المنشورات

ديجين (ديوجانس)

ووافق أستانس على نتيجة هذه الفلسفة وإن لم يوافق على مناقشاتها، واستخلص من أقوال سقراط نفسه فلسفة للحياة قائمة على التقشف. وكان مؤسس المدرسة الكلبية ابن مواطن أثيني وأمة تراقية، وحارب ببسالة في يوم تنغارا عام 426، ودرس زمناً ما مع غورغياس وبرودكوس، ثم أنشأ بعدئذ مدرسته؛ ولكنه بعد أن سمع مناقشات سقراط، ذهب ومعه تلاميذه ليتلقى فلسفة الذي يفوقه سناً. وكان مثل أودكسوس يعيش في بيرية، ويسير إلى أثينة مشياً على قدميه كل يوم تقريباً. ولعله كان حاضراً حين كان سقراط (أو أفلاطون) يناقش خطيباً ظريفاً في مشكلة اللذة:
سقراط: هل تظن أن الفيلسوف يجب أن يهتم بملذات ... المأكل والمشرب؟.

سمياس: لا، من غير شك.

سقراط: وما قولك في لذات الحب- هل يجب عليه أن يهتم بها؟.

سمياس: لا، يجب ألا يهتم بحال من الأحوال.

سقراط: وهل يجوز له أن يفكر فيما عدا ذلك من طرق المتعة الجسمية-

كالحصول على الملابس الغالية، أو الأحذية وما إليها من زينة

الجسم؟ أليس الواجب عليه، بدل أن يُعنى بهذه الأشياء، أن

يحتقر كل ما تتطلبه الطبيعة؟.

سمياس: من واجبي أن أقول إن الفيلسوف الحق هو الذي يحتقرها (34). 

هذا هو جوهر الفلسفة الكلبية: أن تقتصر حاجات الجسم على الضرورات المحضة حتى تكون الروح حرة قدر المستطاع. وقد استمسك أنتستانس بحرفية النظرية، وأصبح كأنه راهب فرنسيسي يوناني بلا دين. وكان شعار أرستبوس هو: "إني أملك ولكن أحداً لا يملكني"، أما شعار انتستانس فقد كان: "إني لا أملك حتى لا يمتلكني أحد". ولم يكن عنده مال (35)، وكان يرتدي ثوباً خلقاً عيره به سقراط بقوله: "إني أستطيع أن أرى غرورك يا أنتستانس من خلال ثقوب ثوبك" (36). وإذا ضربنا صفحاً عن هذا فقد كان عيبه الوحيد هو تأليف الكتب؛ وقد ترك منها ثمانية، أحدها تاريخ للفلسفة. ولما مات سقراط اضطلع أنتستانس بواجب تدريس الفلسفة لطالبيها واختار موضعاً لمحاضراته ساحة "كلب البحر للتدريب الرياضي"، وكان سبب اختيارها أنها مخصصة لأفراد الطبقات الدنيا، أو الغرباء، أو غير الشرعيين، وغلب اسم الكلبي على المدرسة بسبب مكان وجودها لا بسبب العقيدة التي تُدرس فيها (37). وكان أنتستانس يرتدي ثياب العمال، ولا يتقاضى أجراً على قيامه بالتدريس، ويفضل أن يكون تلاميذه من الفقراء، ويطرد من مدرسته بلسانه أو عصاه كل من لا يعيش معيشة الفقراء ولا يتحمل شظف العيش.
وأبى في أول الأمر أن يقبل ديجين ضمن تلاميذه فلما أصر ديجين وصبر على الإهانة، قبلهُ، فأذاع التلميذ نظريات أستاذه في جميع أنحاء هلاس بأن اتبع تعاليمه في معيشته لا يحيد عنها قيد شعرة. لقد كان أنتستانس في أصله نصف رقيق، وكان ديجين رجلاً مصرفياً مفلساً من سينوب اضطرته شدة الحاجة إلى التسول، وسره أن يعلم أن هذا جزء من الفضيلة والحكمة، فلبس أثواب المتسولين، وحمل جرابهم، وتوكأ على عصاهم، وعاش وقتاً ما داخل قصعة في ساحة معبد سيبيل في أثينة (38). وكان يحسد الحيوان على حياته البسيطة ويحاول أن يحذو حذوه، ينام على الأرض، ويطعم مما يستطيع الحصول عليه أينما وجده؛ ويؤكدون لنا أنه كان يقضي حاجة الطبيعة ومراسم الحب على مرأى من جميع الناس (39). ولما رأى طفلاً يشرب الماء بيديه ألقى هو الآخر كوب الماء (40). وكان في بعض الأحيان يحمل شمعة أو مصباحاً ويقول إنه يبحث بهما عن رجل (41). ولم يسئ في حياته إلى إنسان، ولكنه رفض أن يعترف بالقوانين، وأعلن قبل الرواقيين بزمن طويل أنه مواطن عالمي ( Kosmopolites) . وكان يطوف بالبلاد على مهل، ونسمع أنه أقام بعض الوقت في سراقوصة. وقبض عليه القراصنة في بعض أسفاره وباعوه عبداً لأكسنياديس صاحب كورنثة. ولما سأله سيده عما يستطيع أن يؤديه من الأعمال قال: "إنه يستطيع أن يحكم الرجال"، فاتخذه أكسنياديس مربياً لأبنائه، ومشرفاً على شئون قصره، وأحسن ديجين القيام بكلا العملين إحساناً جعل سيده يطلق عليه لقب "العبقري الصالح"، ويعمل بمشورته في كل شيء. وظل ديجين يحيا حياته البسيطة لا يحيد عنها قط حتى أصبح بعد الإسكندر أشهر رجل في بلاد اليونان.
وكان متصنعاً بعض الشيء، وما من شك في أنه كان يحب الشهرة، وكان بارعاً في الجدل، ويقول سميه إنه لم يُغلب قط في مناقشة (42). وكان يصف حرية الكلام بأنها أعظم الطيبات، وقد أفاد منها كثيراً هي والمزاح الخشن، والفكاهة التي لم تكن تُعجزه قط. وعنف ذات يوم امرأة تركع وتسجد أمام صورة مقدسة بأن سألها: "ألا تخافين أن تكوني في هذا الوضع وقد يكون في ورائك إله من الآلهة، لأن الآلهة يملأون كل مكان" (43)؟؛ ولما رأى ابن حظية يرمي جماعة من الناس بحجر قال: "احذر أن تصيب أباك" (44). وكان يكره النساء، ويحتقر من الرجال من يسلكون مسلك النساء، من ذلك أن شاباً كورنثياً جاءه متعطراً متأنقاً في ثيابه الغالية يسأله سؤالاً فأجابه بقوله: "لن أجيبك عن سؤالك حتى تخبرني: أولد أنت أم بنت" (45)؟.
والعالم كله يعرف قصته مع الإسكندر حين التقى بالفيلسوف في كورنثة نائماً في الشمس وقال له: "أنا الإسكندر الأكبر"، وأجابه الفيلسوف بقوله: "وأنا ديجين الكلب". وقال لهُ الملك: "اسألني أي شيء تريد"، فأجابه: "ابتعد حتى لا تحجب عني الشمس". وقال الجندي الشاب: "لو لم أكن أنا الإسكندر لتمنيت أن أكون ديجين" (46)، ولسنا نعرف أن ديجين قد رد على هذه التحية. ويراد منا أن نعتقد أن الرجلين توفيا في يوم واحد من أيام عام 323 الإسكندر في بابل وهو في سن الثالثة والثلاثين، وديجين في كورنثة بعد أن جاوز التسعين (47). وقد وضع الكورنثيون فوق قبره كلباً من الرخام؛ وأقامت له سينوب التي نفته نصباً تذكارياً تخليداً لذكراه.
وليس ثمَ شيء أوضح من الفلسفة الكلبية؛ فهي لم تعمد إلى المنطق إلا ريثما تدحض نظرية المعرفة التي كان أفلاطون يحير بها عقول العلماء في أثينة. كذلك كانت الميتافيزيقا في نظر الكلبيين عبثاً عقيماً؛ وكانوا يقولون إن من واجبنا ألا ندرس الطبيعة لنفسر العالم بهذه الدراسة، وهو أمر مستحيل، بل لنعلم حكمة الطبيعة ونسترشد بها في الحياة، والفلسفة الوحيدة الحقة هي فلسفة الأخلاق، والغرض من الحياة هو السعادة، ولكن هذه السعادة لا تكون في طلب اللذة، بل في الحياة الفطرية البسيطة المستقلة قدر المستطاع عن المساعدات الخارجية؛ ذلك أن اللذة، وإن كانت عملاً مشروعاً إذا أتت نتيجة كدح الإنسان وجهوده الخاصة، ولم يعقبها شيء من الندم ووخز الضمير (48)، كثيراً ما تفلت منا أثناء السعي إليها، أو تخيب رجاءنا فيها بعد أن ننالها؛ ومن أجل هذا فإن الأخلق بنا أن نعدها شراً لا خيراً. والسبيل الوحيد إلى السعادة الباقية هي أن يحيا الإنسان حياة معتدلة فاضلة. والثروة تفسد الطمأنينة والسلام، والشهوة الحاسدة تأكل النفس كما يأكل الصدأ الحديد، والاسترقاق عمل ظالم ولكنه ليس عملاً خطيراً؛ والرجل الحكيم يسهل عليه أن يجد السعادة في الرق كما يجدها في الحرية، لأن حرية النفس هي الحرية الحقة. ويقول ديجين إن الآلهة قد وهبت الإنسان الحياة السهلة المريحة، ولكن الإنسان هو الذي عقّدها بالتلهف على الترف. وليس معنى هذا أن الكلبيين كانوا شديدي الإيمان بالآلهة، وشاهد ذلك أن قسيساً أخذ يعدد لأنتستانس ما يتمتع به المستمسكون بأسباب الفضيلة من خير كثير بعد وفاتهم، فسأله الفيلسوف: "ولم إذن لا تموت؟ " (49)، وكان ديجين يسخر من الطقوس الدينية الخفية، ويقول عن القرابين التي قربها في سمثريس من نجوا من الموت بعد أن حُطمت سفينتهم: "لو أن هذه القرابين قد قربها الذين هلكوا لا الذين نجوا لكانت أكثر من هذا عدداً" (50)، وكان كل شيء في الدين عدا الاستمساك بالفضيلة يبدو للكلبيين أوهاماً وخرافات، وهم يرون أن جزاء الفضيلة يجب أن يكون هو الفضيلة نفسها، وأن من الواجب ألا يكون هذا الجزاء موقوفاً على عدالة الآلهة. وقوام الفضيلة هو الأكل والتملك، والحد من الرغبات قدر المستطاع، والاقتصار على شرب الماء، وعدم الإساءة لأي إنسان. وسُئل ديجين: وكيف يستطيع الإنسان أن يدفع عنه أذى عدوه؟ فأجاب بقوله: "بأن يثبت أنه شريف مستقيم" (51). والشهوة الجنسية دون غيرها هي التي كانت تبدو للكلبيين غريزة معقولة، وكانوا يتجنبون الزواج بوصفه رابطة خارجية ولكنهم كانوا يحمون البغايا. وكان ديجين يدعو إلى الحب الجر الطليق، وإلى شيوعية الزوجات (52)؛ وكان أنتستانس يطلب الاستقلال في كل شيء، ومن أجل ذلك كان يشكو من أنه لا يستطيع أن يشبع جوعه بمفرده كما يستطيع أن يشبع شهوته الجنسية على هذا النحو (53). وإذ كان الكلبيون قد قرروا أن الشهوة الجنسية شهوة سوية طبيعية كالجوع، فقد أعلنوا أنهم لا يفقهون لم يخجل الناس من إشباع إحدى الرغبتين جهرة أمام الناس كما يشيعون الأخرى (54). ومن رأيهم أن الإنسان يجب أن يكون مستقلاً في كل شيء حتى في الموت نفسه، فيختار لنفسه مكان موته وزمانه؛ وعندهم أن الانتحار عمل مشروع، ويقول بعضهم إن ديجين قتل نفسه بأن أمسك عن التنفس (55).
وكانت الفلسفة الكلبية جزءاً من الحركة التي تهدف إلى "الرجوع إلى الطبيعة"، وهي الحركة التي قامت في أثينة في القرن الخامس رداً على ما أحدثته الحضارة المعقدة من ملل في النفوس وعدم توازن في شئون الحياة. ذلك أن الناس ليسوا متحضرين بالفطرة، وهم لا يتحملون قيود الحياة المنظمة، إلا لأنهم يخشون مغبة العقاب والوحدة. وكانت الصلة بين ديجين وسقراط شبيهة بعض الشبه بالصلة التي بين روسو وفلتير: فقد كان يرى أن الحضارة لا خير فيها، وأن بوميثيوس قد استحق أن يصلب لأنه جاء بها إلى بني الإنسان (56). وكان الكلبيون، كما كان الرواقيون، وكما كان روسو في العصر الحديث، يجعلون مثلهم الأعلى هو "الشعوب الطبيعية" (57)؛ وقد حاول ديجين أن يأكل اللحم النيئ لأن طهو الطعام عمل غير طبيعي (58)، ويظن أن أحسن المجتمعات هو المجتمع الخالي من أسباب الخداع ومن القوانين.
وكان اليونان يسخرون من الكلبيين، ويصبرون عليهم صبر المجتمع في العصور الوسطى على القديسين. وقد أصبحوا بعد ديجين هيئة دينية من غير دين، اتخذوا الفقر قاعدة وأساساً لعقيدتهم، وكانوا يعيشون من الصدقات، وينفسون عن عزوبتهم بالشيوعية الجنسية، وافتتحوا مدارس لتعليم الفلسفة. ولم تكن لهم بيوت، بل كانوا يعملون وينامون في الطرقات أو مداخل المعابد. وانتقلت العقائد الكلبية على أيدي استلبو Stllpo وأقراطيس Crates تلميذي ديجين إلى العصر الهلنستي، وكانت فيه أساس الرواقية، واختفت المدرسة بوصفها ذات كيان مستقل حوالي القرن الثالث، ولكنها ظلت ذات أثر قوي في التقاليد اليونانية، ولعلها عادت إلى الوجود في شخص الإسينيين (1) في بلاد اليهود، والرهبان في مصر، في أوائل عهد المسيحية. وليس في مقدور العلماء أن يقرروا حتى الآن مقدار ما تأثرت به هذه الحركات كلها بأمثالها من حركات الطوائف المختلفة في الهند، أو ما كان للثانية من أثر في الأولى. وإن الذين يدعون للرجوع إلى الطبيعة في أيامنا هذه، لهم الأبناء الذهنيون لأولئك الرجال والنساء الذين عاشوا في بلاد الشرق أو اليونان في الأيام الخالية، والذين ملوا القيود الضيقة غير الطبيعية، وظنوا أن في وسعهم أن يعودوا إلى الحيوانات ويعيشوا بينها؛ واعتقادنا أنه ليس ثمة حياة كاملة خالية من هذه اللوثة الحضرية.











مصادر و المراجع :

١- قصة الحضارة

المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)

تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر

ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين

الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس

عام النشر: 1408 هـ - 1988 م

عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید