تدين علوم اليونان الرياضية بازدهارها والقوة الدافعة لها إلى مصر، ويدين الفلك اليوناني بازدهاره وقوته الدافعة إلى بابل. ذلك أن استيلاء الإسكندر على بلاد الشرق قد أدى إلى تبادل الأفكار وإلى اتساع ذلك التبادل الذي أعان منذ ثلاثة قرون قبل ذلك الوقت على ميلاد العلم اليوناني في أيونيا. وفي وسعنا أن نعزو إلى هذا الاتصال الجديد بمصر والشرق الأدنى ما نراه من تناقض. فقد بلغ العلم اليوناني ذروته في العصر الهلنستي، حين كان الأدب اليوناني والفن اليوناني آخذين في الاضمحلال.
ولمع اسم أرتساخوس الساموسي في الفترة الواقعة بين العهدين اللذين سيطرت فيهما على علم الفلك النظرية القائل بأن الأرض مركز الكون. وكان هذا العالم شديد التحمس لدراسة الفلك فلم يترك فرعاً منه إلا بحثه، ونبغ في هذه الفروع جميعاً (22). ولسنا نجد في رسالته الوحيدة التي بقيت لنا حتى الآن والمسماة "في حجم الشمس والقمر وبعديهما (1) " أية إشارة إلى أن الشمس مركز العالم، بل إن هذه الرسالة تفترض عكس هذا، تفترض أن الشمس والقمر يتحركان في دائرتين حول الأرض. ولكن كتاب أركميديز "حاسب الرمل"يعزو صراحة إلى أرستاخوس "الفرض القائل إن النجوم الثوابت والشمس تظل ثابتة لا تتحرك، وإن الأرض تدور حول الشمس في محيط دائرة، وإن الشمس في وسط هذا المدار (23) "، ويقول فلوطرخس إن كلينثيز الرواقي كان يعتقد أن أرستاخوس يجب أن يتهم "بتحريكه مسكن الكون" (أي الأرض (25". وأيد سلوقس السلوقي Seleucus of Selucia الرأي القائل بأن الشمس مركز العالم، ولكن رأي العلماء في العالم اليوناني قرر عكس هذا، ويبدو أن أرستاخوس نفسه قد نزل عن هذا الافتراض حين عجز عن التوفيق بينه وبين حركات الأجرام السماوية التي كانوا يظنونها دائرية؛ ذلك أن علماء الفلك على بكرة أبيهم كانوا يرون أن من القضايا المسلم بها قطعاً أن هذه الأفلاك دائرية. ولعل كراهية السم هي التي دفعت أرستاخوس إلى أن يكون جليلو العالم القديم وكوبرنيقه.
وكان من سوء حظ العلم الهلنستي أن أعظم الفلكيين اليونان هاجم النظرية القائلة إن الشمس مركز العالم بحجج كانت تبدو للناس أجمعين قبل كوبرنيق أنها حجج لا يمكن دحضها أبداً. وكان هبارخوس النيقي of Nicaea ( في بيثينيا) عالماً من الطراز الأول، رغم ما وقع فيه من خطأ كان له شأن عظيم في عصره؛ فقد كان عظيم الشغف بالمعرفة، طويل الصبر على البحث، دقيقاً شديد العناية بالملاحظة ونقل ما يلاحظ إلى غيره، حتى لقد أطلق عليه الأقدمون لقب "حبيب الحقيقة (26) ". وقد مس وازن كل فرع من فروع الفلك تقريباً، وظلت النتائج التي وصل إليها فيه ثابتة سبعة عشر قرناً كاملة. غير أننا لم يبقَ لنا من مؤلفاته الكثيرة إلا كتاب واحد- وهو شرح لكتاب الفينومينا Phainomena ( الظواهر الطبيعية) ليودكسوس، وأراتوس الصولي؛ ولكننا بعرفه من كتاب المجسطي تأليف كلوديوس بطليموس Claudius Ptolemy (140 م. تقريباً)، لأن هذا الكتاب يعتمد على بحوثه وتقديراته. ومن أجل هذا كان من الواجب أن يسمى "فلك بطليموس" "فلك هبارخوس". وأكبر الظن أنه هو الذي حسن الاسطرلابات وآلات قياس الزوايا وهي أهم الآلات الفلكية في زمانه؛ ولعله قد استعان على هذا التحسين بنماذج الآلات البابلية؛ واخترع طريقة تعيين الأماكن على سطح الأرض بخطوط الطول والعرض، وحاول أن ينظم الفلكيين في بلاد البحر الأبيض المتوسط ليقوموا بأعمال الرصد والقياس التي يستطيعون بها تحديد مواضع البلاد الهامة بهذه الطريقة. لكن الاضطرابات السياسية حالت دون تنفيذ هذه الخطة حتى استتب النظام في عصر بطليموس. واستطاع هبارخوس بفضل دراسته الرياضية للعلاقات الفلكية أن يضع جداول جيوب الزوايا، وأن يبتكر بذلك حساب المثلثات. ومما لا ريب فيه أنه استعان بالسجلات المسمارية التي جيء بها من بابل فحدد أطوال السنين الشمسية، والقمرية، والنجمية، تحديداً لا يكاد يختلف عن أطوالها الصحيحة؛ فقد قدر السنة الشمسية بثلاثمائة وخمسة وستين يوماً وربع يوم إلا أربع دقائق و48 ثانية- وهو يختلف عن تقدير هذه الأيام بست دقائق لا أكثر. وكان تقديره للشهر القمري الوسطى 29 يوماً، 12 ساعة، 44 دقيقة، 1 slash22 ثانية. وهو يختلف عن التقدير المعترف به اليوم بأقل من ثانية (27). وحسب أزمنة اقتران الكواكب، وميل مدار القمر عن فلك الأرض، وحدد أكبر بعد بين الشمس والأرض، واختلاف موقع القمر بالنسبة للنجوم باختلاف موضع الراصد على سطح الأرض (28)، وقدر بعد القمر عن الأرض بمائتي ألف وخمسين ألف ميل فلم يخطئ إلا في خمسة في المائة.
واستنتج هبارخوس بالاعتماد على هذه المعلومات كلها أن القول بأن الأرض مركز العالم يفسر هذه الحقائق كلها أحسن مما يفسرها فرض أرستارخوس. ذلك أن النظرية القائلة بأن الشمس مركز العالم لا يمكن أن تثبت على التحليل الرياضي إلا إذا افترضنا أن مدار الأرض قطع ناقص، وهو فرض لا يوائم التفكير اليوناني، حتى ليبدو أن أرستارخوس نفسه لم يعنَ ببحثهِ. وأوشك هبارخوس أن يمسه في نظريته عن "الانحرافات" التي فسر بها ما يبدو من شذوذ في سرعة مسير الشمس والقمر في فلكيهما حين قال إن مركزي فلكي الشمس والقمر مائلان قليلاً على أحد جانبي الأرض. وأوشك هبارخوس أن يكون أعظم أصحاب النظريات الفلكية وأعظم الراصدين بين علماء الفلك الأقدمين على بكرة أبيهم.
وبينما كان هبارخوس يرقب السماء ليلة بعد ليلة إذ دهش ذات مساء لظهور نجم في مكان لا ريب عنده في أنه لم يرقب فيه نجماً من قبل. ولكي يثبت ما سوف يحدث من اختلاف في مواضع النجوم في مستقبل الأيام صنع حوالي عام 129 ق. م. فهرساً، وخريطة، وكرة حدد فيها مواضع 1080 من النجوم الثوابت بالنسبة لخطوط الطول والعرض السماوية. وقد أفاد دارسو السماء من عملهِ ذها أعظم فائدة. ووازن هبارخوس خريطته بخريطة تموكارس التي صنعها قبل خريطته بمائة وست وستين سنة فتبين أن النجوم قد غيرت مكانها الظاهري نحو درجتين في هذه الفترة الزمنية. وعلى هذا الأساس كشف هبارخوس أدق كشوفه كلها (1). وهو تقدم الاعتدالين- ويعني به تقدم اللحظة التي تقع فيها نقطتا الاعتدالين على خط الزوال (2). وقدر هذا التقدم بست وثلاثين ثانية كل سنة؛ والتقدير المأخوذ به الآن خمسون ثانية.
ولقد كان بين أرستارخوس وهبارخوس في الترتيب الزمني عالم آخر واسع الاطلاع، في فروع من العلم متعددة، ويمتاز بغزارة علمه في عدد كبير من الميادين، وكان ثاني المتفوقين فيها جميعاً، ومن أجل ذلك لقب بنتاثلوس وبيتا Pentathlos and Beta. وتقول الرواية المأثورة إن ارتسثنيز تلقى العلم على معلمين أفذاذ: زينون الرواقي، وأرسلوس المتشكك، وكلمخوس الشاعر، وليسنياس النحوي. وقبل أن يبلغ الأربعين من عمره ذاعت شهرته في كثير من فروع العلم المختلفة حتى جعله بطليموس الثالث أمين مكتبة الإسكندرية. وكتب ديوان شعر وتاريخاً للمسلاة، وحاول في كتاب الكرونوغرافيا Chronography أن يحدد أوقات الحادثات الكبرى في تاريخ بلاد البحر الأبيض المتوسط. وقد كتب أيضاً رسائل في الرياضيات واخترع طريقة آلية لإيجاد نسب وسطى متناسبة تناسباً مطرداً بين خطين مستقيمين. وقاس ميل مستوى الفلك وحدد هذا الميل ب51 23ْ فلم يخطئ إلا في نصف في المائة. لكن أعظم أعماله هو تقديره طول محيط الأرض ب24. 662 ميلاً (30)، ونحن نقدره الآن ب24. 847. فقد لاحظ في ظهر يوم الانقلاب الصيفي أن الشمس عند مدينة سييني (1) تسطع عمودية على سطح جدار ضيق، ثم عرف أن ظل مسلة في الإسكندرية التي تبعد عن سييني إلى الشمال بنحو خمسمائة ميل يدل على أن الشمس تميل عن سمت الرأس بنحو 12 7ْ إذا قيست وقت الزوال على خط الطول الذي يصل بين البلدين، فاستنتج من هذا أن القوس الذي يبلغ 12 7ْ على محيط الأرض يساوي خمسمائة ميل، وأن محيط الأرض بهذه النسبة =360 ÷ 7. 5 × 500 أو 24. 000 ميل.
وبعد أن قاس إرتسثنيز الأرض انتقل إلى وصفها فجمع في كتابهِ الجغرافيكا Geographica تقريرات جميع علماء المساحة في الإسكندرية، والرحالة البريين أمثال Megasthenes والبحريين أمثال نيارخوس، والرواد أمثال بيثياس المساليائي Pythias of Massalia، الذي طاف حول اسكتلندة في عام 320، ووصل إلى النرويج ولعله وصل أيضاً إلى الدائرة القطبية الشمالية (31). ولم يكتفِ أرتسثنيز بوصف تضاريس كل إقليم ومظاهره الطبيعية، بل حاول أيضاً أن يفسرها بفعل المياه الجارية، والنيران والزلازل والثورات البركانية (32). وطلب إلى اليونان أن يتخلوا عن تقسيمهم الضيق لبني الإنسان إلى هلنيين وبرابرة، وأعلن أن الناس يجب أن يقسموا أفراداً لا أقواماً؛ وقال إنه يرى أن كثيرين من اليونان سفلة أنذال، وأن كثيرين من الفرس والهنود قوم ظرفاء؛ وأن الرومان قد أظهروا أنهم أكثر استعداداً من اليونان للنظام الاجتماعي والحكم الصالح القدير (33). ولم يكن يعرف إلا القليل عن شمالي أوربا وآسية، وكان علمه بالهند الممتدة جنوب نهر الكنج أقل من هذا القليل. أما شمال أفريقية فلم يكن يعرف عنه شيئاً على الإطلاق. ولكنه كان على ما وصل إليه علمنا أول عالم جغرافي ذكر الصينيين في كتبهِ. وقد ورد في فقرة أخرى من هذه الكتب عظيمة الدلالة: "لو أن اتساع المحيط الأطلنطي لم يقم عقبة في سبيلنا لكان من السهل علينا أن ننتقل بطريق البحر من إيبيريا Iberia ( أسبانيا) إلى الهند متتبعين دائرة واحدة من دوائر العرض (34) ".
مصادر و المراجع :
١- قصة الحضارة
المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)
تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر
ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين
الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس
عام النشر: 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون
تعليقات (0)