يقول بولبيوس متسائلاً: "منذا الذي تبلغ به الحقارة أو البلادة حداً لا يريد معه أن يعرف بأية وسائل وفي ظل أي نظام سياسي أفلح الرومان في أن يخضعوا إلى سلطانهم في أقل من خمسين عاماً جميع العالم المعمور- وهو عمل فذ لا نظير له في التاريخ؟ ومنذا الذي أولع بغير هذه الدراسات ولعاً يحمله على أن يرى أن أية دراسة أخرى أجل شأناً من هذه الدراسة (1)؟ ". ذلك سؤال لا نراه مخطئاً في إلقائهِ، وقد يشغلنا نحن فيما بعد، ولكن الفتوح قد توالت وكثرت مذ كتب بولبيوس تاريخه إلى درجة لا نستطيع معها أن نصرف كثيراً من الوقت في دراسة شيء منها. ولقد حاولنا في الفصول السابقة أن نظهر أن السبب الرئيسي الذي يسر للرومان فتح بلاد اليونان هو انحلال الحضارة اليونانية من الداخل؛ ذلك أنه ما من أمة عظيمة قد غلبت على أمرها إلا بعد أن دمرت هي نفسها. وقد دمرت بلاد اليونان نفسها بتقطيع غاباتها، وإتلاف تربتها، واستنفاد ما في باطن أرضها من معادن ثمينة، وبتحول طرق التجارة عنها، واضطراب الحياة الاقتصادية نتيجة لاختلال النظام السياسي، وفساد الديمقراطية وانحلال الأسر الحاكمة، وفساد الأخلاق، وانعدام الروح الوطنية، ونقص السكان وتدهور قوتهم الجسمية، واستبدال الجنود المرتزقة بالجيوش الوطنية، وما أدت إليه الحروب الأهلية من تطاحن بين الإخوة وإتلاف لموارد البلاد، والقضاء على الكفايات بالفتن المتضادة الصماء- كل هذه قد استنفدت موارد هلاس في الوقت الذي كانت فيه الدولة الصغيرة القائمة على ضفة نهر التيبر، والتي كانت تحكمها أرستقراطية صارمة بعيدة النظر، تدرب جحافلها القوية المجندة من طبقة الملاك، وتتغلب على جيرانها ومنافسيها، وتستولي على ما في البحر الأبيض المتوسط من طعام ومعادن، وتزحف عاماً فعاماً على المستعمرات اليوناني في جنوبي إيطاليا. لقد كانت هذه المحلات القديمة في سابق عهدها تزهو بثرائها، وحكمائها، وفنونها، ولكنها الآن قد أفقرتها الحروب وغارات ديونيشيوس وسلبه ونهبه، ونشأة رومة وتقدمها ومنافستها لهذه المستعمرات في مركزها التجاري. يضاف إلى هذا أن القبائل الأصلية التي كان اليونان قد استعبدوا أفرادها أو طردوهم إلى ما وراء حدودها، قد ازدادت وتضاعفت، في الوقت الذي كان سادتها ينشدون النعيم والراحة بقتل أطفالهم وإسقاط الحاملات من نسائهم؛ وما لبث السكان الأصليين أن أخذوا ينازعون المستعمرين السيطرة على جنوبي إيطاليا، واستغاثت المدن الإيطالية برومة فأغاثتها والتهمتها.
وخشيت تاراس بأس رومة النامية فاستعانت بملك إبيروس الشاب الجريء؛ وكانت الثقافة اليونانية قد امتدت إلى هذه البلاد الجبلية الجميلة المعروفة إلينا باسم ألبانيا الجنوبية، منذ أن شاد الدوريون معبداً ازيوس في دودونا Dodona، ولكن هذه الثقافات ظلت مزعزعة غير موطدة الأركان (1). حتى عام 295 حين تولى بيرس Pyrrhus ملك الملوسيين Mollosians وهم أقوى القبائل الإبيروسية وأعظمها سلطاناً. وكان بيرس هذا يدعي أنه من سلالة البطل أخيل، وكان وسيماً، شجاعاً، وحاكماً مستبداً، ولكنه محبوب. وكان رعاياه يعتقدون أن في مقدوره أن يشفيهم من مرض الطحال بوضع قدمه اليمنى على ظهورهم وهم مستلقون على الأرض، ولم يكن هو يأبى هذا العلاج على أفقر فقير في البلاد (2). ولما استغاث بهِ أهل تارنتم رأى في هذا فرصة له مغرية: فقد قدر أنه يستطيع فتح رومة، وهي الخطر الذي يتهدده من الغرب، كما فتح الإسكندر بلاد الفرس وهي الخطر الذي كان يتهدده من الشرق، فيثبت بذلك نسبه ببسالته. ولهذا عبر البحر (الأدرياوي) في عام 281 على رأس قوة مؤلفة من 25. 000 من المشاة، وثلاثة آلاف من الفرسان وعشرين فيلاً. وكان اليونان قد أخذوا الفيلة كما أخذوا التصوف عن الهند. والتقى بالرومان عند هرقلية Heracleia، وانتصر عليهم "نصراً بيرسياً": أي أن خسارته في هذا النصر كانت عظيمة، وأن موارده من الرجال والعتاد قد نقصت إلى حد جعله يرد على أحد أعوانه حين هنأه به بهذه العبارة التي أضحت مثلاً سائراً مدى الأجيال إذ قال إن نصراً آخر مثله كفيل بأن يقضي عليه (2). وأرسل الرومان كيس فبريسيوس ليفاوضه في أمر تبادل الأسرى. ويروي أفلوطرخس ما دار وقتئذ من الحديث فيقول:
وفي أثناء العشاء دار الحديث حول كثير من الشؤون، وكان أهمها كلها شؤون بلاد اليونان وفلاسفتها. وتحدث قنياس Cineas ( الدبلوماسي الإبيروسي) عن أبيقور، وأخذ يشرح آراء أتباعه في الآلهة، والدولة، وأغراض الحياة، مؤكداً أن اللذة أكبر سعادة للإنسان؛ ووصف الشؤون العامة بأن لها أسوأ الأثر في الحياة السعيدة لأنها تسبب لها الاضطراب. وقال إن الآلهة لا شأن لها بنا جميعاً ولا تعني بنا أية عناية، فهي مجردة من الرحمة بنا أو الغضب علينا، وهي تحيا حياة لا تقوم فيها بعمل وتقضيها في النعيم والترف. وقبل أن ينتهي قنياس من كلامهِ صاح فبرسيوس قائلاً لبيرس "إي هرقل! دع بيرس والسمنيين (1) يمتعون أنفسهم بمثل هذه الآراء ما داموا في حرب معنا (4) ".
تأثر بيرس بما رآه من صفات الرومان، فدعاه هذا كما دعاه يأسه من تلقي العون الكافي من يونان إيطاليا، إلى أن يرسل قنياس إلى رومة ليفاوضها في الصلح. وأوشك مجلس الشيوخ أن يوافق على هذا، ولكنه فوجئ بأبيوس كلوديوس Appius Claudius، وكان أعمى يشرف على الموت، يحمل إليه ليحتج على عقد الصلح مع جيش أجنبي في أرض إيطالية. فلما عجز بيرس عن نيل بغيته اضطر أن يواصل الحرب، وانتصر انتصاراً انتحارياً آخر في أسكولوم Asculum، ثم عاوده اليأس من الفوز على رومة فعبر البحر إلى صقلية معتزماً أن يخلصها من القرطاجيين. وفيها صد القرطاجيين ببطولتهِ المتهورة، ولكن يونان صقلية كانوا أجبن من أن يخفوا لنجدتهِ، أو لعله كان يحكمهم حكماً استبدادياً كما يحكم كل طاغية. وسواء كان هذا أو ذاك هو السبب فإن أهل صقلية لم يمدوه بما يحتاجه من العون، فاضطر إلى ترك الجزيرة بعد أن ظل يحارب فيها ثلاث سنين. ونطق وهو يغادر بنبوءتهِ المأثورة: "أي ميدان قتال اتركه لقرطاجة ورومة! " ولما وصل إلى إيطاليا كانت قواته قد نقصت نقصاً كبيراً، فهزم في بنفنتوم Beneventum (275) ، حيث أثبتت الكتائب المتحركة الخفيفة السلاح لأول مرة تفوقها على الصفوف المتراصة الحركة، فكان ذلك بداية مرحلة جديد في تاريخ الحروب (5). وعاد إلى إبيروس، كما يقول الفيلسوف أفلوطرخس:
"بعد أن قضى في هذه الحروب ست سنين؛ ومع أنه قد أخفق في أغراضهِ فقد احتفظ بشجاعة لم تنل منها كل هذه المصائب، ويضعه الناس لكثرة تجاربهِ الحربية، وبأسهِ، وجرأتهِ، في منزلة أعلى من منزلة سائر أمراء عصره. ولكن الذي ناله بشجاعتهِ قد خسره مرة أخرى بسبب آماله المتطرفة؛ وكانت رغبته في نيل ما لا يملك سبباً في ضياع ما كان يملك (6) ".
واشتبك بيرس وقتئذ في حروب جديدة ثم قتل بقرميدة ألقتها عليه عجوز في أرجوس. واستسلمت تراس لرومة في تلك السنة نفسها.
وبعد ثمان سنين من ذلك الوقت بدأت رومة كفاحها الطويل مع قرطاجة، وهو الكفاح الذي دام مائة عام، من أجل السيادة على غربي البحر الأبيض المتوسط. ونزلت قرطاجة لرومة بعد حرب دامت جيلاً كاملاً عن سردينية، وقورسقة، والأجزاء التي كانت تمتلكها في صقلية. وارتكبت سرقوسة في الحرب اليونانية الثانية تلك الغلطة الموبقة فانضمت في هذه الحرب إلى قرطاجة، فأجاعها مرسلس Marcellus حتى استسلمت. وانطلق المنتصرون في المدينة ينهبون ويسلبون حتى لم يبقوا فيها على شيء ولم تقم لها بعد ذلك قائمة. ويقول ليفي إن مرسلس "نقل إلى رومة ما كانت تزدان به سرقوسة من تماثيل كانت غاصة بها ... وقد بلغت الغنائم حداً أكثر مما كان يحصل عليه لو أن قرطاجة نفسها هي التي فتحت". ولم يحل عام 210 حتى كانت صقلية كلها قد سقطت في يد رومة جزاء لها على فعلتها. واستحالت المدينة هرياً يورد الحبوب لرومة وعادت مزرعة يقوم فيها بالعمل كله تقريباً عبيد لا آمال لهم في الحياة. ووضعت القيود الشديدة على الصناعة والتجارة، ونقلت ثروتها إلى رومة، ونقص عدد سكانها نقصاً كبيراً، واختفت صقلية من تاريخ الحضارة مدى ألف عام.
مصادر و المراجع :
١- قصة الحضارة
المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)
تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر
ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين
الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس
عام النشر: 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون
تعليقات (0)