ويقول أثنيوس، وهو ثرثار خليق بأن يُعتمد عليه بالقدر الذي يصح أن يُعتمد به على أمثاله الثرثارين، إن دمتريوس الفالرومي أحصى سكان أثينة حوالي عام 310 ق. م فوجد فيها 21. 000 من المواطنين، و 10. 000 من الغرباء المستوطنين، و 400. 000 من الأرقاء (8): فأما العدد الأخير فلا يمكن تصديقه، ولكنا لا نعرف شيئاً ينقضه، وأكبر الظن أن عدد الأرقاء الذين كانوا يعملون في المزارع قد ازداد لأن الضياع كانت آخذة في الاتساع، ولأن استغلالها بجهود العبيد تحت إشراف العبيد الذين يعملون في خدمة المالك البعيد عنها، كان آخذاً في الازدياد (9). وبفضل هذا النظام انتشر نظام الزراعة الذي يعتمد على العلم أكثر من ذي قبل؛ ودليلنا على ذلك أن فارو Varro كان يعرف أسماء خمسين كتاباً في فن الزراعة. ولكن عوامل التعرية وتقطيع الغابات أدت إلى اكتساح التربة في مساحات واسعة من الأرض الخصبة. وحتى في القرن الرابع ذ كر أفلاطون أن الأمطار وفيضانات الأنهار قد جرفت على مر الزمن كثيراً من تربة أتكا الخصبة؛ ويشبه ما بقي من التلال بالهيكل العظمي الذي انتزع منه اللحم (10). وما وافى القرن الثالث حتى كانت مساحات واسعة في أتكا قد تعرت من تربتها الخصبة إلى درجة اضطرت أصحاب كثير من الضياع القديمة إلى هجرها، وأخذت غابات بلاد اليونان تختفي شيئاً فشيئاً، حتى اضطر الأهلون إلى استيراد الخشب كما اضطروا إلى استيراد الطعام من خارج البلاد (11). كذلك أجدبت مناجم لوريوم، وكادت هي الأخرى أن تُهجر، وكان استيراد الفضة من أسبانيا أرخص من استخراجها من مناجم البلاد، وأضحت مناجم الذهب في تراقية تُغني خزائن مقدونية وتجمل عملتها بعد أن كانت تصب ثروتها في أثينة.
وبينما كانت موارد الرجولة والمواطنية المستقلة ينضب معينها في القرى، كانت الصناعة وحرب الطبقات تفعلان فعلهما في المدن، فكانت المصانع الصغيرة في أثينة وفي جميع المدائن الكبرى في العالم الهلنستي يتزايد عددها وعدد العبيد الذين يعملون فيها؛ وكانت تجار الرقيق يصحبون الجيوش، ويبتاعون من لا يُفتدون من الأسرى، ويبيعونهم بسعر ثلاث مينات أو أربع (مائة وخمسين ريالاً أو مائتي ريال) في أسواق الرقيق الكبرى في ديلوس ورودس. وكان عدد من الناس يشعرون بما في هذا النظام القديم، نظام الاسترقاق، من مجافاة للمبادئ الإنسانية؛ وكان من ثمار الفلسفة أن سرت في قلوب الناس عاطفة إنسانية نبيلة؛ يُضاف إلى هذا أن الروح العالمية التي سادت ذلك العصر لم تكن تميز بين الأجناس البشرية، وأن العمال المأجورين الذين يخرجون من الأعمال حين لا تأتي بأرباح ليعيشوا من معونة الدولة، كانوا في كثير من الظروف أقل كلفة من العبيد الذين لا بد من إطعامهم على الدوام (12). وكان من أثر هذه العوامل كلها أن أخذ عدد العبيد المحررين يزداد في ذلك الوقت زيادة ملحوظة.
وكسدت التجارة في المدن القديمة ولكنها راجت في المدن الحديثة، فازدهرت الثغور اليونانية في آسية ومصر على حساب ثغر بيرية، وحتى في أرض اليونان القارية كانت خلقيس وكورنثة هما اللتين استفادتا من تيار التجارة الهلنستية الزاخر؛ فقد كان التجار لا ينقطعون عن التردد غادين رائحين على هذين البلدين ذوي المركز الهام والاستعداد التجاري العظيم، كما لم يكونوا ينقطعون عن التردد على أنطاكية، وسلوقية، ورودس، والإسكندرية، وسرقوسة؛ وكانوا ينشرون مع تجارتهم نزعتهم العالمية والمتشككة. وتضاعف عدد رجال المصارف، ولم يكونوا يقرضون المال للتجار والملاك فحسب، بل كانوا يقرضونه أيضاً للمدن والحكومات (13). وكان لبعض المدن مثل ديلوس وبيزنطية مصارف عامة أو وطنية تودع فيها الحكومات أموالها ويديرها موظفون معينون من قبل الدولة (14). وفي عام 324 أنشأ أنتمنيس الرودسي أول نظام معروف للتأمين، وذلك بأن ضمن للملاك نظير ثمانية في المائة من إيرادهم ما عسا أن يصيبهم من الخسارة إذا فر منهم عبيدهم (15). وكانت نتيجة انطلاق الأموال المكدسة في خزائن بلاد الفرس، وسرعة تداول رؤوس الأموال، أن نقص سعر الفائدة إلى عشرة في المائة في القرن الثالث، وإلى سبعة في المائة في القرن الثاني. كذلك انتشرت المضاربات انتشاراً كبيراً، ولكنها كانت على غير نظام؛ فمن المضاربين من كانوا يعملون لرفع الأسعار بتحديد الإنتاج؛ وقد وجد في البلاد من كانوا يدعون إلى تحديد مقدار الحاصلات الزراعية لكي يحتفظ الزراع بقدرتهم على الشراء (16). وكانت أثمان السلع مرتفعة في العادة لأن الإسكندر هو الآخر قد صب في أيدي الناس الأموال المكدسة في خزائن الملوك الأكمينيين؛ لكن هذا السبب عينه كان من الأسباب التي يسّرت سبل التجارة، ونشطت الإنتاج فعادت الأثمان إلى مستواها العادي. وازدادت ثروة الأغنياء إلى حد لم يُعرف له مثيل في تاريخ اليونان، فاستحالت البيوت قصوراً، وأضحت الرياش والعربات أفخم من ذي قبل، وكثر العبيد، وصارت وجبات الطعام قصفاً ولهواً خليعاً، وأضحت النساء معارض لثراء أزواجهن (17).
ولم تستطع الأجور لانخفاضها مجاراة أثمان السلع الآخذة في الارتفاع، فإذا انخفضت هذه الأسعار انخفضت معها الأجور على الفور؛ ولم تكن تكفي إلا لإطعام شخص بمفرده، وكانت سبباً في انتشار العزوبة والمسكنة، وإقفار البلاد من أهلها؛ وأخذ الفرق بين أجر العمل الحر ونفقات الرقيق ينقص-تدريجاً. ولم يكن العمل ميسراً للعمال على الدوام، وترك آلاف من الرجال مواطنهم في المدن اليونانية التي في أرض القارة ليعملوا جنوداً مرتزقين في خارج البلاد، أو ليُخفوا فقرهم في عزلتهم الريفية (18). وأعانت حكومة أثينة المعدمين من أهلها بهبات من الحبوب، وأخذ الأغنياء يسلونهم بما يقدمون لهم من التذاكر التي تبيح لهم حضور الحفلات والألعاب. فقد كانوا يقترون في الأجور، ولكنهم كانوا أسخياء في الصدقات؛ وكثيرا ماكانوا يُقرضون المال لمدنهم من غير فائدة، أو يُنقذونها من الإفلاس بالهبات الضخمة، أو يُنشئون المباني العامة على نفقتهم الخاصة، أو يهبون المال للهياكل والجامعات، أو يجودون بالكثير منها لإقامة التماثيل، أو إجازة الشعراء الذين يذيعون في الناس ملاحمهم أو يُشيدون بعطاياهم. ونظم الفقراء أنفسهم في اتحادات ليتبادلوا المعونة فيما بينهم، ولكنهم كانوا أضعف من أن يحدوا من سلطان الأغنياء أو مهاراتهم؛ ومن جمود الفلاحين واستعداد الحكومات والأحلاف المتنافسة لتبادل المعونة المسلحة للقضاء على الثورات (19). وقد أدت حرية الكفايات غير المتكافئة في جمع الثروة أو الهلاك جوعاً إلى ما أدت إليه من قبل في أيام صولون، ألا وهو تركز الثروة في أيدي عدد قليل جداً من الأفراد. وكان الفقراء سريعي الاستجابة إلى الدعايات الاشتراكية، فأخذ ممثلوهم يطالبون بإلغاء الديون، وإعادة توزيع الأراضي الزراعية على الأهلين، ومصادرة الثروات الكبرى؛ وكان أكثرهم جرأة يطالبون من حين إلى حين بتحرير العبيد (20).
وكان ضعف العقيدة الدينية سبباً في نشأة الدعوة إلى إقامة مدائن فاضلة خيالية تعوض على الناس هذا الضعف: فوصف زينون الرواقي في جمهوريته التي نشرها عام 300ق. م على ما يظن نظاماً شيوعياً مثالياً؛ وألهم يمبولوس أحد أتباعه (250 في الغالب) الثوار اليونان برواية له وصف فيها جزيرة مباركة في المحيط الهندي (قد تكون جزيرة سرنديب) قال إن الناس كلهم فيها أكفاء لا في الحقوق فحسب، بل في مقدرتهم وذكائهم؛ وإنهم كلهم يعملون على قدم المساواة، ويقتسمون ثمار عملهم بالتساوي، ويشتركون كلهم إذا جاء دورهم في تصريف شؤون الحكومة، وإن هذه الجزيرة لم يكن فيها غنى ولا فقر، ولا حرب بين الطبقات، وإن الطبيعة تنتج فيها الفاكهة موفورة بلا حاجة إلى جهد، وإن الناس يعيشون فيها متآخين متحابين (20).
وأممت بعض الحكومات عدداً من الصناعات: فاستولت حكومة برييني على مصانع الملح، وأممت ميليطس مصانع النسيج، ورودس ونيدس مصانع الفخار؛ ولكن الحكومات لم تؤدي للعمال أجوراً أعلى مما يؤديه أصحاب الأعمال الشحيحون، وكانوا يمتصون من كدح عبيدهم كل مل يستطيعون امتصاصه من المكاسب. واتسعت الهوة بين الأغنياء والفقراء (21)، وأضحت حرب الطبقات أشد مرارة مما كانت قبل؛ فأخذت كل مدينة قديمة كانت أو حديثة تردد أصداء كراهية الطبقات بعضها لبعض، وكانت هذه الكراهية تتمثل في الفتن، والمذابح، وأعمال القمع، والنفي، والقضاء على الأنفس والثمرات. فإذا ما انتصر فيها حزب طرد الحزب الآخر وصادر أملاكه؛ فإذا عاد إلى المنفيين سلطانهم ثأروا لأنفسهم مثل هذا الثأر وقتلوا أعداءهم، ألا فليتصور القارئ أي استقرار يمكن أن يتاح لنظام اقتصادي يتعرض لأمثال هذه الاضطرابات والهزات العنيفة. وقد وصل ما حل من الخراب ببعض المدن اليونانية القديمة من جراء النزاع بين الطبقات إلى درجة أن هجرتها الصناعات وفر منها الناس، وأن نمت الأعشاب في شوارعها وأقبلت عليها الماشية ترعاها (22). وكتب بولبيوس حوالي عام 150 ق. م يصف بعض مظاهر هذه الحرب كما يراها رجل محافظ ثري:
"ولما أن هيئوا (أي الزعماء المتطرفون) نفوس العامة إلى الجشع والرشوة، قُضي على ما في الديمقراطية من فضيلة، واستحالت حكم العنف والاستبداد. ذلك أنه إذا اعتادت الغوغاء أن تطعم على حساب غيرها، وأن تُبعَث فيها الآمال بأن تعيش من مال جيرانها، ثم وجدت زعيماً أوتي قدراً كافياً من الطموح والجرأة ... إذا حدث هذا نشأ عنه حكم العنف. وحينئذ تقوم الجمعيات الصاخبة، والمذابح، والنفي، وإعادة توزيع الأرض (23) ".
وكانت الحروب ونزاع الطبقات هي التي أضعفت بلاد اليونان الأصلية حتى جعلتها غنيمة سهلة لرومة. ذلك أن قسوة المنتصرين وغلظة قلوبهم المتناهية، وتدمير الغلات، والكروم، والبساتين، وتخريب الضياع، وبيع الأسرى في سوق العبيد قد قضى على إقليم في إثر إقليم، وترك البلاد أشبه بقشرة فارغة أمام العدو الأخير. وهل تقوى أرض أفقرها التنازع والتباغض، واكتسحت تربتها عوامل التعرية، وقُطعت غاباتها، ولم يكن يزرع أرضها إلا المستأجرون الفقراء أو الأرقاء الكليلون، هل تقوى أرض هذا شأنها على منافسة السهول الفيضية التي تشقها أنهار العاصي، والفرات، ودجلة، والنيل. أضف إلى هذا أن المدن الشمالية لم تعد كما كانت من قبل قائمة على الطرق التجارية الكبرى، وأنها قد فقدت أساطيلها الحربية، ولم يكن في مقدورها أن تشرف على موارد الحبوب وطرقها وهي الموارد والطرق التي كانت أثينة وإسبارطة تسيطران عليها في أيام عظمتهما الإمبراطورية. وانتقلت مراكز القوة، بما فيها قوة الإبداع الأدبية والفنية، إلى أماكنها القديمة في آسية ومصر، وهي المراكز التي أخذت منها بلاد اليونان في تواضع وخشوع آدابها وفنونها قبل ذلك الوقت بألف عام.
مصادر و المراجع :
١- قصة الحضارة
المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)
تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر
ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين
الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس
عام النشر: 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون
تعليقات (0)