لقد كان امتصاص آسية لليونان امتصاصاً تدريجياً سبباً في ضعف قوة الدولة السلوقية، ونشأة ممالك مستقلة على أطراف العالم الهلنستي. فقد أقامت منذ عام 280 بلاد أرمينية، وكبدوكيا وتيتس، وبيثينيا ممالك مطلقة مستقلة؛ ولم تلبث المدن اليونانية القائمة على شواطئ البحر الأسود أن خضعت لحكم الأسيويين. وانفصلت بكتريا وسجديانا من حكم السلوقيين حوالي عام 250؛ وفي عام 247 اغتال أرسسيز زعيم البارني Parni- وهي قبيلة إيرانية بدوية- حاكم بلاد الفرس السلوقي، وأنشأ مملكة بارثيا التي قُدر لها أن تنازع رومة سلطانها عدة قرون؛ وفي عام 282 استولى فلاتيروس Philataerus على تسعة آلاف وزنة من المال، وكان لسمخوس Lysemachus قد ائتمنه عليها، كما استولى على تل برجموم الحصين في آسية وأعلن استقلاله عن الدولة السلوقية. وضم ابن أخيه أمنيز الأول Eumenes إلى ملكه بيتاني Pitane وأترنيوس Atarneus وجعل برجموم مملكة مطلقة مستقلة ذات سيادة (262). وكان لأتلوس الأول Attaus I فضل كبير على آسية اليونانية لأنه صد عنها الغاليين الذين اخترقوا هذه الأصقاع حتى وصلوا إلى أسوار مدينته (230)؛ وواصل أمنيز الثاني أكبر أبنائه حكم أبيه الحازم، ولكنه أثار دهشة اليونان بأن استغاث برومة لتحميه من أنتيوخوس الثاني؛ وبعد أن هزم بمعونتها أنتيوخوس عند مجنيزيا ترك له الرومان جميع بلاد آسية الصغرى تقريباً؛ وخلفه على العرش أخوه أتلوس الثاني، وكان يرتاب في مقدرة أبنائه على أن يحتفظوا بحرية برجموم، فأوصى بملكه وهو على فراش الموت (139) إلى رومة.
وبذلت الدولة الصغيرة كل ما في وسعها لتكفر عما أحاط بمولدها ونشأتها من غدر وخيانة، فأخذت تنافس الإسكندرية بوصفها مركزاً للعلم والفن؛ فلم تنفق كل ما عاد عليها من خيرات المناجم، والكروم، وحقول الغلال، ومن نسيج الصوف وصناعة رقائق الجلد والعطور، والآجر والقرميد، ومن سيطرتها على تجارة بحر إيجة، نقول إنها لم تنفق كل ما عاد عليها من هذا في إنشاء جيش وأسطول قويين بل أنفقت جانباً كبيراً منه في تشجيع الأدب والفن؛ ذلك أن ملوك برجموم كانوا يؤمنون بأن الحكم والأعمال التجارية والمالية الخاصة تستطيعان أن تتنافسا تنافساً يؤتي خير الثمرات، وأن تقضيا على كثير من أسباب العجز والشره. فقد كان الملك يستخدم العبيد في زرع مساحات واسعة من الأرضين، ويدير كثيراً من المصانع، والمحاجر والمناجم، وإن لم يكن ذلك بطريق الاحتكار. وبهذه الطريقة الفذة ازدادت الثروة وتضاعفت، وأضحت برجموم حاضرة مزخرفة، اشتهرت بمذبح زيوس، وبقصورها الفخمة، وبمكتبتها الجامعة، ودار تمثيلها العظيمة، وبما كان فيها من مساحات رياضية وحمامات؛ بل إن ما كان فيها من دورات مياه عامة ليشهد بفضل إدارتها البلدية (11). ولم تكن مكتبتها الجامعة يفوقها في عدد مجلداتها، وفي شهرة علمائها الواسعة إلا مكتبة الإسكندرية وحدها، وكان معرض صورها يحتوي على مجموعة عظيمة من الرسوم الملونة يتردد عليها الزائرون ليستمتعوا بجمالها. وظلت برجموم خمسين عاماً أنضر زهرة في الحضارة الهلينية.
وكان بيت سلوقس في هذه الأثناء آخذاً في الاضمحلال والفناء. ذلك أن قيام الممالك المستقلة في أنحاء الإمبراطورية السلوقية كان يقصر سلطان الملوك السلوقيين على سوريا وبلاد الجزيرة. وأخذت بارثيا وبرجموم، ومصر، ورومة تعمل جاهدة في صبر وأناة لإضعاف هذه الأسرة، يساعدها على هذا المدعوون الذين كانوا يطالبون بعرش البلاد كلما انتقل هذا العرش من ملك إلى ملك، كما تساعدها الحزازات والانشقاق والحرب الأهلية. وبينما كان دمتريوس الأول يعيد القوة والنشاط للحكومة السلوقية، إذ جيشت رومة في عام 153 جيشاً من مرتزقة الجند جاءت بهم من كافة الأنحاء لتأييد مغامر من أهل أزمير في مطالبته الباطلة بعرش البلاد. وانضمت برجموم ومصر في الهجوم على دمتريوس، فقاوم هذا الملك جيوش أعدائه مقاومة الأبطال، وخر صريعاً في ميدان القتال، وآلت سلطة السلوقيين إلى يدي رجل حقير خامل يدعى ألكسندر بالاس Alexander Balas، كان ألعوبة في أيدي عشيقاته ورومة.
مصادر و المراجع :
١- قصة الحضارة
المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)
تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر
ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين
الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس
عام النشر: 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون
تعليقات (0)