المنشورات

سجل الملوك

كانت أصغر أجزاء تركة الإسكندر وأغناها من نصيب قواده وأعظمهم حكمة. وقد برهن بطليموس بن لاجوس على ولائه العظيم للملك المتوفي-ولعله أراد أن يدعم سلطانه بهذا الولاء-بأن نقل جثته إلى منفيس وأمر أن تودع تابوتاً من الذهب (1) وجاء معه أيضاً بتاييس Thais التي كانت عشيقة الإسكندر في بعض الأوقات، وتزوجها ورزق منها بولدين. وقد كان بطليموس هذا جندياً بسيطاً، صريحاً، خشن الطباع، قادراً على الإحساس الكريم والتفكير الواقعي. وبينما كان غيره من ورثة ملك الإسكندر يقضون نصف حياتهم في الحروب، ويحلمون بأن تكون لكل منهم دون غيره السيادة على هذا الملك، بذل بطليموس جهوده كلها في تدعيم مركزه في البلد الأجنبي الذي كان من نصيبه، وفي ترقية زراعته وتجارته وصناعته. وأنشأ لذلك أسطولاً عظيماً وأمن مصر من الغزو البحري كما أمنتها الطبيعة من الغزو البري، وجعلتها من هذه الناحية أمنع من عقاب الجو. وساعد رودس وعصب المدن المتحالفة على الاستقلال عن مقدونية، ومن أجل هذا سمي "سوتر Soter "؛ ولم يلقب نفسه ملكاً إلا بعد ثمانية عشر عاماً من العمل الشاق دعم في خلالها حياة مملكته الجديدة من النواحي السياسية والاقتصادية، وأقامها على نظام ثابت متين (305). وكانت نتيجة جهود خلفه أن بسطت مصر حكمها على قورينة، وكريت، وجزائر سكلديز، وقبرص، وعلى سوريا، وفلسطين، وفينيقية وساموس، ولسبوس، وسمثريس، والهلسبنت. وقد وجد في شيخوخته متسعاً من الوقت يكتب فيه شروحاً وتعليقات صادقة صدقاً مدهشاً على حروبه، وأن ينشئ حوالي عام 290 دار العاديات والمكتبة اللتين قامت عليهما شهرة الإسكندرية. ولما بلغ الثانية والثمانين من عمره وأحس بضعف الشيخوخة أجلس ابنه الثاني بطليموس فلدلفس مكانه على العرش وأسلمه زمام الحكم، واتخذ مكانه كأحد الرعايا في بلاط الملك الشاب. ومات بعد عامين من ذلك الوقت.
وكان وادي النيل الخصيب وداله قد ملأ خزائن الملك بالمال. وحسبنا دليلاً على هذا أن بطليموس الأول حين أراد أن يولم وليمة لأصدقائه اضطر إلى أن يقترض آنيتهم الفضية وطنافسهم، أما بطليموس الثاني فقد أنفق في آخر حفلات تتويجه ما قيمته 2. 500. 000 ريال أمريكي (2). واعتنق الملك المصري الجديد فلسفة قورينة واعتزم أن يستمتع بكل ما تتيحه له الساعة التي هو فيها من لذة. فكان يتخم معدته بشهي الطعام، وجرب كثيراً من العشيقات، وأقصى عنه زوجته، وتزوج آخر الأمر باخته أرسينوئي (3) Arsinoe. وحكمت الملكة الجديدة الإمبراطورية وصرفت شؤونها الحربية بينما كان بطليموس الثاني يحكم بين طهاته وعلماء بلاطه. وحذا حذو أبيه وزاد عليه بأن استقدم إلى الإسكندرية مشهوري الشعراء، والعلماء، والنقاد، والمتبحرين في العلوم الطبيعية والفلسفة، والفنانين، واستضافهم عنده؛ وزين عاصمته بالمباني الفخمة على الطراز اليوناني حتى صارت الإسكندرية في أثناء حكمه الطويل عاصمة بلاد البحر الأبيض المتوسط الأدبية والعلمية، وازدهرت آدابها ازدهاراً لم ترَ مثله مرة أخرى. لكن فلدلفس لم يكن مع هذا كله سعيداً في شيخوخته. فقد اشتد عليه داء النقرس، وزادت متاعبه بازدياد ثروته وسلطانه. وأطل مرة من نافذة قصره فأبصر متسولاً يرقد مستريحاً في الشمس على كثبان الميناء الرملية، فحسد الرجل على نعمته وقال متحسراً: "وا أسفاه! ليتني ولدت واحداً من هؤلاء (4)! ". وساوره خوف الموت، فطلب إلى الكهنة المصرين أن يدلوه على إكسير الخلود السحري (5).
ووسع المتحف والمكتبة وأنفق عليهما من المال ما جعل المؤرخين الذين جاءوا بعده يقولون إنه هو الذي أنشأهما. وكان دمتريوس فليرم قد لجأ إلى مصر في عام 307 بعد أن طرد من أثينة، فإذا نحن نجده بعد عشر سنين من ذلك الوقت في بلاط بطليموس الأول؛ ويلوح أنه هو الذي أوحى إلى بطليموس سوتر أن عاصمة ملكه وأسرته تذيع شهرتهما إذا أنشأ متحفاً (أي بيتاً لربات الفنون والعلوم Muses (1)) يضارع جامعات أثينة. وأكبر الظن أن دمتريوس قد ألهم نشاط أرسطو في جميع الكتب، وضروب المعرفة، وأنواع الحيوان، والنبات، ودساتير الحكم، وتصنيف ما جمعه منها، فأشار على ما يظهر بأن تقام طائفة من المباني لا تتسع لإيواء مجموعة عظيمة من الكتب فحسب، بل تتسع فوق ذلك لإيواء العلماء الذين يقضون حياتهم في البحث العلمي. واقتنع بطليموس الأول والثاني بهذه الفكرة، فأمداه بالمال، وقامت الجامعة الجديدة على مهل بالقرب من القصور الملكية. وكانت تحتوي على ردهة عامة يلوح أن العلماء كانوا يتناولون فيها الطعام، وقاعة للمحاضرات، وبهواً، ورواقاً، وحديقة، ومرصداً فلكياً، والمكتبة الكبرى. وكان رئيس هذا المعهد كله من الناحية الرسمية كاهناً دينياً، كان مخصصاً لإلهات الفن بوصفها معبودات بحق. وكان يعيش في المتحف أربع طوائف من العلماء: فلكيين، وكتاب، وعلماء في الطبيعة، وأطباء. وكان هؤلاء كلهم من اليونان، وكانوا جميعاً يتقاضون مرتبات من الخزانة الملكية. ولم يكن مهمتهم أن يعلموا الطلاب، بل أن يتوفروا على البحوث والدراسات وإجراء التجارب. ولما تضاعف عدد الطلاب في المتحف في العقود التالية، قام أعضاؤه بإلقاء المحاضرات، ولكنه بقي إلى آخر أيامه معهداً للدراسات الراقية أكثر مما كان جامعة للطلاب. ومبلغ علمنا أنه كان أول مؤسسة أقامتها دولة للعمل على تقدم الآداب والعلوم، وكانت أهم ما أفاده تاريخ الحضارة من البطالمة ومن الإسكندرية.
ومات بطليموس فلدلفس عام 246 بعد حكم طويل قام فيه بكثير من جلائل الأعمال. وكان بطليموس الثالث أورجيتيس Euergetes ( المحسن) ملكاً من طراز تحتمس الثالث يبغي فتح بلاد الشرق الأدنى. فبدأ بالاستيلاء على سرديس وبابل، ثم واصل زحفه حتى بلغ بلاد الهند، وزعزع كيان الإمبراطورية السلوقية حتى انهارت حين مستها جيوش رومة. ولسنا نريد أن نتتبع حادثات حروبه، لأنها، وإن كانت في تفاصيلها أشبه الأشياء بالرواية التمثيلية، كانت في أسبابها ونتائجها موحشة لا حد لوحشتها؛ وإن تاريخ الحروب إذا قُص أصبح تابعاً ذليلاً لتقلبات القوة والسلطان تلغي فيها الانتصارات والهزائم بعضها بعضاً فتجعله تاريخاً أجوف لا قيمة له. وحسبنا أن نقول إن برنيس Berenice زوجة أورجيتيس الشابة عبرت عن شكرها لانتصاراته بأن وهبت خصلة من شعرها للآلهة؛ وتغنى الشعراء بهذه القصة، ورفع الفلكيون عقيرتهم بها إلى السماء فسموا إحدى المجموعات النجمية باسم كوما برنيسيز Coma Berenices أي شعر برنيس.
وكان بطليموس الرابع فلوباتر يحب أباه حباً حمله على أن يحذو حذوه في حروبهِ وانتصاراتهِ. ولكنه أحرز النصر على أنتيوخوس الثالث في رافيا (217) باستخدام جيوش مصرية، وكانت هذه أول مرة استخدم فيها البطالمة هؤلاء الجنود؛ فلما أن تسلح المصريون على هذا النحو وشعروا بقوتهم بدءوا يقوضون سلطان اليونان في وادي النيل. وانغمس فلوباتر في اللهو، وقضى كثيراً من الوقت في قارب نزهته، وأدخل عيد البكاناليا في مصر، وكاد يُقنع نفسه بأنه من نسل ديونيشس. وقد حدث في عام 205 أن قتلت عشيقته زوجته، ولم يلبث فلوباتر نفسه أن اختفى هو الآخر من التاريخ. وأعقبت موته فترة من الفوضى أوشك فيها فليب الخامس المقدوني وأنتيوخوس الثالث السلوقي أن يمزقا أوصال مصر ويضماها إلى بلادهما، ولكن رومة التي عقد معها بطليموس الثاني معاهدة صداقة-تدخلت في الأمر وهزمت فليب، وأرغمت أنتيوخوس على أن يعجل بالعودة إلى بلاده وبسطت حمايتها على مصر (205).













مصادر و المراجع :

١- قصة الحضارة

المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)

تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر

ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين

الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس

عام النشر: 1408 هـ - 1988 م

عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید