المنشورات

بولبيوس

إذا كان العصر الهلنستي لم يلهم إلا شاعراً واحداً، فإنه قد أخرج مقداراً من النثر مختلف الأنواع لم يخرج مثله عصر آخر قبله. ففيه ابتدع التحدث الخيالي وابتدعت المقالة، ودائرة المعارف. وواصل فيه الكتاب إخراج التراجم القصيرة الواضحة، وأضاف الأدب اليوناني في العهد الروماني الذي تلا هذا العهد الذي نتحدث عنه الموعظة والرواية القصصية. أما الخطابة فكانت في دور الاحتضار أنها كانت تعتمد على النزاع السياسي، والتقاضي أمام المحاكم الشعبية، وعلى حق الناس الديمقراطي في أن يتكلموا. وأصبحت الرسالة الأداة المحبوبة لنقل الأفكار سواء في التخاطب أو في الأدب. ففي هذا العصر تقررت صور الرسائل وعباراتها التي نجدها في أقوال شيشرون، بل تقررت أيضاً الديباجة الشهيرة التي كان يستمسك بها أجدادنا ويجلونها: "أرجو أن يصلك هذا وأنت بخير كما تركتني" (28).
وازدهرت كتابة التاريخ، فقد كتب بطليموس الأول، وأراتوس الآخي، وبيرس الأبيروسي مذكرات عن حروبهم، فوضعوا بذلك تقليداً بلغ غايته في قيصر. وكتب مانيثون الكاهن المصري الأكبر باللغة اليونانية حوليات مصر Aigyptaka التي جمعت الفراعنة بطريقة تعسفية إلى حد ما في أسر مالكة لا تزال هي التقسيم المتبع حتى اليوم. وأهدى بروسس كبير الكهنة الكلدان إلى أنتيوخوس الأول تاريخاً لبابل معتمداً على السجلات المسمارية. وأدهش مجسثنيز Megasthenes سفير سلوقس الأول لدى شندراجوبتا ماريا Shandragupta Mourya العالم اليوناني بكتاب عن الهند أخرجه حوالي عام 300. وجاء في فقرة موحية من هذا الكتاب: "إن بين البراهمة طائفة من الفلاسفة ... 

تعتقد أن الله هو الكلمة، وهم لا يقصدون بها الكلام المنطوق بل يقصدون حديث العقل" (29). وهنا أيضاً نجد عقيدة الكلمة التي قُدر لها أن تكون ذات أثر عميق في الدين المسيحي. وقام تيماوس الترومنيومي Timoeus of Tauromenium بعد أن نفاه أجثكليز Agathocles من صقلية (317) برحلات واسعة في أسبانيا وغالة، ثم ألقى عصا التسيار في أثينة وكتب فيها كتاباً عن صقلية وعن الغرب. وكان طالباً مجداً، بلغ من حرصه على أن يدون في كتابه هذا كل شيء أن لقبه بعض منافسيه "جامع الأسمال العجوز" (30). وقد بذل غاية جهده في أن يصل إلى تواريخ صحيحة للحوادث التي رواها، حتى عثر على طريقة تأريخ هذه الحوادث بدورات الألعاب الأولمبية. وكان شديد النقد لمن سبقع من المؤرخين، وكان من حسن حظه أن مات قبل أن يشهد هجوم بولبيوس الوحشي على كتابهِ (31).
وأعظم المؤرخين في العصر الهلنستي واليوناني، والمؤرخ الوحيد الخليق بأن يوضع إلى جانب هيرودوت وتوكيديدس، هو بولبيوس. وكان مولده في أركاديا عام 208. وكان والده ليكورتاس Lycortas أحد زعماء العصبة الآخية، فقد اختير في مهمة سياسية في رومة عام 189، وعين استرتيموس في عام 184. ونشأ ابنه في الجو السياسي، ودُرب للجندية بإشراف فيلوبيمين، واشترك في حروب الرومان ضد الغاليين في آسية الصغرى، وسافر مع والده في بعثة سياسية إلى مصر (280)، واختير ليكون قائد فرسان العصبة الآخية (هباركوس Hipparchos) في عام 169 (32). ولكن تفوقه هذا قد جر عليه كثيراً من المتاعب: ذلك أنه حين أراد الرومان أن يعاقبوا العصبة الآخية لتأييدها برسوس ضدهم أخذوا ألفاً من زعماء الآخيين رهائن إلى رومة، وكان منهم بولبيوس (167). وظل في المنفى ستة عشر عاماً يعاني فيها آلام النفي، ومنها كما يقول هو نفسه "ضياع الروح المعنوية والشلل العقلي الذي بلغ أقصى حد" (33). ولكن سبيو الأصغر بذل له مودته، وضمه إلى الدائرة السبيونية التي كانت تشمل الرومان المتعلمين، وأقنع مجلس الشيوخ حين كان يشتت غيره من المنفيين في أنحاء إيطاليا، أن يسمح بأن يعيش بولبيوس معه في رومة. ورافق سبيو في كثير من الوقائع الحربية، وأسدى إليه نصائح عسكرية قيمة، وارتاد له سواحل أسبانيا وأفريقية، ووقف إلى جانبه حين أحرق رومة (146). وكان قبل ذلك قد نال حريته في عام 151، واختير في عام 149 ليمثل رومة في تنظيم الوفاق الذي تم بين المدن اليونانية وبين مجلس الشيوخ الروماني، سيدها البعيد عنها. وما من شك في أنه قد قام بهذا الواجب البغيض على خير وجه، لأن كثيراً من المدن كرمته بإقامة أنصاب تذكارية له، وإن لم يكن في وسع الإنسان أن يعرف متى يشعر الناس بفضل أحد عليهم. وبعد أن عاش بولبيوس ستين عاماً في جد متواصل اعتزل هذا النوع من العمل ليكتب كتبه الثلاثة: رسالة في الفنون العسكرية، وحياة فيلوبيمين، وكتاب التواريخ الضخم. ومات كما يموت السادة الأشراف، فقد سقط عن ظهر جواده وهو عائد من رحلة صيد، بعد أن بلغ الثانية والثمانين من العمر.
ولسنا نعرف قط رجلاً كتب التاريخ مستنداً إلى أوسع مما استند إليه بولبيوس من علم، وأسفار، وتجارب. وكانت الخطة التي وضعها لكتابه خطة واسعة النطاق، فلم يكن يقصد أن يكتب تاريخ بلاد اليونان فحسب، بل كان يبغي كتابة تاريخ "العالم كله" (أي أمم البحر الأبيض المتوسط) من عام 221 إلى 146 ق. م. "تلك هي الخطة التي وضعتها، ولكن كل شيء يتوقف على ما تحبوني به الأقدار من حياة تطول حتى أخرجها إلى حيز الوجود" (34). وكان يشعر بحق أن رومة هي مركز دائرة التاريخ السياسي في الفترة التي يريد أن يؤرخها، ولهذا أسبغ على كتابه وحدة جامعة إذ جعل رومة محور حوادثه، ودرس بتشوف الرجل الدبلوماسي الوسائل التي استخدمتها رومة، والتي تدعي كما يدعي البريطانيون أن الظروف هي التي ساقتها لها على غير قصد منها، للسيطرة على عالم البحر الأبيض المتوسط (35). وكان شديد الإعجاب بالرومان، لأنه شاهدهم في عصر مجدهم، ولأن أكثر من عرفهم منهم هم خيرهم في جماعة سبيو. وكان يشعر أنهم يتصفون بتلك الصفات التي لا توجد في الخُلُق ولا في الحكم اليوناني، والتي كان عدم وجودها في اليونان سبباً في القضاء عليهم. وإذ كان هو من أبناء الأشراف وكان صديقاً للأشراف، فإنه لم يعطف قط على المراحل المتأخرة من الديمقراطية اليونانية التي لم تكن في رأيه غير حكم الغوغاء. وكان التاريخ السياسي يبدو له دورة متكررة من الملكية المطلقة (أو الدكتاتورية)، والأرستقراطية، والألجركية، والديمقراطية، ثم الملكية المطلقة مرة أخرى. وكانت خير طريقة في رأيه للنجاة من هذه الدورة هي طريق "الدستور المختلط" الشبيهة بدستور ليقورغ أو دستور رومة-وهو الذي يقضي بوجود مواطنين يستمتعون بحقوق سياسية ولكنها حقوق محدودة، ويختارون كبار الموظفين، ولكن سلطانهم يحدده سلطان مجلس الشيوخ الأرستقراطي الدائم (36). وكانت هذه النظرة هي التي اهتدى بها في كتابه تاريخ عصره.
وبولبيوس هو "مؤرخ المؤرخين" لأنه يهتم بطريقته كما يهتم بموضوعه. وهو يميل إلى التحدث عن الخطة التي يسير عليها، ويعمد إلى التفلسف في كل فرصة تتاح له. وهو يصور مؤهلاته على أنها خير المؤهلات ومثلها الأعلى، ويصر على أن التاريخ ينبغي أن يكتبه أولئك الذين رأوا بأعينهم-أو استشاروا غيرهم ممن رأوا بأعينهم-ما يصفونه من الحوادث. يندد بتيماوس لأنه اعتمد على أذنيه بدل اعتماده على عينه، ويتحدث بفخر وإعجاب عن أسفاره في البحث عن المعلومات، والوثائق، والحقائق الجغرافية، ويذكر لنا كيف اخترق جبال الألب وهو عائد من أسبانيا إلى إيطاليا من نفس الممر الذي اخترقه هنيبال في بروتيوم (37). ويقول إنه يعتزم أن يجعل تاريخه دقيقاً بقدر ما تسمح به "ضخامة عمله، والطريقة الشاملة التي عالجه بها" (38). وهو في تاريخه رجل عقلي النزعة واقعيها، ينفذ فكره في ألفاظ الدبلوماسيين الأخلاقية ليعرف ما تهدف إليه خططهم من اعتراضات حقيقية، ويسره أن يدرك كيف يخدع الناس بسهولة أفراداً كانوا أو جماعات، ويُخدعون أكثر من مرة، بنفس الحيل والأساليب التي خُدعوا بها من قبل (40). ويقول في عبارة شائقة استبق بها مبادئ مكيفلي: "قلما يتفق العمل الخير مع العمل النافع، وما أقل من يستطيعون الجمع بين العملين والتوفيق بينهما" (41). وهو يقبل عقيدة الرواقيين الدينية التي تقول بوجود قوة إلهية مدبرة ولكنه يعطف مجرد عطف على الطقوس الدينية السائدة في عصره، ويسخر ضاحكاً من عقيدة تدخل القوى غير الطبيعية في شؤون العالم (42). ويعترف بما للمصادفات من شأن في التاريخ، وما لعظماء الرجال من أثر فعال في بعض الأحيان، ولكنه لا يتردد في أن يكشف عن تسلسل العلل والمعلولات تسلسلاً حقيقياً خارجاً في كثير من الأحيان عن إرادة الآدميين، وبذلك يكون التاريخ مصباحاً مضيئاً للعقول في الحاضر والماضي (44). "ليس شيء أسرع تصحيحاً لسلوك الناس من معرفة الماضي" و "خير تعليم وإعداد للحياة السياسية النشيطة هو دراسة التاريخ" (45)؛ "والتاريخ، والتاريخ وحده، هو الذي ينضج عقولنا، ويهيئنا للنظر إلى الأشياء نظرة صحيحة مهما تكن الأزمات أو سير الحوادث" (46). وهو يرى أن خير طريقة لفهم التاريخ هي أن ينظر إلى حياة الأمة على أنها وحدة عضوية، ثم تضم قصة كل جزء من أجزائها إلى تاريخ حياة الأمة بأجمعه. والذي يعتقد أنه إذا درس التواريخ منفصلة بعضها عن بعض يستطيع أن ينظر نظرة صحيحة إلى التاريخ بأجمعه ليشبه في رأيي ذلك الرجل الذي نظر إلى أطراف حيوان كان من قبل حياً وجميلاً، ثم يتصور أنه كمن شاهد بعينه الحيوان نفسه في جميع حركاته وأدرك ما فيها من رشاقة وجمال (47).
وقد أبقى الدهر على خمسة من الكتب التي قسم إليها بولبيوس تواريخه، وأنجى المختصرون قطعاً متفرقة قيمة من الكتب الباقية. ومما يؤسف له أشد الأسف أن أخرج هذه الفكرة العظيمة إلى حيز الوجود قد أفسدته لغة ذلك الوقت اليونانية الفاسدة، ونقده المر لغيره من المؤرخين، واقتصاره تقريباً على شؤون الحرب والسياسة، وتقسيمه قصته تقسيماً سخيفاً إلى دورات أولمبية، وكتابة تاريخ جميع أمم البحر الأبيض المتوسط في كل دورة مقدارها أربع سنوات، وما أدى إليه ذلك من استطرادات مملة ومن انعدام التسلسل إلى حد يحير القارئ ويضله. ويسمو بولبيوس في قصته أحياناً إلى البلاغة المسرحية، ولكنه يتجنب بشدة الأسلوب الخطابي المزخرف الذي كان شائعاً بين من سبقوه مباشرة من الكتاب، حتى أنه ليفخر بثقل أسلوبه وخلوه من البهجة (48). وفي ذلك يقول أحد النقاد الأقدمين. "لا أعرف قط رجلاً قرأ كتابه من أوله إلى آخره" (49). ولقد كاد العالم أن ينساه، ولكن المؤرخين سيظلون دهراً طويلاً يدرسون كتابه لأنه كان من أعظم أصحاب النظريات في كتابة التاريخ وأعظم من طبقوها في كتاباتهم، ولأنه جرؤ على أن يكون واسع الأفق في كتابته، وأن يكتب "تاريخاً عاماً"؛ ولأنه فوق هذا وذاك أدرك أن الحقائق وحدها لا قيمة لها إلا مع شرحها وتفسيرها، وأن الماضي لا قيمة له إلا من حيث هو جذورنا المتأصلة والضوء ينير لنا حاضرنا ومستقبلنا.












مصادر و المراجع :

١- قصة الحضارة

المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)

تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر

ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين

الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس

عام النشر: 1408 هـ - 1988 م

عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید