لقد كان يساعد رومة في كل خطوة من خطى توسعها أخطاء أعدائها. من ذلك أنها أرسلت في عام 230 رجلين من أهلها إلى أشقودرة Scodra عاصمة اليريا Illyria ( شمالي ألبانيا) ليحتجا على هجوم القراصنة الإليريين على السفن الرومانية، فردت الملكة توتا Teuta، وكانت تقاسم القراصنة الأسلاب، على احتجاجهما بقولها "أن ليس من عادة الحكام الإليريين أن يمنعوا رعاياهم من الاستحواذ على الغنائم في البحار (8) ". ولما أن أنذرها رسول من قبل رومة بالحرب أمرت بقتلهِ. وسرت رومة إذ تهيأت لها هذه الحجة الرخيصة للاستيلاء على ساحل دلماشيا Dalmatia، فسيرت حملة إلى إليريا فرضت عليها حماية رومة ولم تكد تكلفها من العناء في عام 229 ق. م أكثر مما كلفتها حملة 1939 م%=@يقصد الحملة التي سيرتها إيطاليا في عهد موسوليني على ألبانيا واستولت عليها وأخرجت منها مليكها. (المترجم) @. وأصبحت كرسيرا Corcyra ( كورفو)، وإبداموس Epidamus وغيرهما من الحملات اليوناني مدناً تابعة لرومة. ولما كانت التجارة اليونانية قد عطلتها أيضاً أعمال القرصنة الإليرية فإن أثينة وكورنثة، والعصبتين اليونانيتين قد رحبت برومة وعدتها منقذة لها، وقبلت سفراءها، ورضيت أن يشترك الرومان في الطقوس الإليزينية الحفية وفي ألغاب برزخ كورنثة.
وفي عام 216 مزق هنيبال الجيش الروماني في كاني شر ممزق، وزحف بجيشهِ حتى دق أبواب رومة. وبينما كانت تواجه أشد أزمة في تاريخ الجمهورية عقد فيليب الخامس ملك مقدونيا حلفاً مع هنيبال وأعد العدة لغزو إيطاليا (214). وعقد مؤتمر في نوبكتس Naupactus (213) قام فيه أجلوس Agelaus مندوب إيتوليا يناشد اليونان جميعاً أن يوحدوا صفوفهم في هذه الحرب المقدونية الأولى ضد القوة التي أخذت تنمو في الغرب؟
"ما أحسن أن يمتنع اليونان عن أن يحارب بعضهم بعضاً، وأن يروا أن أعظم النعم التي تنعم بها عليهم الآلهة أن ينطقوا على الدوام بقلب واحد وصوت واحد، وأن يسيروا وأيديهم متماسكة، كما يسير الرجال الذين يخوضون نهراً، فيصدوا البرابرة المغيرين ويوحدوا صفوفهم ليحافظوا على أنفسهم وعلى مدنهم .. ذلك أنه لا جدال في أن من أبعد الأشياء وأقلها احتمالاً، سواء انتصر القرطاجيون على الرومان أو انتصر الرومان على القرطاجيين، أن يقنع المنتصرون بالسيادة على إيطاليا وصقلية، بل الذي لا ريب فيه أنهم سيأتون إلى بلادنا وأن أطماعهم ستمتد إلى أبعد ما تخوله لهم العدالة. لهذا أضرع إليكم جميعاً أن تحصنوا أنفسكم من هذا الخطر الداهم، وأتوجه بندائي هذا إلى الملك فليب على الأخص. إن خير ضمان لك يا مولاي، ليس هو إنهاك اليونان، وجعلهم فريسة سهلة للغزاة، بل هو عكس هذا، هو أن تعنى بسلامة كل إقليم من أقاليم اليونان كأنه جزء لا يتجزأ من أملاكك الخاصة" (9).
وأنصت إليه فليب في أدب جم، وأصبح إلى وقت ما معبود بلاد اليونان. ولكن معاهدته مع هنيبال، إذا جاز لنا أن نصدق ليفي المتطرف في وطنيته، قد نصت على أن تساعد قرطاجة فليب، إذا خرجت من الحرب القائمة وقتئذ ظافرة، على إخضاع جميع بلاد اليونان الأصلية إلى مقدونية، مقابل هجومه على إيطاليا. وربما كان سبب الميثاق الذي عقدته معظم الدول اليونانية، ومنها عصبة أجلوس الإيتولية Agelaus Aetolian League، مع رومة ضد مقدونية أن هذه الولايات قد عرفت شروط هذا الاتفاق؛ وكانت نتيجة هذا الميثاق أن وضعت العراقيل في سبيل فليب في داخل البلاد وتأجل غزوه إلى إيطاليا إلى أجل غير مسمى. وفي عام 205 عقدت إيطاليا معاهدةمع فليب لكي توجه اهتمامه كله إلى هنيبال؛ وبعد ثلاث سنين من ذلك الوقت بدد سبيو الأكبر شمل القرطاجيين في زاما Zama. ولما بلغ القرن الأخير العظيم من قرون الحضارة اليونانية غايته لجأت مصر، ورودس، وبرجموم، إلى رومة لتساعدها على فليب. واستجابت رومة لهذه الدعوة بأن أثارت الحرب المقدونية الثانية. ووجد فليب جميع البلاد اليونانية تقريباً ومعها رومة تقف في وجهه، فحارب بشراسة الوحش إذا وقع في المحظور. فلم يتردد في أن يستخدم كل أنواع الغدر، أو سرقة كل ما يوصله إلى غرضهِ، أو التنكيل بالأسرى تنكيلاً يدفع كل رجل في أبيدوس، حين بدا لهم أن حصار فليب لمدينتهم لا يمكن مقاومته، أن يقتل زوجته وأطفاله ثم يقتل بعدئذ نفسه (11). وفي عام 197 أوقع تيتس كونكتيوس فلامنينوس Titus Quinctius Flamininus، وهو رجل ينتمي إلى ذلك الصنف من الأشراف الذين قلبوا بولبيوس مناصراً متحمساً للرومان، أوقع بفليب هزيمة منكرة عند سينوسفلي Cynoscephalea وسقطت على أثرها كل مقدونية- أو بالأحرى بلاد اليونان كلها- تحت رحمة رومة. وقد استاء من فلامنينوس أحلافه الإيتوليون (وقد ادعوا أنهم الذين كسبوا المعركة) لأنه سمح لفليب بعد أن أمن جانبه لشدة ضعفهِ، أن يحتفظ بعرشهِ واكتفى بأن فرض عليه غرامة باهظة واستولى على وسق سفينة من الأسلاب. وكانت حجة فلامنينوس في المطالبة بإبعاد فليب عن العرش أنه في حاجة إلى مقدونية لوقاية البلاد من البرابرة الضاربين في شمالها.
وكان القائد الروماني قد تعلم اللغة اليونانية في تارنتم (وهو الاسم الذي أطلقه الرومان على تاراس) وعرف ما في الأدب اليوناني، والفلسفة اليونانية، والفن اليوناني من بهجة وروعة. ويبدو أنه كان يعتزم مخلصاً أن يحرر دول المدن اليونانية من سيطرة مقدونية، وأن يتيح لها كل فرصة تمكنها من أن تستمتع بالحرية والسلم. ولما استطاع بعد صعاب جمة أن يقنع المبعوثين الرومان بأن هذه خطة حكيمة، ذهب إلى الألعاب البرزخية في كورنثة (196)، حيث كان جميع العالم اليوناني الخطير الشأن مجتمعاً (وكان كل واحد يحدث جاره، على حد قول بولبيوس، بما يستطيع الرومان وقتئذ أن يفعلوه) وأعلن في الحاضرين على لسان منادٍ أن "مجلس الشيوخ الروماني، وأن تيتس كونكتيوس القنصل الأكبر بعد أن هزما الملك فليب والمقدونيين يتركان الأقوام الآتي ذكرهم بعد أحراراً، فلا يضعان في بلادهم حاميات عسكرية، ولا يطالبانهم بجزية، يحكمون أنفسهم بمقتضى قوانينهم. وهؤلاء الأقوام هم الكورنثيون، الفوقيون، واللكريون، والعوبيون، والآخيون الفثيوتيون، والمجنيزيون، والساليون، والبرهيبيون (1) - أي جميع سكان بلاد اليونان القارية الذين لم يكونوا من قبل أحراراً. وصاح الجزء الأكبر من المجتمعين أن يعاد هذا النداء لأنهم لم يستطيعوا أن يصدقوا هذا الإجراء الذي أصبحوا بمقتضاه أحراراً والذي لم يعهدوا له من قبل مثيلاً. فلما أن أعاده المنادي "ارتفعت في الجو عاصفة من التهليل" على حد قول بولبيوس "ليس من السهل على من يستمعون هذه القصة الآن أن يتصوروا قوتها" (12). وارتاب الكثيرون منهم في صدق هذا الإعلان وفي إخلاص أصحابه فيهِ، وتوقعوا أن تكون من ورائه حيلة ماكرة، ولكن فلامنينوس شرع من ذلك اليوم ينقل الجنود اليونان من كورنثة، ولم تحل سنة 194 حتى كان جيشه كله قد عاد إلى إيطاليا. ورحبت به اليونان وعدته "منقذاً ومحرراً" وبدت مغتبطة سعيدة تعيش في آخر أيام حريتها.
مصادر و المراجع :
١- قصة الحضارة
المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)
تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر
ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين
الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس
عام النشر: 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون
تعليقات (0)