وكان الأساس الذي يعتمد عليه الدستور الروماني في آخر الأمر هو النظام العسكري الذي كان أكثر الأنظمة العسكرية نجاحًا في تاريخ العالم كله. لقد كان الجيش هو والمواطنون وحدة وثيقة الارتباط، وكان الجيش مجتمعًا في المئات هو الهيئة الرئيسية التي تسن قانون الدولة. وكان الفرسان يؤخذون من المئات الثمان عشرة الأولى، أما "الطبقة الأولى" فكانت تكون فرق المشاة الثقيلة، وكان كل جندي فيها يسلح بحربتين وخنجر وسيف، ويلبس خوذة من البرنز، ودرعًا من الزرد، وجرموقًا، ومجنًا. وكان لرجال الطبقة الثانية كل هذه العدد عدا الدروع الزردية وأما رجال الطبقتين الثالثة والرابعة فلم يكن لهم سلاح، ولم يكن لرجال الطبقة الخامسة غير المقاليع والحجارة. وكان الفيلق الروماني هيئة مختلطة تتألف من 4200 من المشاة، و300 من الفرسان، وعدة كتائب أخرى إضافية (22)؛ وكان جيش القنصل يتألف من فيلقين. وكان كل فيلق يقسم إلى كتائب، وكانت كل منها في بادئ الأمر تتألف من مائة جندي، ثم أصبحت فيما بعد تتألف من مائتين، ويقودها قواد المئات. وكان لكل فيلق علمه الخاص vexillum. وكان مما يخل بالشرف أن يسقط هذا العلم في أيدي الأعداء. وكان مهرة الضباط في بعض الأحيان يلقون العلم بين صفوف الأعداء ليثيروا حماسة جندهم فيعملوا على استعادته مهما كلفهم ذلك من بذل وتضحية. وإذا نشبت المعركة قذفت صفوف المشاة الأمامية العدو، الذي لم يكن يبعد عنهم أكثر من عشر خطوات أو عشرين خطوة، بوابل من الحراب، وهي رماح من الخشب تنتهي بأطراف من الحديد، وهاجمه في الجناحين أصحاب النبال والمقالع بالسهام وبالحجارة، وهجم الفرسان بالأسنة والسيوف؛ وكانت الواقعة تنتهي بقتال حاسم يدور بين الأفراد بالسيوف القصار. أما أعمال الحصار فكانت تستخدم فيها المجانيق الخشبية التي تدار بالجذب أو اللي وتقذف من الحجارة ما زنته عشرة أرطال إلى أبعد من ثلاثمائة ياردة. وكانت كباش حربية ضخمة معلقة في حبال تشد إلى الوراء، ثم تخلي فتنطح أسوار الأعداء. وكان يقام رصيف مائل من الطين والخشب تدفع وتجر عليه أبراج ذات عجل ترمي منها القذائف على الأعداء (23). وقد عدل في عام 366 ق. م تشكيل الفيالق التي كانت في عهد الجمهورية الأول تتألف من ستة صفوف متراصة في كل واحد منها 500 جندي، فكانت لذلك ضخمة كبيرة العدد يصعب تحريكها وتسييرها، فقسم كل فيلق إلى كوكبات (1) في كل كوكبة مائتا جندي. وكان يترك فراغ بين كل كوكبة والتي تجاورها، وتقف الكوكبة التي في كل صف خلف الفراغ المتروك في الصف الذي قبله. وبهذه الطريقة يمكن الإسراع في إمداد كل صف من الصف المجاور له، وتحويل كوكبة أو عدة كوكبات لمواجهة أي هجوم جانبي، كما كان من شأن هذا النظام أن يفسح المجال للحرب الفردية التي كان الجندي الروماني يعد لها أحسن إعداد.
وكان أكبر العوامل في قوة هذا الجيش وانتصاراته هو حسن نظامه، ذلك أن الشاب الروماني كان يعد للحرب منذ طفولته، فكان أهم ما يدرسه العلوم التي تؤهله لأن يكون جنديًا صالحًا، وكان يقضي عشر سنوات من عمره في ميادين القتال أو في المعسكرات. وكان الجبن في هذا الجيش هو الجريمة التي لا تغتفر وكان يعاقب عليها بجلد من يرتكبها حتى الموت (24). ولم يكن من حق قائد الجيش أن يحكم بالإعدام على أي جندي أو ضابط للفرار من القتال فحسب، بل كان من حقه أيضًا أن يحكم عليه بهذه العقوبة نفسها إذا خالف ما يصدر إليه من الأوامر ولو أدت مخالفته إياها إلى أحسن العواقب. وكان الذي يفر من الجندية أو يرتكب جريمة السرقة يعاقب بقط يده اليمنى (25). وكان الجند في المعسكرات يطمعون طعامًا بسيطًا يتكون من الخبز وحساء الخضر وقليل من الخضر والنبيذ، وقلما كان يضاف إليه شيء من اللحم، وبذلك فتح الجيش الروماني العالم المعروف وقتئذ معتمدًا على الغذاء النباتي؛ ولما أن نقصت كمية القمح اللازمة لجيش يوليوس قيصر واضطر هذا الجيش لأكل اللحم شكا الجند من هذه الحال (26). وكان العمل الذي يكلف به الجنود مجهدًا طويلاً، حتى كان الجند يفضلون عليه الذهاب إلى ميدان القتال، وحتى كانت البسالة أسلم الخطط؛ وظل الجند حتى عام 405 ق. م لا يتناولون أجورًا أو مرتبات، ولم يكن ما يتناوله بعد ذلك العام بالشيء الكثير. ولكن كل جندي كان يسمح له بنصيب من الغنائم حسب مرتبته سواء كانت هذه الغنائم سبائك معدنية أو نقودًا أو أرضًا أو أسرى أو بضائع. ولم يكن هذا التدريب ليخلق من الرومان محاربين بواسل تواقين إلى القتال فحسب، بل خلق منهم فوق ذلك قوادًا شجعانًا. ذلك أن الطاعة قد خلقت فيهم المقدرة على الأمر والنهي. ولسنا ننكر أن جيش الجمهورية قد خسر بعض الوقائع الحربية، ولكنه لم يخسر قط حربًا، وهؤلاء الرجال الذين نشئوا في هذا النظام الصارم، وتطبعت به نفوسهم، واعتادوا رؤية الموت بأعينهم، وألفوه حتى أصبح من الأمور التي لا قيمة لها في نظرهم، هؤلاء الرجال هم الذين كسبوا الوقائع التي مكنتهم من الاستيلاء على إيطاليا، ثم فتح قرطاجنة واليونان، والسيطرة على عالم البحر الأبيض المتوسط.
هذه هي الخطوط الرئيسية في ذلك "الدستور المختلط" الذي أعجب به بولبيوس ووصفه بأنه "خير الحكومات القائمة" في العالم، فهو من حيث سيادة الجمعيات في الناحية التشريعية ديمقراطية مقيدة، ومن حيث زعامة مجلس الشيوخ المؤلف من أشراف البلاد حكم أرستقراطي، وهو "حكم ملكي مزدوج" شبيه بالحكم الإسبارطي إذا نظرت إليه من ناحية سلطان القنصلين القصير الأجل؛ وهو حكم ملكي مطلق في بعض الأحيان حكمًا دكتاتوريًا. وهو في جوهره حكم أرستقراطي تولت فيه السلطة أسر قديمة غنية بفضل ما كان لها من كفاية وامتياز مئات السنين، وصبغت السياسة الرومانية بصبغة الدوام والثبات، وبفضلهما استطاعت أن تقوم بما قامت به من جلائل الأعمال.
ولكنه لم يخل من عيوب. فقد كان هذا الدستور خليطًا سمجًا غير متناسق من العوائق والموازين، يستطاع فيه أيام السلم إبطال كل أمر تقريبًا بأمر معارض له ومساو له في القوة. ولقد كان ما فيه من تقسيم السلطة بين عدد من الهيئات عونًا على الحرية، كما كان- إلى أجل محدود- مانعًا من إساءة استعمالها؛ ولكن هذا الحكم نفسه هو الذي أدى إلى الكوارث العسكرية أمثال كارثة كاني Canae، والى انحلال الديمقراطية حتى أضحت حكم الغوغاء وجاء آخر الأمر بالدكتاتورية الدائمة في أيام الأباطرة. والذي يدهشنا في هذه الحكومة هو بقائها ذلك العهد الطويل (من 508 إلى 549 ق. م)، وكثرة ما قامت به من الأعمال. ولعل سبب بقائها هو قابليتها المهوشة للتغير، والروح الوطنية الفخورة التي كانت تُبث في نفوس الرومان في البيت والمدرسة، والهيكل والجيش، والجمعية ومجلس الشيوخ. وكان الولاء للدولة أهم الصفات في أيام مجد الجمهورية، كما كان الفساد السياسي المنقطع النظير مؤذنًا بسقوطها. لقد ظلت رومه عظيمة طوال العهد الذي كان لها فيه أعداء يرغمونها على الاتحاد والشجاعة والتبصر في العواقب؛ فلما أن ظفرت بأعدائها جميعًا انتعشت برهة من الزمان ثم بدأت في الاحتضار.
مصادر و المراجع :
١- قصة الحضارة
المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)
تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر
ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين
الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس
عام النشر: 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون
تعليقات (0)