنحنيات. ووضع أخوه مينكموس Menaechmus أحد تلاميذ أفلاطون، أساس هندسة القطاعات المخروطية (1)، وضاعف المكعب، ووضع قاعدة التكوين النظري للخمسة أجسام الصلبة المنتظمة (2)، وصاغ نظرية الأعداد الصماء، وأورث العالم تلك العبارة المشهورة، وهي قوله للإسكندر: "أيها الملك إن ثمة طرقاً للملوك وأخرى لعامة الشعب يسافرون عليها في أقطار الأرض؛ أما الهندسة فليس فيها إلا طريق واحد يسلكه جميع الناس (3).
وأعظم رجال العلم في القرن الرابع هو أودكسوس الذي أعان بركستليز على تخليد اسم نيدس في التاريخ. وقد ولد فيها حوالي عام 408، وشرع وهو في الثالثة والعشرين من عمره يدرس الطب مع فلستيون Fhilistion في لكري Locri، والهندسة مع أرخيتاس في تاراس، والفلسفة مع أفلاطون في أثينة. وكان لفقره يعيش معيشة ضنكا في بيرية، ويسير منها على قدميه إلى المجمع العلمي في كل يوم من أيام الدراسة. وبعد أن أقام زمناً ما في نيدس سافر إلى مصر وقضى فيها ستة عشر شهراً يدرس الفلك على كهنة عين شمس ثم نجده بعد ذلك في سيزقوس البربوبنثية Proportin Cyzcus يحاضر في العلوم الرياضية. ولما بلغ الأربعين من عمره انتقل هو وتلاميذه إلى أثينة وافتتح فيها مدرسة لتعليم العلوم الطبيعية والفلسفة، ونافس أفلاطون وقتاً ما. ثم عاد آخر الأمر إلى نيدس وأقام فيها مرصداً، وعهد إليه أن يضع للمدينة طائفة من القوانين (9).
وقد وضع في الهندسة عدة مبادئ أساسية، فهو الذي وضع نظرية النسبة (1) ومعظم الفروض التي انتقلت إلينا في الكتاب الخامس من كتب إقليدس، وهو الذي اخترع طريقة إفناء الفرق التي أمكن بها إيجاد مساحة الدائرة وحجم الكرة، والهرم، والمخروط؛ ولولا هذا لكان عمل أرشميدس المبدئي مستحيلاً. ولكن العلم الذي وهب له أودكسوس معظم جهوده هو علم الفلك. ونستطيع أن نلمح روح العالم في قوله إنه يسره أن يحترق كما احترق فيتون إذا استطاع بهذا أن يكشف عن طبيعة الشمس وحجمها وشكلها (10). وكان لفظ التنجيم Astrology يستعمل في ذلك الوقت ليشمل ما نسميه الآن علم الفلك Astronomy، ولكن أودكسوس أشار على تلاميذه أن يغفلوا نظرية الكلدانيين القائلة إن مستقبل الإنسان يمكن التنبؤ به بالنظر لمواقع النجوم وقت مولده. وكان شديد الرغبة في أن يرجع جميع الحركات السماوية إلى قوانين ثابتة، ووضع في كتابه الفينومينا Fhainomena - الذي يعده الأقدمون أعظم ما كتبوه في علم الفلك - أساس التنبؤات الجوية.
وأخفقت أشهر نظرياته إخفاقاً باهراً. فقد قال إن العالم يتكون من سبعة وعشرين دائرة شفافة لا تراها العين لشفيفها تدور في اتجاهات مختلفة وبسرعات متباينة حول مركز الأرض، وإن الأجرام السماوية مثبتة حول قشرة هذه الدوائر المتحدة المركز. ويبدو هذا النظام الآن نظاماً مغرقاً في الخيال، ولكنه كان أول محاولة بُذلت لتفسير حركات الأجرام السماوية تفسيراً علمياً. وعلى أساس هذه النظرية حسب أدكسوس بدقة عظيمة (إذا ما اتخذنا "معلوماتنا" الحاضرة في مثل هذه المسائل مقياساً نحكم به على الأشياء) أوقات اقتران الكواكب وحلولها في البروج المختلفة (1). وكان لهذه النظرية أثر أقوى من أية نظرية أخرى في الزمن القديم لإيقاظ روح البحث العلمي.
وكتب إكفنتوس السراقوصي حوالي عام 390. ومن أقواله أن الأرض تدور حول مركزها في اتجاه شرقي (12). وأخذ هرقليدس البنتي هذا الإيحاء، أو لعله وصل إليه مستقلاً، وقال إن العالم لا يدور حول الأرض، وإن الظواهر المتصلة بهذا الفرض يمكن تفسيرها إذا افترضنا أن الأرض نفسها تدور مرة في كل يوم حول محورها (13). ومن أقواله أيضاً أن الزهرة وعطارد يدوران حول الشمس، ولعل هرقليدس في لحظة من لحظات التجلي العلمي قد استبق أرسطرخوس وكوبرنيق، لأنا نقرأ في الجزازات الباقية من كتابات جمنوس Geminus ( حوالى عام 70 ق. م) أن هرقليدس البنتي قال: "حتى لو افترضنا أن الأرض تدور بطريقة ما، وأن الشمس ساكنة بطريقة ما، فإن ما يبدو لنا من عدم انتظام الشمس لا يستعصي على الفهم" (14). وأكبر الظن أننا لن نستطيع فهم ما كان يقصده هرقليدس بقوله هذا بالضبط.
وكانت العلوم الطبيعية في هذه الأثناء تتقدم تقدماً بطيئاً. ففي الجغرافية قام ديقايرخوس المساني Dicaearchus of Messana كاتب السير اليوناني بقياس ارتفاع الجبال، وقدر طول محيط الأرض بما يقرب من ثلاثين ألف ميل، ولاحظ تأثير الشمس في المد والجزر. وفي عام 325 سافر نيارخوس Nearchus أحد قواد الإسكندر بحراً من مصب نهر السند محاذياً ساحل آسية الجنوبي إلى مصب الفرات؛ وكان سجل سفينته الذي احتفظ أريان Arrian ببعضه في كتابه Indica (15) من أهم الكتب الجغرافية القديمة وكان علم المساحة التطبيقية - أي قياس السطوح، والمرتفعات، والمنخفضات والمواقع، والأحجام- قد وضع له اسم خاص يميزه من الهندسة النظرية Geometry وهو الجيوديزيا (16). وكان فلستيون Fhilistion أحد أبناء بلدة لكري Lorcri الإيطالية يمارس تشريح الحيوانات في بداية ذلك القرن وقال إن القلب هو المنظم الرئيسي للحياة ومركز النيوما أي النفس. وشرح ديوقليس Diocles أحد أبناء بلدة كرستوس Carystus العوبية حوالي عام 370 أرحام إناث الحيوان، ووصف الأجنة البشرية من بداية اليوم السابع والعشرين إلى اليوم الأربعين من حياتها، وتقدمت على يديه علوم التشريح والأجنة وأمراض النساء والولادة، وأصلح إحدى الأغلاط اليونانية الشائعة بقوله إن "بذرتي" الذكر والأنثى تشتركان في تكوين الجنين (17). وكانت امرأة تدعى أسبازيا (غير أسبازيا أم الإسكندر) من أشهر الطبيبات في أثينة في القرن الرابع، وذاع صيتها بمؤلفاتها في أمراض النساء والجراحة وغيرها من فروع الطب (18). وخشي إينياس تكتكوس Aeneas Tocticus الأركادي أن يؤدي تقدم الطب إلى إنقاص نسبة الوفيات أكثر مما تحتمله موارد الغذاء، فنشر حوالي عام 360 أول كتاب شهير في فن الحرب، وجاء نشره في الوقت الذي استطاع فليب والإسكندر أن يفيدا بما ورد فيه من المعلومات.
مصادر و المراجع :
١- قصة الحضارة
المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)
تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر
ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين
الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس
عام النشر: 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون
تعليقات (0)