في كل ميدان من ميادين الحياة الهلنستية، عدا ميدان التمثيل، نجد ظاهرة بعينها-نجد الحضارة اليونانية تنتشر ولا تنعدم. فقد كانت أثينة تحتضر، وكانت المحلات اليونانية في الغرب، عدا سرقوسة، آخذة في الانهيار والزوال؛ ولكن المدن اليونانية في مصر وفي الشرق كانت في ذروة مجدها المادي والثقافي. وقد كتب بولبيوس، وهو رجل واسع التجارب، غزير العلم بالتاريخ، حصيف الرأي، صادق الحكم، كتب في عام 148 ق. م عن هذه الأيام "التي تتقدم فيها العلوم والفنون بخطى سريعة (1) "؛ وهي نغمة ألفنا سماعها من غيره من الكتاب. وبفضل انتشار اللغة اليونانية واتخاذها لغة عامة وجدت وحدة ثقافية دامت في بلاد البحر الأبيض المتوسط ما يقرب من ألف عام. فكان جميع المتعلمين في الإمبراطوريات الجديدة يتعلمون اللغة اليونانية ويتخذونها وسيلة للصلات الدبلوماسية، ولنشر الآداب والعلوم؛ وكان الكتاب المؤلف باليونانية يفهمه كل متعلم تقريباً من غير أنباء اليونان في مصر والشرق الأدنى. وكان الناس إذا تحدثوا عن العالم المعمور (الأيكوميني Oikoumene) تحدثوا عنه بوصفهِ عالماً ذا حضارة واحدة، قد أصبحت له نظرة عالمية للحياة أقل بعثاً للهمم من النظرة القومية الضيقة المتغطرسة التي كانت تسود دول المدن ولكنها قد تكون أكثر منها مطابقة لمقتضيات العقل.
ولهذه الدائرة الواسعة من القراء كتب آلاف الكتاب مئات الآلاف من الكتب، ولدينا أسماء آلف ومائة مؤلف هلنستي؛ وما من شك في أن من لا يعرف أسماءهم يخطئهم في الحصر؛ ونشأ خط سريع دارج لتسهيل الكتابة، بل إننا لنسمع في واقع الأمر منذ القرن الرابع عن طرق للاختزال يُستطاع بها "التغيير عن بعض الحروف والحركات بشروط مختلفة الأوضاع". وظلت الكتب تُكتب على أوراق البردي المصري حتى حرم بطليموس الرابع تصدير هذه المادة من مصر لعله يمنع بذلك نمو مكتبة برجموم. ورّد يومنيز الثاني على هذا العمل بأن شجع صناعة معالجة جلود الضأن والعجول على نطاق واسع، وكانت هذه الجلود تُستعمل للكتابة في بلاد الشرق من زمن بعيد، وسرعان ما أصبح الرق المصنوع في برجموم والمشتق اسمه الأوربي Parchment من اسمها ينافس الورق بوصفهِ أداة للتخاطب وبقل الآداب.
وبعد أن تضاعف عدد الكتب إلى هذا الحد أصبح إنشاء دور الكتب ضرورة محتومة. كانت هذه الدور قد قامت في مصر وبلاد النهرين قبل ذلك الوقت، غير أنها كانت فيهما من وسائل الترف التي يختص بها الملوك؛ ولكن يبدو أن مكتبة أرسطو كانت أولى مجموعات الكتب الخاصة الكبيرة. وفي وسعنا أن نقدر حجم هذه المكتبة وقيمتها إذا عرفنا أنه دفع ما قيمته 18. 000 ريال أمريكي ثمناً لجزئها الذي اشتراه من اسبيوسبوس خليفة أفلاطون. وأوصى أرسطو بكتبه إلى ثاوفراسطوس، ثم أوصى بها هذا (في عام 287) إلى نيلوس Neleus، ونقلها هذا إلى اسكبسيس Scepsis في آسية الصغرى، حيث دفنت في باطن الأرض، كما تقول بعض الروايات، لتنجو من شره ملوك برجموم العلمي. وبعد أن ظلت هذه الكتب مدفونة على هذا النحو البالغ الضرر، بيعت حوالي عام 100 ق. م. إلى أبلكون Apellison التيوسي of Teos الفيلسوف الأثيني. ووجد أبلكون أن فقرات كثيرة في الكتب قد أتلفتها رطوبة الأرض، فكتب منها نسخاً جديدة، وملأ الثغرات المفقودة بقدر ما هداه إليهِ تفكيره (3)؛ وقد يكون هذا هو السبب في أن أرسطو أكثر الفلاسفة جاذبية في التاريخ القديم. ولما استولى سلا Sylla على أثينة عام 86 أخذ مكتبة أبلكون ونقلها إلى رومة، حيث سجل أندرنكوس Andronicus العالم الرودسي نصوص مؤلفات أرسطو (4). ونشر هذه النصوص المسجلة-وكان لهذه الحادثة في تاريخ التفكير الروماني أثر لا يقل عن أثر يقظة الفلسفة في العصور الوسطى.
وإن قصة هذه المجموعة وتنقلها من مكان إلى مكان ليدلنا على ما يدين به الأدب لملوك البطالمة لإنشائهم مكتب الإسكندرية العظيمة وجعلها جزءاً من متحفها. لقد بدأ هذه المكتبة بطليموس الأول وأتمها بطليموس الثاني، ثم أضاف إليها مكتبة أصغر منها في معبد سرابيس بإحدى ضواحي المدينة. وقد بلغ عدد ما فيها من الملفات قبل نهاية حكم فلدلفس 532. 000 ملف يتكون منها في أكبر الظن مائة ألف كتاب بالمعنى الذي يفهم من هذا اللفظ في هذه الأيام (5). وظل تكبير هذه المجموعة حيناً من الدهر ينافس في قلوب ملوك مصر حبهملتقوية سلطانهم. ومن الشواهد الدالة على ذلك أن بطليموس الثالث أمر أن كل كتاب يصل إلى الإسكندرية يجب أن يودع في المكتبة، وأن تنسخ من صور تُعطى واحدة منها لصاحبه وتجتفظ المكتبة بأصل الكتاب. وطلب هذا الملك صاحب السلطان المطلق إلى أثينة أن تعيره مخطوطات إيسكلس، وسفكليز، ويوربديز، وأودع لديها ما قيمته 90. 000 ريال أمريكي ضماناً لعودتها سالمة، فلما أرسلت إليه احتفظ بأصولها ور إليها نسخاً منها، وأبلغ الأثينيين أن يحتفضوا بالمال جزاء له على عمله (6). وانتشرت رغبة الناس في اقتناء الكتب انتشاراً بلغ من اتساعه أن نشأت طائفة من الناس تخصصت في صبغ المخطوطات الجديدة وإتلافها ليبيعوها لجامعي النسخ الأولى على أنها كتب قديمة (7).
وما لبثت الكتبة أن زادت على المتحف في أهميتها وتعلق الناس بها، وأصبح منصب أمين المكتبة أكبر المناصب مرتباً عند الملك، وصار من اختصاصاته أن يكون المعلم الخاص لولى العهد. وقد بقيت لنا أسماء هؤلاء الأمناء وإن اختلفت بعضها عن بعض في المخطوطات المختلفة. ويذكر أحدث ثبت لها أسماء الستة الأمناء الأولين وهم: زنودوتس، وأبلونيوس الرودسي، وأرستثنيز القوريني، وأبلونيوس الإسكندري، وأرسطوفان البيزنطي، وأرستارخوس السمثراسي؛ وإن اختلاف أصولهم ليوحي مرة أخرى بوحدة الثقافة الهلنية. ولا يكاد يقل عن هذه الأسماء أهمية كلمخوس الشاعر والعالم الذي صنف هذه المجموعة ونظمها في فهرس عام بلغ عدد ملفاته مائة وعشرين ملفاً. وإنا لتطوف بخيالنا صورة طائفة كبيرة من النساخين، نظن أنهم من العبيد، ينسخون صوراً ثانية من أصول الكتب القيمة، ومعهم عدد ل يحصى من العلماء يقسمون هذه الكتب مجموعات. وكان بعض هؤلاء الرجال يكتبون تواريخ مختلف الآداب والعلوم، وبعضهم يخرجون للناس "طبعات" من الروائع القيمة، ومنهم من كانوا يكتبون تعليقات وشروحاً للنصوص ليستنير بها غير الأخصائيين وقراء الأجيال التالية. وقد أحدث أرسطوفان Aristophanes البيزنطي انقلاباً عظيماً في الأدب بفصل الجمل المستقلة والتبعية في المخطوطات القديمة بعضها عن بعض بالحروف الكبيرة ( Capitals) ، وبعلامات الترقيم، وكان هو الذي اخترع النبرات التي تضايقنا أشد المضايقة في قراءة الكتابات اليونانية. وقد بدأ زنودوتس تهذيب الألياذة والأوذيسة، وواصل أرسطوفان عمله، وأتمه أرستارخورس، وكانت نتيجة عملهم هو النص الحالي لهاتين الملحمتين، وهم الذين شرحوا ما غمض فيها شرحاً يدل على غزارة الاطلاع. ولم ينقضِ القرن الثالث حتى أضحت الإسكندرية بفضل متحفها ومكتبتها وعلمائها العاصمة الذهنية للعالم اليوناني في كل فرع من فروع العلم والأدب عدا الفلسفة.
وما من شك في أن مدناً هلنستية أخرى كانت بها دور كتب، يدل على ذلك أن علماء الآثار النمساويين قد كشفوا عن بقايا مكتبة جميلة الشكل تابعة لبلدية إفسوس، ونسمع أن مكتبة عظيمة قد احترقت حين خرب سبيو Scipio مدينة قرطاجة. ولكن المكتبة الوحيدة التي يمكن موازنتها بمكتبة الإسكندرية هي مكتبة برجموم. ذلك أن ملوك هذه الدولة القصير الأجل كانوا يحسدون حسد المستنيرين ملوك البطالمة على جهودهم الثقافية، وقام يومنيز الثاني بإنشاء مكتبة برجموم، واستقدم لأبهائها طائفة من أعظم علماء اليونان. وأخذت مجموعة الكتب التي بها تنمو نمواً سريعاً، حتى بلغ عددها، حين أهداها أنطونيوس لكليوبطرة ليعوض بها ذلك الجزء من مكتبة الإسكندرية الذي احترق أثناء الثورة على قيصر عام 48 ق. م.، مائتي ألف ملف. وبفضل هذه المكتبة، وما كان لملوك برجموم من ذوق أتيكي حسن أضحت هذه المدينة في أواخر العصر الهلنستي مركزاً لأنقى مدرسة من مدارس النثر اليوناني، وهي مدرسة لم تكن ترى أن لفظاً ما يونانياً نقياً إلا إذا كان قد ورد في كتابات العصر القديم. ونحن مدينون إلى حماسة هؤلاء الأدباء بما بقي من روائع النثر الأتيكي.
ولقد كان هذا العصر أولاً وقبل كل شيء عصر النابهين والعلماء، عصراً أصبحت الكتابة فيهِ مهنة لا هواية، ونشأت فيهِ جماعات وحلقات يتناسب تقدير بعضها مواهب البعض الآخر تناسباً عكسياً مع مربع المسافة بينها. وبدأ الشعراء يكتبون للشعراء، وأضحت كتاباتهم لذلك متكلفة مصطنعة، وأخذ العلماء يكتبون للعلماء، فكانت كتاباتهم خالية من البهجة والروعة، وشعر المفكرون أن إلهام اليونان المبدع كاد ينضب معينه، وأن أبقى خدمة يستطيعون أدائها هي أن يجمعوا، ويحفظوا، ويدونوا، ويشرحوا الأعمال الأدبية التي أنشأها عصر أسمى وأعظم جرأة من عصرهم. لذلك أوجدوا طرق نقد النصوص والآداب بجميع أشكالهِ تقريباً، وحاولوا ان يستخرجوا خلاصة المخطوطات الكثيرة التي كانت بين أيديهم، وأن يرشدوا الناس إلى ما يجب أن يقرؤوه منها. فوضعوا قوائم "بأحسن الكتب" و "شعراء البطولة الأربعة" و "التسعة المؤرخين" و "العشرة الشعراء الغنائيين" و "العشرة الخطباء" وما إلى هذا (9). وألفوا سيراً لكبار الكتاب والعلماء، وجمعوا وأنجوا من الدمار المعلومات المشتتة التي لا نعرف الآن غيرها عن هؤلاء الرجال. وكتبوا خلاصات في التاريخ والآداب، والتمثيل، والعلم، والفلسفة (10)؛ وقد ساعدت هذه الخلاصات التي كانت أشبه "بالطرق المختصرة للمعرفة" على حفظ المؤلفات الأصلية التي لخصتها، وإن كان بعضها قد حل محلها وقضى بغير علم واضعيها على هذه المؤلفات. وأقضَ مضاجع العلماء الهلنستيين تدهور اللغة اليونانية الأتكية الفصحى وحلول الرطانة اليونانية الشرقية المنتشرة في ذلك الوقت محلها، فأخذوا يضعون المعاجم وكتب النحو؛ وأصدرت مكتبة الإسكندرية، كما يفعل المجمع العلمي الفرنسي في هذه الأيام، وقرارات تبين الاستعمال الصحيح للألفاظ والعبارات اليونانية القديمة. ولولا جد هؤلاء العلماء وصبرهم لقضت الحروب، والثورات، والكوارث التي توالت على هذا الجزء من العالم مدى ألفي عام، على هذه "الشذرات الثمينة" التي انتقلت إلينا من حطام التراث اليوناني القديم.
مصادر و المراجع :
١- قصة الحضارة
المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)
تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر
ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين
الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس
عام النشر: 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون
تعليقات (0)