نيابة حرف جر عن آخر
يتردد بين النحاة: "أن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض 1. . ."، فيتوهم من لا دراية له أن المراد هو: "جواز وضع حرف جر مكان آخر بغير ضابط، ولا توقف على اشتراك بينهما في تأدية معنى معين، ولا تشابه مقيد في الدلالة". وهذا ضرب من الفهم المتغلغل في الخطأ2؛ إذ يؤدي إلى إفساد المعاني، والقضاء على الغرض من اللغة. أما حقيقة الأمر في نيابة حروف الجر بعضها عن بعض، فتتلخص في مذهبين: الأول:3 أنه ليس لحرف الجر إلا معنى واحد أصلي يؤديه على سبيل الحقيقية لا المجاز؛ فالحرف: "في" يؤدي معنى واحدًا حقيقيًا هو "الظرفية"، والحرف: "على" يؤدي معنى واحدًا حقيقيًا هو: "الاستعلاء"، والحرف: "من" يؤدي: "الابتداء"، والحرف: "إلى" يؤدي: "الانتهاء". . . و. . . وهكذا3. . . فإن أدى الحرف معنى آخر غير المعنى الواحد الأصلي الخاص به وجب القول: بأنه يؤدي المعنى الآخر الجديد إما تأدية "مجازية" "أي: من طريق المجاز1، لا الحقيقية"، وإما تأدية، "تضمينية"2 "أي: بتضمن الفعل، أو: العامل الذي يتعلق به حرف الجر الأصلي3 ومجروره، معنى فعل أو عامل آخر يتعدى بهذا الحرف"، فحرف الجر مقصور على تأدية معنى حقيقي واحد يختص به، ولا يؤدي غيره إلا من طريق "المجاز" في هذا الحرف، أو من طريق "التضمين" في العامل الذي يتعلق به الجار الأصلي3 مع مجروره. فمن الأمثلة للمجاز: الحرف الأصلي "في"؛ فمعناه الحقيقي: "الظرفية" "أي: الدلالة على أن شيئًا يحوي بين جوانبه شيئًا آخر. . . و. . . كما سبق4، فإذا قلنا: "الماء في الكوب"، فهمنا أن الكوب يحوي بين جوانبه الماء؛ فيكون الحرف "في" مستعلًا في تأدية معناه الحقيقي الأصيل، ولكن إذا قلنا: "غرد الطائر في الغصن. . ."، لم نفهم أن الغصن يحوي في داخله وبين جوانبه الطائر المغرد؛ لاستحالة هذا، وإنما نفهم أنه كان على الغصن وفوقه، لا بين ثناياه. فالحرف: "في" قد أدى معنى ليس بمعناه الحقيقي الأصيل، فالمعنى الجديد؛ وهو: "الفوقية"، أو"الاستعلاء" إنما يؤديه حرف آخر مختص بتأديته، هو: "على" فلو راعينا الاختصاص وحده لقلنا: غرد الطائر على الغصن، فالحرف: "في" قد أدى معنى ليس من اختصاصه، بل هو من اختصاص غيره، وهذه التأدية ليست على سبيل الحقيقية، وإنما هي على سبيل المجاز، واجتمع للحرف: "في" الشرطان اللذان لا بد من تحققهما لصحة استعمال المجاز5، فالظرفية بما تقتضيه من تمكن وثبات شبيهة بالاستعلاء الذي يقتضي التمكن والثبات أيضًا؛ فاستعملنا "الظرفية" مكان الحرف لدال على "الاستعلاء" تبعًا لذلك، وكل هذا على سبيل "الاستعارة"؛ وهي نوع من المجاز، والقرينة الدالة على أنه مجاز "أي: على أن الحرف: "في" مستعمل في غير معناه الأصلي" وجود الفعل: "غرد"؛ إذ لا يقع التغريد في داخل الغصن؛ وإنما يكون فوقه، فهذه القرينة هي المانعة من إرادة المعنى الأصلي. ومن الأمثلة: للمجاز أيضًا: "على": فهو حرف جر يقتصر عند أصحاب هذا الرأي على معنى حقيقي واحد؛ هو: "الاستعلاء"، فإذا قلنا: "الكتاب على المكتب"، فهمنا هذا المعنى الحقيقي الدال على أن شيئًا معينًا فوق آخر، فالحرف مستعمل في معناه الأصيل، لكن إذا قلنا: "اشكر المحسن على إحسانه"، لم تفهم الاستعلاء الحقيقي، ولم يرد على خاطرنا أن الشكر قد حل واستقر فوق الإحسان؛ لاستحالة هذا، وإنما الذي يخطر ببالنا هو أن المراد: "اشكر المحسن لإحسانه"؛ فالحرف: "على" قد جاء في مكان: "اللام" التي معناها: "السببية"، أو"التعليل"، فأفاد ما تفيد اللام، ولكن إفادته على سبيل "الاستعارة" وهي نوع من المجاز؛ ذلك أن لام التعليل تفيد التمكن والاتصال القوي بين السبب والمسبب، أو بين العلة والمعلول؛ والاستعلاء يشبهها في أنه يفيد التمكن والاتصال بين الشيئين؛ فهذا التشابه صح استعمال الاستعلاء مجازًا، مكان السببية والتعليل، وتبع ذلك استعمال الحرف الدال على الاستعلاء مكان الحرف الدال على السببية، والقرينة الدالة على أن الحرف: "على" مستعمل في غير حقيقته وجود الفعل: "شكر" إذ لا يستقر الشكر فوق الإحسان، ولا يوضع فوقه وضعًا حقيقيًا، لاستحالة هذا، كما سبق. ومثل ما سبق يقال في بقية حروف الجر يؤدي الواحد منها معنيين أو أكثر. أما أمثلة التضمين1 في العامل فمنها قول بعض الأدباء: "نأيت من صحبة فلان بعد أن سقاني بمر فعاله"، والأصل: "نأيت عن صحبة فلان، بعد أن سقاني من مر فعاله"، ولكنه ضمن الفعل: "نأي" الذي لا يتعدى هنا بالحرف "من" معنى فعل آخر يتعدى بها؛ هو: "بعد، أو: "ضجر"؛ فالمراد: بعدت، أو: ضجرت من صحبة فلان، كما ضمن الفعل: "سقى" الذي لا يتعدى هنا "بالباء" معنى فعل آخر يتعدى بها؛ هو: "آذى"، أو"تناول" فالمراد: "آذاني" أو: "تناولني" بمر فعاله، وكذلك: "شربت بماء عذب"؛ فإن الفعل "شرب" قد ضمن معنى الفعل: "روي" فالأصل: رويت، وهكذا بقية حروف الجر. والمذهب الثاني1: أن قصر حرف الجر على معنى حقيقي واحد، تعسف وتحكم لا مسوغ له، فما الحرف إلا كلمة، كسائر الكلمات الاسمية والفعلية، وهذه الكلمات الاسمية والفعلية تؤدي الواحدة منها عدة معان حقيقية2، لا مجازية، ولا يتوقف العقل في فهم دلالتها الحقيقية فهمًا سريعًا، فما الداعي لإخراج الحرف من أمر يدخل فيه غيره من الكلمات الأخرى، ولإبعاده عما يجري على نظائره من باقي الأقسام؟ إنه نظيرها؛ فإذا اشتهر معناه اللغوي الحقيقي، وشاعت دلالته، بحيث يفهمها السامع بغير غموض، كان المعنى حقيقيًا لا مجازيًا، وكانت هذه الدلالة أصيلة لا علاقة لها بالمجاز، ولا بالتضمين ولا بغيرهما، فالأساس الذي يعتمد عليه هذا المذهب في الحكم على معنى الحرف بالحقيقية هو شهرة المعنى اللغوي الأصلي المراد وشيوعه بحيث يتبادر ويتضح سريعًا عند السامع؛ لأن هذه المبادرة علامة الحقيقة، وإن من يسمع قول القائل: "كانت في الصحراء، ونفد ما معي من الماء، وكدت أموت من الظمأ، حتى صادفت بئرًا شربت من مائها العذب ما حفظ حياتي التي تعرضت للخطر من يومين. . ."، سيدرك سريعًا معنى الحرف: "من" وقد تكرر في هذا الكلام بمعان لغوية مختلفة: أولها: بيان الجنس، وثانيها: السببية، وثالثها: البعضية، ورابعها: الابتداء. . . و. . . كذلك من يسمع قول القائل: "إني بصير في الغناء: يستهويني، ويملك مشاعري إذا كان لحنه شجيًا، وعبارته رصينة؛ كالأبيات التي مطلعها: رب ورقاء هتوف في الضحا … ذات شجو صدحت في فنن .................................... … فإن المعاني اللغوية المقصودة من الحرف: "في" ستبتدر إلى ذهنه، فالأول: للإلصاق، والثاني: للظرفية، والثالث: للاستعلاء، وكل واحد من المعاني السالفة يقفز إلى الذهن سريعًا بمجرد سماع حرف الجر خلال جملته، وهذا علامة الحقيقة1، كما سبق. فإذا كان المعنى المراد هو من الشيوع، والوضوح وسرعة الورود على الخاطر بالصورة التي ذكرناها، ففيم المجاز أو التضمين أو غيرهما؟ إن المجاز أو التضمين أو نحوهما يقبلان، بل يتحتمان حين لا يبتدر المغني المراد إلى الذهن، ولا يسارع الذهن إلى التقاطه؛ بسبب عدم شيوعه شيوعًا يجعله واضحًا جليًا، وبسبب عدم اشتهاره شهرة تكفي لكشف دلالته في يسر وجلاء، أما إذا شاع واشتهر وتكشف للذهن سريعًا، فإن هذا يكون علامة الحقيقية1 كما قلنا فلا داعي للعدول عنها، ولا عن قبولها براحة واطمئنان2. وهذا رأي نفيس أشار بالأخذ به والاقتصار عليه كثير من المحققين3 مصادر و المراجع: 1-شرح المقدمة المحسبة المؤلف: طاهر بن أحمد بن بابشاذ (ت ٤٦٩ هـ) 2-المفصل في صنعة الإعراب المؤلف: أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (ت ٥٣٨هـ) 3-الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين: البصريين والكوفيين المؤلف: عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله الأنصاري، أبو البركات، كمال الدين الأنباري (ت ٥٧٧هـ) 4- نتائج الفكر في النَّحو للسُّهَيلي المؤلف: أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد السهيلي (ت ٥٨١هـ) 5- البديع في علم العربية المؤلف: مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد بن محمد ابن عبد الكريم الشيباني الجزري ابن الأثير (ت ٦٠٦ هـ) 6- التبيين عن مذاهب النحويين البصريين والكوفيين المؤلف: أبو البقاء عبد الله بن الحسين بن عبد الله العكبري البغدادي محب الدين (ت ٦١٦هـ) 7- سفر السعادة وسفير الإفادة المؤلف: علي بن محمد بن عبد الصمد الهمداني المصري الشافعي، أبو الحسن، علم الدين السخاوي (ت ٦٤٣ هـ) 8- شرح المفصل للزمخشري المؤلف: يعيش بن علي بن يعيش ابن أبي السرايا محمد بن علي، أبو البقاء، موفق الدين الأسدي الموصلي، المعروف بابن يعيش وبابن الصانع (ت ٦٤٣هـ) 9-الكافية في علم النحو المؤلف: ابن الحاجب جمال الدين بن عثمان بن عمر بن أبي بكر المصري الإسنوي المالكي (توفي: ٦٤٦ هـ) 10- أمالي ابن الحاجب المؤلف: عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس، أبو عمرو جمال الدين ابن الحاجب الكردي المالكي (ت ٦٤٦هـ) 11- شرح الكافية الشافية المؤلف: جمال الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني 12- تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد المؤلف: محمد بن عبد الله، ابن مالك الطائي الجياني، أبو عبد الله، جمال الدين (ت ٦٧٢هـ) 13-شرح تسهيل الفوائد المؤلف: محمد بن عبد الله، ابن مالك الطائي الجياني، أبو عبد الله، جمال الدين (ت ٦٧٢هـ) 14- الكناش في فني النحو والصرف المؤلف: أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد ابن عمر بن شاهنشاه بن أيوب، الملك المؤيد، صاحب حماة (ت ٧٣٢ هـ) 15- التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل المؤلف: أبو حيان الأندلسي 16-شرح قطر الندى وبل الصدى المؤلف: عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله ابن يوسف، أبو محمد، جمال الدين، ابن هشام (ت ٧٦١هـ) 17-أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك المؤلف: عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله ابن يوسف، أبو محمد، جمال الدين، ابن هشام (ت ٧٦١هـ) 18- تخليص الشواهد وتلخيص الفوائد المؤلف: جمال الدين أبو محمد عبد الله بن يوسف بن هشام الأنصاري (ت: ٧٦١ هـ) 19- المساعد على تسهيل الفوائد المؤلف: بهاء الدين بن عقيل 20- نحو مير = مبادئ قواعد اللغة العربية المؤلف: علي بن محمد بن علي الشريف الحسيني الجرجاني المعروف بسيد مير شريف (ت ٨١٦هـ) 21-همع الهوامع في شرح جمع الجوامع المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (ت ٩١١هـ) 22-شرح كتاب الحدود في النحو المؤلف: عبد الله بن أحمد الفاكهي النحوي المكي (٨٩٩ - ٩٧٢ هـ) 23-شرح الإمام الفارضي على ألفية ابن مالك المؤلف: العلامة شمس الدين محمد الفارضي الحنبلي (ت ٩٨١ هـ) 24-جامع الدروس العربية المؤلف: مصطفى بن محمد سليم الغلايينى (ت ١٣٦٤هـ) 25-النحو الوافي المؤلف: عباس حسن (ت ١٣٩٨هـ)