إن الدرس الذي نستفيده من نظام البطالمة الاشتراكي هو أن الحكومة نفسها قد تستغل الناس. نعم إن هذا النظام قد سار مستقيماً إلى حد معقول في أيام بطليموس الأول والثاني، فقد تمت في عهدهما مشروعات هندسية عظيمة، وتقدمت الزراعة، ونظمت عمليات البيع والشراء، ولم يفرط مفتشوا الحكومة في الظلم والمحاباة؛ ومع أن استغلال الحكومة للمواد والرجال كان استغلالاً كاملاً لا هوادة فيه فإن الجزء الأكبر مما عاد عليها من هذا الاستغلال قد استخدم في تزيين البلاد وفي إمداد الحياة الثقافية بما يلزمها من المال. ولكن البطالمة شنوا الحروب وأنفقوا مقداراً متزايداً من مكاسب الشعب على الجيوش والأساطيل والوقائع الحربية، وتدهورت طباع الملوك تدهوراً سريعاً بعد فلدلفس؛ فقد انهمكوا في ملاذ الأكل والطعام والنساء وتركوا أزمة الحكم في أيدي السفلة الذين ابتزوا كل درهم من الفقراء؛ ولم ينسَ المصريون قط أن هؤلاء المستغلين كانوا من الأجانب، ولم يغب ذلك عن عقول الكهنة الذين كانوا يحلمون بالحياة المترفة التي كانوا يستمتعون يها قبل سيادة الفرس واليونان.
وكان أهم ما يفهمه البطالمة من الاشتراكية أنها نظام للإنتاج الكثير لا للتوزيع الواسع النطاق. فقد كان الفلاح ينال من محصولهِ ما يكفي لحفظ حياته، ولكن لا يكفي لتشجيعه على عملهِ أو إعانته على تربية أسرته. وزاد مقدار ما تنزعه الحكومة منه جيلاً بعد جيل، ولم يعد الناس يُطيقون سيطرت الدولة على كل صغيرة وكبيرة كما لا يُطيق الأبناء متى كبروا الرقابة الدائمة التي يفرضها الأب المستبد عليهم. وكانت الدولة تُقرض الفلاح البذور ليزرع بها أرضه ولكنها كانت تقيده بالبقاء في الأرض حتى يجني المحصول، ولم يكن في وسع أي فلاح أن ينتفع بأي قدر من محصولهِ إلا بعد أن تؤدى ما عليه للدولة من التزامات وديون. ولقد كان هذا الفلاح صبوراً بطبعه. ولكنه رغم طبعه هذا بدأ يتذمر، فلم يكد يستهل القرن الثاني حتى بارت مساحات واسعة من الأرض لعدم وجود من يزرعها، ولم يجد مستأجروا أراضي الملك من يؤجرونها لهم ليزرعوها، فحاولوا أن يقوموا هم أنفسهم بزرعها، ولكنهم عجزوا عن ذلك العمل، فأخذت الصحراء تزحف شيئاً فشيئاً على الحضارة. وكان العبيد يعملون في مناجم الذهب ببلاد النوبة وهم عراة، في سراديب مظلمة ضيقة، وأجسامهم ملتوية، وهم مثقلون بالأغلال، يسوقهم الملاحظون إلى العمل بالسياط، طعامهم حقير لا يكاد يسد الرمق، وقد هلك آلاف منهم من سوء التغذية ومن فرط التعب، وكانت سلواهم الوحيدة في هذه الحياة هي الموت (47). وكان العامل العادي في المصانع يتقاضى أبلة واحدة (9 slash100 من الريال الأمريكي) في اليوم، أما الصانع الماهر فكان يتقاضى أبلتين أو ثلاث أبلات، ويستريح من العمل يوماً في كل عشرة أيام.
وعم الاستياء، وازدادت الشكاوى، وكثر الإضراب: إضراب بين عمال المناجم، والمحاجر، ورجال القوارب، والفلاحين، والصناع، والتجار، ثم تعداهم إلى الملاحظين ورجال الشرطة أنفسهم. ولم يكن الغرض من الإضراب زيادة الأجور، فإن الكادحين قد يئسوا من هذه الزيادة من زمن بعيد، بل كان الدافع إليه هو الإعياء واليأس. وتقول بردية تسجل إضراباً من هذا النوع: "لقد خارت قوانا، وسنفر من العمل" أي أنهم سيعتصمون بأحد الهياكل (48). وكان كل المستغلين تقريباً من اليونان، وكل الكادحين المستَغلين تقريباً من المصريين أو اليهود. وكان الكهنة يُثيرون مشاعر الأهلين خفية باسم الدين، على حين كان اليهود يُعارضون في كل عمل تقوم بهِ الحكومة لتخفيف الضغط عليهم أو على المصريين. ولجأت الحكومة في العاصمة إلى العطايا وأساليب التسلية لترشوا بها الجماهير، ولكنها لم تكن تسمح لهم بدخول الأحياء الملكية، وكانت تسلط عليهم قوة عسكرية كبيرة تراقبهم وتتجسس عليهم، ولم تكن تسمح لهم بنصيب ما في إدارة شؤونهم. وما لبثت هذه الجماهير أن أضحت في آخر الأمر جماعات من الغوغاء عنيفة لا تحس بأية تبعة (49). وثار المصريون في عام 216 ولكن الثورة أخمدت؛ ثم ثاروا مرة أخرى في عام 189 ودامت ثورتهم خمس سنين. وسيطر البطالمة على الموقف وقتاً ما بقوة جيشهم وبزيادة هباتهم للكهنة، ولكن الموقف كان قد تحرج إلى أقصى حدود التحرج، لأن موارد البلاد نضبت عن آخرها، حتى لقد أحس المستغلون أنفسهم أنه لم يبقَ فيها شيء يستغلونه.
وبدأ الانحلال يدب في كل شيء، فانتقل البطالمة من الرذائل الطبيعية إلى الرذائل غير الطبيعية، ومن الذكاء إلى الغباوة، وانطلقوا يتزوجون بلا قيد وبسرعة أفقدتهم احترام الشعب، وانغمسوا في الترف انغماساً أعجزهم عن إدارة دفة الحرب أو الحكم، وأفقدهم آخر الأمر القدرة على التفكير. وضعفت قدرة الأرض على الإنتاج عاماً بعد عام لخروج الناس على القانون، وقلة أمانتهم وعجزهم ويأسهم، ولانعدام المنافسة بينهم، ولضعف الهمم والدوافع التي تبعثها الملكية في النفوس. وذوى غصن الآداب، وقُضي على الفن المبدع الخلاق، فلم تكد تضيف الإسكندرية إليهما شيئاً بعد القرن الثالث؛ وفقد المصريون احترامهم لليونان؛ وفقد اليونان احترامهم لأنفسهم، إذا صح أن الإنسان قد يفقد احترامه لنفسهِ، فنسوا على مر السنين لغتهم، وأخذوا يتكلمون خليطاً فاسداً من اللغتين اليونانية والمصرية؛ وازداد عدد من يتزوجون منهم بأخواتهم زيادة مطردة، كما كان يفعل أهل البلاد، ومن يتزوجون من أسر مصرية، فامتصتهم البلاد واندمجوا في أهلها، وعبد الآلاف منه الآلهة المصرية. وما وافى القرن الثاني حتى لم يعد اليونان هم الشعب المسيطر حتى من الوجهة السياسية؛ ذلك أن البطالمة اعتنقوا دين المصريين واتبعوا طقوسهم ليحافظوا بهذا على سلطانهم، وزادوا لهذا السبب عينه من سلطة الكهنة. ولما انغمس الملوك في الترف والملاذ بدأ الكهنة يستعيدون سلطانهم ويثبتون قواعد زعامتهم، واستعادوا عاماً بعد عام الأراضي والمزايا التي سلبها منهم البطالمة الأولون (50). ويصف حجر رشيد الذي يرجع إلى عام 196 ق. م. الاحتفال بتتويج بطليموس الخامس وصفاً لا يكاد يختلف في شيء عن المراسم المصرية القديمة؛ وفي عهد بطليموس الخامس (203 - 181) وبطليموس السادس (181 - 145) أنهكت المنازعات القائمة بين أفراد الأسرة المالكة قوة البيت المالك، واضمحلت الزراعة والصناعة غاية الاضمحلال، ولم يعد الأمن والسلام إلى ربوع البلاد حتى جاء قيصر فاستولى على مصر من غير عناء، ولم يكن استيلاؤه عليها حادثاً عادياً من حوادث حياته. وفي عام 30 ق. م. جعلها قيصر ولاية رومانية.
مصادر و المراجع :
١- قصة الحضارة
المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)
تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر
ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين
الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس
عام النشر: 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون
تعليقات (0)