المنشورات

رومة تحت حكم الملوك

وعبر نهر التيبر حوالي عام 1000 ق. م جماعة مهاجرون من فلانوفا واستقروا في لاتيوم Latium؛ ولا يعرف أحد هل غلَبَ هؤلاء المهاجرون من وجدوهم في تلك البلاد من السكان الأصليين الذين كانت ثقافتهم في ذلك العهد لا ترقى عن ثقافة أهل العصر الحجري، أو أبادوهم، أو اكتفوا بالاختلاط بهم والزواج منهم. ومهما يكن ما فعلوه بهم فقد أخذت القرى الزراعية التي كانت قائمة في هذا الإقليم التاريخي العظيم بين نهر التيبر وخليج نابلي Naples تجتمع وينضم بعضها إلى بعض حتى تكون منها عدد قليل من دويلات المدن المستقلة المتحاسدة التي لم تكن تتحد بعضها مع بعض إلا في الأعياد الدينية السنوية أو فيما كان يقوم بينها من حروب. وكان أكبر هذه المدن هي ألبا لنجا Alba Longa القائمة عند سفح جبل ألبان Mt. Alban، والراجح أن موضعها كان في موضع قصر جندلفو Castel Gandolfo الذي يأوي إليه البابا في أيام الصيف في الوقت الحاضر. ومن أبا لنجا تحرك جماعة من اللاتين -ولعل ذلك كان في القرن الثامن قبل الميلاد- مدفوعين بحب الغزو أو بازدياد عددهم لكثرة من ولدهم من الحفدة والأبناء، تحركوا قرابة عشرين ميلاً نحو الشمال الغربي، وأنشئوا المدينة التي صارت في بعد أعظم مدن العالم وأوسعها شهرة.
ولسنا نعرف عن نشأة روما أكثر مما ذكرناه في الفقرة السابقة التي ليس فيها إلا ما هو فروض غير موثوق بصحتها. ولكن القصص الرومانية تروي عن ذلك الشيء الكثير. ذلك أنه لما حرق الغاليون المدينة في عام 390 ق. م احترقت في أغلب الظن معظم سجلاتها التاريخية، فاتسع المجال أمام خيال أهليها، وأغرتهم وطنيتهم إلى تصوير أصل المدينة في صورة مطلقة من كل القيود، فحددوا تاريخ بنائها في اليوم الذي يوافق اليوم الثاني والعشرين من شهر أبريل عام 753 ق. م، وأخذوا يؤرخون الحوادث من "عام تأسيس المدينة" A. U. C. anno urbis conditae؛ وأخذت مائة قصة وألف قصيدة تصف خروج إينياس Aeneas بن أفرديتي -فينوس (الزهرة Aphrodite-Venus من طروادة المحترقة، ومجيئه إلى إيطاليا بآلهة مدينة برام Priam (1) وما كان فيها من صور مقدسة، بعد أن قاسى الأهوال في البلاد الكثيرة التي مر بها، ولاقى ألوان العذاب من سكانها. وتزوج إينياس من لافينيا Lavinia ابنة ملك لاتيوم؛ وتقول القصة أن نمتور Numitor أحد أحفادهما جلس على عرش ألب لنجا حاضرة لاتيوم بعد ثمانية أجيال من هذا الزواج. ثم اغتصب العرش منه رجل يدعى أمليوس Amulius وأخرجه من المدينة، وأراد أن يقضي على أسرة إينياس كلها فقتل جميع أبنائه الذكور، وأرغم ابنته الوحيدة ريا سلفيا Rhea Silvia على أن تصبح كاهنة لفستا Vesta، وأن تترهب وتقسم أن تظل عذراء حتى الممات. ولكن ريا رقدت يومًا على شاطئ مجرى ماء، "وفتحت صدرها لتتلقى النسيم" (29) واستغرقت في النوم وهي واثقة أكثر مما يجب بطهارة الآلهة والآدميين وأسر جمالها قلب المريخ Mars فحملت منه بتوأمين، فلما وضعتهما أمر أمليوس بإغراقهما في النهر، فوضعا فوق رمس، وأشفقت عليهما الأمواج فحملتهما إلى البر، وأرضعتهما ذئبة ( Lupa) أو -في رواية أخرى- زوجة راعٍ تدعى أكا لارنتيا Acca Larentia ويكنونها لوبا Lupa لأن حبها عارم محب الذئاب، فلما شب رمليوس Romulus وريموس Remus قتلا أمليوس، وأعاد نُمتور إلى العرش، وسارا تحدوهما قوة الشباب وعزيمته لكي ينشئا لهما مملكة على تلال روما. 

ولم يكشف علم الآثار شيئاً يؤيد هذه القصص التي تروى عن نشأة روما وعهدها الأول؛ ولعل في هذه القصص شيء من الحقيقة، فليس ببعيد أن يكون اللاتين قد أرسلوا نفراً منهم ليشيدوا مدينة روما لكي يتخذوها حصناً يقيهم شر التسكان الذين كانوا يوسعون رقعة بلادهم في ذلك الاتجاه. وكان موقع المدينة على بعد عشرين ميلاً من شاطئ البحر، ولم يكن موقعاً ملائماً للتجارة البحرية، ولكنه كان من المستحب في تلك الأيام أيام القرصان المغيرين النهّابين أن تكون مواقع المدن بعيدة عن شاطئ البحر قليلاً. أما من حيث التجارة الداخلية فقد كانت روما عند ملتقى طريقي التجارة، طريق النهر والطريق البري الممتد من الشمال إلى الجنوب. ولم يكن موقعها بالموقع الصحي، فقد كانت الأمطار وفيضانات الأنهار، ومياه العيون، تملأ المناقع الكثيرة في السهل المحيط بالمدينة، ومن ثم كانت شهرة التلال السبعة وتقول الرواية أن أول ما استوطنه المهاجرون من هذه التلال هو تل بلاتين Palatine، ولعل سبب هذا أن جزيرة قرب سفح هذا التل قد يسرت للمستعمرين عبور نهر التيبر وإقامة جسر عليه. ثم استوطنوا بعدئذٍ سفوح التلال المجاورة واحداً في أثر واحد، وما لبثوا أن عبروا النهر وشدوا الفاتيكان Vatican والجانكيولوم Janiculum (1) . ثم تحالفت القبائل الثلاث -اللاتين والسبنيون والتسكان- التي استوطنت التلال وأنشأت منها اتحاداً يسمى السبتيمنيوم هو الذي نشأت فيه على مهل مدينة روما.
وتقول القصة القديمة بعدئذٍ أن رميولوس أراد أن يأتي بأزواج لرجاله، فأعد ألعاباً عامة دعا إليها السبنيين وغيرهم من رجال القبائل الأخرى، وبينما كان السباق جارياً في مجراه إذ انقض الرومان على نساء السبنيين فاستولوا عليهن، وطردوا الرجال من حلبة السباق، فما كان من تيتس تاتيوس Titus Tatius ملك قبيلة الكيوريين Curites إلا أن شن الحرب على روما، وسار بجيوشه لغزوها. وفتحت تربيا Tarpeia ابنة الوماني الموكل بإحدى القلاع القائمة على الكبتولين باب القلعة إلى الغزاة. وقد جازوها على عملها بأن دقوا عظامها بدروعهم؛ وأطلقت الأجيال التي جاءت من بعد اسمها على "صخرة تربيا" التي كان يلقى من فوقها المقضي عليهم بالإعدام ليلقوا حتفهم. ولما اقترب جنود تاتيوس من تل البلانين سعت نساء السبنيين -اللاتي كنّ يشعرن بنعم الأسر- إلى عقد هدنة بين الطرفين، وحجتهن في هذا أنهن سيخسرن أزواجهن إذا انتصر الكيوريون؛ وسيخسرن أخوتهن أو آباءهن إذا انهزموا. ونجح النساء في سعيهن وأقنع رومليوس تاتيوس ملك السبنيين بأن يشاركه ملكه، وأن تنضم قبيلته إلى اللاتين، فتصبح من مواطني روما؛ ومن ذلك الوقت سمي أحرار روما بالكيوريين أو الكويريين ( Quirites Curites) (30) . ولعل في هذه القصة الخيالية كلها هي الأخرى بعض الحقائق -أو لعل النعرة الوطنية قد صاغتها لتخفي بها فتح السبنيين مدينة روما.
وحكم رميولوس وما زمناً طويلاً رفع بعدها إلى السماء في عاصفة، واتخذ من بعد ذلك إلهاً من آلهة الرومان المحببين، يعبدونه باسم كويرينوس Quirinus (31) . ولما مات تاتيوس أيضاً اختار رؤساء الأسر الكبيرة رجلاً من السبنيين يدعى نوما بمبيليوس Numa Pompilius ملكاً على روما. والراجح أن السلطة السياسية الحقيقية فيما بين تأسيس روما وسيطرة التسكان عليها كانت في أيدي هؤلاء الرؤساء أو السناتوريين، على حين أن أعمال الملك كانت كأعمال الأركون باسليوس Archon basileus في مدينة أثينا في هذا الوقت عينه، ولا تخرج عن أعمال الكاهن الأكبر (32). وتصور الأقاصيص الملك نوما السبيني في صورة شبيهة بالإمبراطور ماركس أورليوس Marcus Aurilius تصوره فيلسوفاً وقديساً معاً. ويقول عنه ليفي Livi إنه: "عمل على أن يبعث في قلوب الشعب الخوف من الآلهة، ويجعل ذلك الخوف أقوى أثرًا في قلوب ... الأقوام الهمج. وإذ كانت جهوده في هذه السبيل لا توصله إلى الهدف الذي يسعى إليه إلا إذا كان مرجعها إلى حكمة غير حكمة البشر، فقد ادعى أنه كان يلتقي في الليل بإيجيريا Egeria الحورية المقدسة، وإنه يعمل بنصيحتها حين ينظم الطقوس والمراسم الدينية التي هي أحب الطقوس إلى السماء، ويعين الكهنة لكل إله من كبار الآلهة (33).
ولما أفلح توما في توحيد دين قبائل روما المختلفة، وإزالة ما بينها من فروق في العبادات، قوّى بذلك وحدة الدولة وزادها استقراراً (33)؛ ويقول شيشرون إن نوما، حين وجه اهتمام الرومان المولعين بالحرب والقتال إلى شئون الدين، نشر لواء السلام بين شعبه مدى أربعين عاماً (34).
وأعاد خليفته تلس هستليوس Tallus Hostilius إلى الرومان حياتهم العادية التي ألفوها من قبل "ولما رأى أن قوى الدولة آخذة في الانحلال لطول عهدها بالخمول أخذ يتطلع إلى حجة يتذرع بها لإيقاد نار الحرب" (35). واختار عدوًا له مدينة ألبا لنجا التي كانت هي أصل مدينة روما ومنشأها، فغزاها ودمرها عن آخرها. ولما نكث ملك ألبا بوعده أن يحالفه أمر به تلس فشُد إلى عربتين سارتا في اتجاهين متضادين فمزق جسمه إربًا (36). ولم يرَ خليفته أنكس مارتيوس Ancus Martius بأسًا في اتباع هذه الفلسفة العسكرية، فقد كان أنكس يعلم كما يقول ديو كاسيوس Dio Cassius:
أنه لا يكفي من ينشدون السلم أن يمتنعوا عن أذى الناس ... بل أنه كلما اشتدت رغبة الإنسان في السلم اشتد تعرضه للأذى. وكان يرى أن الرغبة في الهدوء لا تحمي الإنسان من الأذى إلا إذا صاحبها استعداد للحرب؛ وكذلك كان يعتقد أن الابتهاج بالبعد عن المشاكل الخارجية سرعان ما يقضي على الذين يسرفون في حماستهم لهذا البعد (37). 














مصادر و المراجع :

١- قصة الحضارة

المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)

تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر

ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين

الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس

عام النشر: 1408 هـ - 1988 م

عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید