لم يكن الأعداء في يوم من الأيام يحيطون برومه أكثر مما كانوا يحيطون بها حين خرجت من عهد الملكية دولة صغيرة تشمل مدينة واحدة ضعيفة لا تزيد رقعتها على 350 ميلاً مربعًا- أي مساحة لا تزيد على تسعة عشر ميلاً في تسعة عشر. ولما أن تقدم لارس بورسنا Lars Porsena ليهاجمها استعادت كثير من العشائر التي كان ملوك رومه قد أخضعوها لسلطانهم ما فقدته من حرية وكونت حلفًا لاتينيًا للوقوف في وجه رومه. وكانت إيطاليا في ذلك الوقت تتألف من خليط من المدن أو القبائل المستقلة لكل منها حكومتها ولهجتها الخاصة بها. فكان في شمالها اللجوريون، والغاليون، والأمبريون، والتسكانيون، والسبنيون؛ وكان في جنوبها اللاتين، والفلشيون، والسمنيون، واللوكانيون، والبريتانيون؛ وكان على شاطئها الجنوبي والغربي مستعمرون من اليونان في كومية، ونابلي، وبمبي، وبستوم، ولكري، ورجيوم، وكروتونا، ومثابنتم، وتارنتم (1). وكانت رومه في وسط هذه العشائر والمدن جميعها، ذات موقع حربي يمكنها من التوسع وبسطة الملك، ولكنها كانت معرضة للغزو من جميع جهاتها في آن واحد. وكان سبب نجاتها أن أعدائها لم يتحدوا عليها. وقد حدث في عام 505 بيننا كانت رومه مشتبكة في حرب من السبنيين أن وفدت عليها إحدى العشائر السبنية- عشيرة الكلوريين- فمنحها رومه حق مواطنيها نظير شروط مرضية. وفي عام 449 هزمت رومه السبنيين، ولم يحل عام 290 حتى ضمت كل أراضيهم إليها، وما وافى عام 250 حتى كان لهم كل ما لأهل رومه من الحقوق.
وفي عام 496 أغرى آل تاركوين بعض لاتيوم وهي تسكولوم، وأرديا، ولنوفيوم، وأريسيا، وتيبور (1) وغيرها بالانضمام في حرب تشنها على رومه. ورأى الرومان أنفسهم أمام هذا الحلف البادي القوة، فأقاموا عليهم أول دكتاتور منهم، وهو أولس بستوميوس Aulus Postumius، وانتصروا على هذا الحلف اللاتيني عند بحيرة رجيلس Regillus نصرًا مؤزرًا كان سبباً في نجاتهم. ويؤكد الرومان أنهم قد تلقوا العون في هذه الواقعة من الإلهين كستر وبلكس Castor & Pollux إذ غادرا جبال أولمبس ليحاربا في صفوفهم. وبعد ثلاث سنين من ذلك الوقت عقدت رومه مع الحلف اللاتيني معاهدة تعهد فيها الطرفان أن "يدوم السلم بين الرومان ومدن اللاتين ما دامت السموات والأرض ... وأن يشتركا على قدم المساواة في جميع غنائم الحرب (27) ". وكانت رومه في بادئ الأمر عضواً في هذا الحلف ثم أمست زعيمته، ثم سيدته المسيطرة عليه. وفي عام 493 حاربت الفلشيين Volscians؛ وفي هذه الحرب ظفر كيوس مارسيوس Caius Marcius بلقب كريلانس Coriolanus بعد أن استولى على كريلاي Corioli عاصمة الفلشيين (2). ويضيف المؤرخون إلى هذا- ولعل للخيال والقصص شأن كبير فيما يضيفون- أن كريلانس أصبح من ذلك الوقت رجعياً شديد الرجعية، فنُفي من رومه بناء على طلب العامة وإصرارهم (491)، فلجأ إلى الفلشيين، وأعاد تنظيم جيوشهم، وسار على رأسهم لحصار رومه. ثم تقول الرواية إن الرومان المحاصرين بعد أن عضهم الجوع بعثوا رسولاً في إثر رسول ليثنوه عن عزمهِ، ولكنه لم ينثنِ، فلما جاءته أمه وزوجته تتوسلان إليه وردهما خائبتين أنذرتاه بأنهما ستسدان الطريق أمامه بجسديهما، فلم يسعه أمام ذلك إلا أن يرتد بجيشه عن رومه. وكان جزاؤه أن قتله الفلشيون، وفي رواية أخرى أنه عاش بينهم معيشة ضنكا، حتى بلغ من العمر أرذله (28). وفي عام 405 قام النزاع على أشده بين رومه وفياي Veii للسيطرة على نهر التيبر. وحاصرت رومه مدينة فياي ودام الحصار تسع سنين، وشجع هذا مدن إتروريا فانضمت إلى فياي ضد رومه، وهوجم الرومان من كل ناحية وتعرضوا لخطر الفناء، فأقاموا عليهم دكتاتورًا يدعى كاملس Camillus، فجند جيشًا جديدًا استولى به على فياي ووزع أرضها على مواطني رومه. وفي عام 351 ضم جنوب إتروريا إلى رومه بعد عدة حروب أخرى متفرقة وسميت من ذلك الوقت باسم تسكيا Tuscia وهو اسم لا يكاد يفترق عن اسم المقاطعة في الوقت الحاضر.
وفي هذه الأثناء واجهت رومه في عام 390 خطراً جديداً أشد من الأخطار السابقة، وقام الصراع بينها وبين بلاد الغالة، وهو الصراع الطويل الذي لم ينته إلا في عهد يوليوس قيصر. وذلك أنه بينما كانت الحروب الأربع عشرة قائمة بين رومه وإتروريا تسللت قبائل كلتية من بلاد الغالة ومن ألمانيا منحدرة من جبال الألب، واستقرت في إيطاليا، وانتشرت جنوباً حتى نهر البو Po. ويطلق المؤرخون القدامى على هؤلاء الغزاة اسم كلتائي- أو سلتائي، أو جلتائي أو غالي (1) دون تمييز بينها. ولسنا نعرف شيئًا عن أصل هذه القبائل؛ وكل ما نستطيع أن نصفها به أنها ذلك الفرع من السلالة الهندوربية التي سكنت ألمانيا الغربية وغالة وإسبانيا الوسطى، وبلجيكا، وويلز، واسكتلندة، وإيرلندة، وأدخلت فيها اللغات التي وجدها الرومان في تلك البلاد. ويصفهم بولبيوس Polybius بأنهم "طوال القامة، حسنو الوجوه"، يحبون القتال، ويحاربون وهم عراة الأجسام إلا من تمائم وسلاسل ذهبية (29). ولما أن ذاق الكلت سكان بلاد غالة الجنوبية طعم النبيذ الإيطالي سرهم مذاقه كل السرور فاعتزموا أن يزوروا الأرض التي تخرج تلك الفاكهة اللذيذة. ولعل أصدق من هذا أنهم أقبلوا على تلك البلاد طلباً للمرعى وللأرض الجديدة، فلما دخلوها أقاموا فيها وقتًا ما مسالمين على غير عادتهم المألوفة، يحرثون الأرض ويرعون الماشية، ويتثقفون بما كان في المدن من ثقافة تسكانية. ثم غزوا إتروريا في عام 400 ق. م ونهبوها، وقاومهم التسكان مقاومة ضعيفة، لأنهم كانوا قد أرسلوا جنودهم إلى فياي ليصدوا عنها الرومان. وفي عام 391 وصل ثلاثون ألفًا من الغاليين إلى كلوزيوم Clusium؛ وبعد عام واحد التقوا بالرومان على نهر أليا Allia وهزموهم هزيمة منكرة بددت شملهم، ودخلوا رومه فاتحين دون أن يلقوا في ذلك مقاومة، ونهبوا المدينة وحرقوا كثيرًا من أحيائها، وظلوا سبعة أشهر يحاصرون فلول الجيش الروماني المعسكر على الكبتول Capitol- وهوقلة تل الكبتولين Capitoline- حتى استسلم لهم الرومان آخر الأمر، وأدوا للغالبين ألف رطل من الذهب نظير انسحابهم (1). وغادر الغاليون رومه ولكنهم عادوا إليها في أعوام 367، 358، 350. وصدهم الرومان في كل مرة فقنعوا أخيرًا بشمال إيطاليا الذي أصبح من ذلك الوقت يعرف بغالة الألبية الجنوبية.
وألفى من بقي من الرومان مدينتهم مخربة تخريبًا حمل الكثيرين منهم على أن يتمنوا لو استطاعوا أن يغادروها ويتخذوا فياي عاصمة لهم. ولكن كمليوس أثناهم عن عزمهم، وقدمت لهم الحكومة ما يحتاجونه من المعونة المالية لبناء بيوتهم من جديد. وكانت السرعة التي تم بها هذا البناء، وهم يواجهون الأعداء من حولهم، سببًا من الأسباب التي جعلت رومه مدينة قائمة على غير نظام مرسوم ذات شوارع ضيقة ملتوية. وكانت الشعوب الخاضعة لسلطانها، إذا رأتها موشكة على الدمار والخراب، ثارت عليها ثورة في إثر ثورة واستلزم إخضاع هذه الشعوب وشفاؤها من نزعة الحرية خمسين عامًا من الحروب المتقطعة. ولقد هاجمها اللاتين، والإكوريون، والهرنيشيون، والفلشيون مجتمعين أو متفرقين. ولو انتصر الفلشيون لفصلوا عن جنوب إيطاليا وعن البحر، ولربما استطاعوا بذلك أن يقضوا على تاريخها؛ ولكن رومه انتصرت عليهم وانتصرت على مدن الحلف اللاتيني في عام 340، وبعد عامين من انتصارها عليها حلت الحلف وضمت مدن لاتيوم جميعها إلا القليل منها إليها (1).
وفي هذه الأثناء كان ما نالته رومه من النصر على الفلشيين سببًا في وقوفها وجهًا لوجه أمام القبائل السمينة القوية. وكانت هذه القبائل تمتلك قطاعًا مستعرضًا في إيطاليا يمتد من بابلي حتى البحر الأدرياوي، ويشمل مدنًا غنية مثل نولا Nola وبنفنتم Beneventum، وكومية Cumae، وكبوا Capua. وكانت قد استولت على معظم المستعمرات التسكانية واليونانية الممتدة على الساحل الغربي، وكان لها من الحضارة الهلينية ما يكفي لخلق فن كمباني Campanian، متميز عن غيره من الفنون، ولعلها كانت أكثر حضارة من الرومان أنفسهم. واشتبكت رومه مع هذه القبائل في ثلاث حروب طويلة طاحنة رغبة منها في الانفراد بالسيادة على إيطاليا. ومني الرومان في مشاغب كودين Coudine Forks (321) بهزيمة من أكبر هزائمهم، ومر جيشهم المنهزم "تحت النير"- أي تحت قوس من حراب الأعداء- رمزًا لخضوعهم. ووقع القنصلان في ميدان القتال شروطاً لصلح مذل رفض مجلس الشيوخ أن يصدق عليه، ونجح السمنيون في أن يضموا إليهم التسكانيين والغاليين، وألفت رومه نفسها وقتًا ما تواجه إيطاليا كلها تقريبًا شاكية السلاح. ولكن الفيالق الرومانية انتصرت انتصارًا حاسمًا في سنتينوم Sentinum (295) ضمت رومه على أثره كمبانيا Campania وأمبريا Umbria إلى أملاكها. وبعد عامين من ذلك الوقت طردت الغاليين إلى ما وراء نهر ألبو وأخضعت إتروريا مرة أخرى لسلطانها.
وبذلك أصبحت رومه سيدة إيطاليا الممتدة من مقاطعات الغاليين في الشمال إلى المقاطعات اليونانية في الجنوب. لكن عدم اطمئنانها إلى سلامتها من جهة، ورغبتها في مواصلة الفتح من جهة أخرى، قد حملاها على أن تحيز مدن "اليونان الكبرى" Magna Graecia بين الحرب وبين محالفتها حلفًا تقر فيه لرومه بالزعامة. وفضلت مدن تورياي Thurii ولكري Locri وكروتونا Crotona أن تحالف رومه على أن تتعرض للاندماج في القبائل "المتبربرة" (أي الإيطالية)، التي كانت تتكاثر من حولها وبين أهلها؛ ولعلها هي أيضًا كانت تمزقها كما تمزق لاتيوم حرب الطبقات، واستقبلت الحاميات الرومانية لتصد عن الملاك مطامع العامة الذين كان سلطانهم آخذًا في الازدياد (32). لكن تارتم Tarentum وقفت وقفة المعاند، واستعانت ببيرس Pyrrhus ملك إبيروس Epirus. وثارت في نفس هذا المحارب الباسل ذكريات أخيل Achilles والإسكندر فعبر البحر الأدرياوي بقوة إبيروسية، وهزم الرومان في هرقيلة Heraclea (280 ق. م)؛ ولكن ما ناله من النصر كان غالي الثمن غلوًا حمل القائد المظفر على أن يرثى لحاله (33). وانضمت إليه وقتئذ جميع المدن اليونانية في إيطاليا، وحالفه اللوكانيون، والبوتيون، والسمنيون. وبعث سنياس Cineas إلى رومه يعرض عليها الصلح، وأطلق سراح الألفي أسير روماني الذين كانوا في قبضته بعد أن وعدوه بأن يعودوا إذا فضلت رومه الحرب على السلم. وأوشك مجلس الشيوخ أن يقبل شروطه ولكن أبيوس كلوديوس Appius Cladius، الشيخ الأعمى المسن الذي كان قد اعتزل الحياة العمة من زمن طويل، طلب إلى بعض الناس أن يحملوه إلى دار المجلس، فلما دخل على الأعضاء طلب إليهم تعقد رومه قط صلحًا مع جيش أجنبي في أرض إيطاليا. ورد مجلس الشيوخ إلى بيرس من أطلقهم من الأسرى وبدأت الحرب من جديد. وانتصر الملك الشاب على الرومان مرة أخرى، ثم عافت نفسه جبن أحلافه وضعفهم وترددهم، فأبحر مع من بقي معه من جيشه إلى صقلية ورفع عن سرقوسة حصار القرطاجنيين، وطردهم من أملاكهم في الجزيرة حتى لم يبق لهم فيها إلا القليل. ولكنه اغضب بحكمه القوي اليونان سكان صقلية، وكانوا يظنون أن في وسعهم أن يستمتعوا بالحرية دون أن يؤدوا لها ثمنًا من النظام والشجاعة، فقبضوا عنه معونتهم، فعاد بيرس إلى إيطاليا وهو يقول عن صقلية: "ما أعظمها من غنيمة تتنازعها قرطاجنة ورومه! " والتقى جيشه بالجيش الروماني في بنفنتم ومني بالهزيمة لأول مرة (275). واتضح في هذه الواقعة أن الأولوية الخفيفة السلاح السريعة الحركة أصلح من الصفوف المتراصة البطيئة، وبدأت بذلك صفحة جديدة في تاريخ الحروب. وأهاب بيرس بأحلافه الإيطاليين أن يمدوه بجيوش جديدة، فلم يلبوا نداءه لارتيابهم في إخلاصه ومثابرته. فعاد إلى إبيروس ومات في بلاد اليونان ميتة المغامرين. وفي السنة التي مات فيها (272 ق. م) غدرت ميلو Milo بتارنتم وانضمت إلى رومه. وما لبثت المدن اليونانية كلها أن خضعت لرومه واستسلم لها السمنيون وهم كارهون محزونون، وأمست إيطاليا بعد حروب دامت قرنين كاملين سيدة إيطاليا لا ينازعها فيها منازع.
وسرعان ما ثبتت رومه أقدامها في البلاد المفتوحة بما كانت ترسله إليها من الجاليات، بعضها من أهلها وبعضها من بلاد الحلف اللاتيني. وقد أفادتها هذه الجاليات فوائد كثيرة: فقد خففت عنها خطر التعطل، وقللت من تزاحم الأهلين على موارد الرزق، وما ينشأ عن هذا التزاحم من نزاع بين الطبقات في رومه. وكذلك كانت كل جالية فيها نواة موالية لرومه بين الأهلين الغضاب، كما كانت مراكز أمامية ومصارف للتجارة الرومانية، تنتج الطعام للبطون الجياع في العاصمة، ذلك أن المحراث قد أتم ما بدأه السيف من الفتوح. وبهذه الوسائل كلها وضعت رومه الأسس التي أدت إلى صبغ مئات من المدن التي لا تزال قائمة إلى اليوم بالصبغة الرومانية، فانتشرت اللغة اللاتينية والثقافة اللاتينية في جميع أنحاء شبه الجزيرة التي كان معظمها لا يزال في طور الهمجية يتكلم أهله لغات شتى. وسارت إيطاليا بخطى وئيدة في طريق الوحدة الدولية، وكانت الخطوة الأولى في سبيل الوحدة السياسية وحشية في طريقتها عظيمة في أثرها وغايتها.
لكن كان في قورسقة وسردانية وصقلية وإفريقيا قوة أشد من رومه بطشًا وأقدم منها عهدًا، تسد على التجارة الرومانية مسالك البحر الأبيض المتوسط الغربي، وتترك إيطاليا سجينة في بحارها. تلك هي قرطاجنة.
مصادر و المراجع :
١- قصة الحضارة
المؤلف: وِل ديورَانت = ويليام جيمس ديورَانت (المتوفى: 1981 م)
تقديم: الدكتور محيي الدّين صَابر
ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرين
الناشر: دار الجيل، بيروت - لبنان، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس
عام النشر: 1408 هـ - 1988 م
عدد الأجزاء: 42 وملحق عن عصر نابليون
تعليقات (0)