المنشورات
ما بكاء الكبير بالأطلال … وسؤالي وما يردّ سؤالي
مطلع قصيدة للأعشى، وهو شاهد على أنّ «الباء» «بالأطلال» للظرفية، أي: في الأطلال، وأراد بالكبير: نفسه، وعذلها بالوقوف على الأطلال وسؤاله إيّاها، ثم رجع وقال: وما يردّ سؤالي؟ يقول: ما بكاء شيخ كبير مثلي في طلل، ويبدو أن البيت مضمّن في البيت التالي، وهو:
دمنة قفرة تعاورها الصّي … ف بريحين من صبا وشمال
والدمنة: ما اجتمع من التراب والأبعار وغير ذلك، فتعاوره الصيف بريحين مختلفين، وهما الصبا، ومهبها من ناحية الشرق، والشّمال، ومهبها من القطب الشمالي إلى
الجنوب، والجنوب من رياح اليمن، وفي قوله في نهاية البيت الأول: «وما يردّ سؤالي»، و «دمنة»، في مطلع البيت الثاني، أقوال لا بأس بإيجازها؛ لما فيها من التدريب للعقل على التفسير والربط. نقل البغدادي في خزانته/ 9/ 512، عن كتاب الشعر لأبي علي قوله: فأما قوله: «وما يردّ سؤالي دمنة قفرة»، فإنّ «ما» تحتمل ضربين:
أحدهما: أن تكون استفهاما في موضع نصب، كأنه قال: أيّ يرجع عليك سؤالك من النفع. وقد يقال: عاد عليّ نفع من كذا، وردّ علي كذا نفعا، ورجع عليّ منه نفع، ويكون «دمنة»، منتصبا بالمصدر الذي هو «سؤالي»، والبيت على
هذا مضمّن.
والآخر: أن يكون «ما» نفيا، كأنه قال: ما يردّ سؤالي، أي: جواب سؤالي، «دمنة» ف «الدمنة» فاعل «يرد»، والتقدير: «وما يردّ جواب سؤالي دمنة» والبيت على هذا مضمّن أيضا؛ لأن الفاعل الذي هو «دمنة»، فعله في البيت السابق، فيجوز أن يقول: «وما تردّ»، فيؤنث على لفظ «دمنة»، ويذكّر على المعنى.
وقال ابن السّيد البطليوسي في «شرح أدب الكاتب»: وسؤالي فهل تردّ سؤالي، ويروى: «فما تردّ»، و «لا تردّ»، ويروى بالتاء والياء، فمن روى: «فهل تردّ»، على لفظ التأنيث، رفع «دمنة»، وجعلها فاعلا، وجعل «سؤالي» مفعولا بتقدير مضاف، أي: فهل تردّ جواب سؤالي دمنة.
ومن روى: «فهل يردّ»، بلفظ التذكير، نصب «دمنة» مفعولا، وجعل «سؤالي» فاعلا، ومعناه: إنّ سؤالي لا يردّ الدمنة إلى ما كانت عليه، ومن روى: «ما» واعتقد أنها نفي، جاز أن يقول: «تردّ» بلفظ التأنيث، ويرفع دمنة لا غير، وجاز أن يقول: «يردّ»، بلفظ التذكير، وينصب دمنة إن شاء، ويرفعها إن شاء.
وإن اعتقد أن «ما» استفهام، قال: «يردّ»، على لفظ التذكير، وجعل «ما» في موضع نصب ب «يرد»، و «سؤالي» في موضع رفع، ونصب «دمنة» بسؤالي لا غير.
ومن روى: «ولا يردّ سؤالي»، على لفظ التذكير، نصب «دمنة»، وإن شاء رفعها.
ومن روى: «ولا تردّ»، على لفظ التأنيث، رفع دمنة لا غير.
قلت: وهذه التأويلات التي ذكرها العلماء، تقدم لنا ذخيرة من الأساليب التعبيرية، ولكنها لا تضع يدنا على ما قاله الشاعر. فالأعشى نطق بواحد من هذه الأساليب، وأراد
معنى معينا أوحت به عبارته التي نطق بها، فماذا قال الشاعر؟ وما المعنى الذي كان في نفسه؟ هذا الذي نريده؛ لأنه يربط بين المعنى والحال النفسية للشاعر، ويربط أيضا بين الشاعر والقارئ.
وكلّ التأويلات التي ذكروها تنصّ على أن البيت الأول مضمّن في البيت الثاني، والتضمين يعدونه من عيوب الشعر، وقد استدل به بعضهم على أنّ العرب يرون أن البيت وحدة القصيدة؛ لأنهم يرون التضمين عيبا.
قلت: وهذا استدلال لا يصحّ، وإنما عابوا التضمين؛ لأنه يفسد الإنشاد ويجبر القارئ على إنشاد بيتين متتاليين في نفس واحد؛ لإيصال المعنى، فهم يرون أن البيت الواحد يؤدي معنى جزئيا يمكن الوقوف عليه، ولكنه يحتاج إلى غيره، ويحتاج غيره إليه؛ لتكوين الصورة العامة للمعنى العام الذي يريد الشاعر أن يوصله عن طريق القصيدة كلها.
والبيتان المذكوران من قصيدة الأعشى، ليس بينهما تضمين.
فالشاعر في البيت الأول يريد أن يقول: إن بكاء الشيخ على الأطلال ليس مناسبا لحاله، فعليه أن ينشغل من الذكريات بغيره، ويتابع سؤاله الاستنكاري قائلا: وما سؤالي الأطلال عن ذكريات الصبا؟ وماذا ينفع سؤالي؟ والمسئول عنه هنا محذوف تقديره: وما سؤالي الأطلال؟ وماذا يفيدوني سؤال الأطلال؟ ثم يستأنف في البيت الثاني قائلا: دمنة قفرة، والتقدير: هي دمنة قفرة متبقية من آثار من كنت أعرف. فهو لا يريد أن يسأل الدمنة، ولا يريد أن يقول إن الدمنة لا ترد جواب سؤاله. وإنما أراد أن يخبر عن حال ما تبقى من الآثار.
ولهذا الشاهد قصة أدبية طريفة، قد تصدق، وقد تكذب، ولكنها لا تخلو من فائدة أدبية:
روى نقلة الأخبار، أن طليحة الأسدي (توفي حوالي 21 هـ) كان شريفا، وكان يفد على كسرى، فيكرمه ويدني مجلسه. قال طليحة: فوفدت على كسرى مرّة (لا نعلم أيّ كسرى) فوافقت عيدا من أعياد الفرس، فحضرت عند كسرى في جملة من حضر من أصحابه، فلما طعمنا وضع الشراب فطفقنا نشرب، فغنّى المغني:
لا يتأرّى لما في القدر يطلبه (1).
فقال كسرى لترجمانه: ما يقول؟ ففسره له، فقال كسرى: هذا قبيح، ثم غنّاه المغني:
أتتك العيس تنفخ في براها (2).
فقال كسرى لترجمانه: ما يقول؟ فقال: لا أدري، فقال بعض جلسائه: «شاهنشاه، أشتر أف أف»، معناه: يا ملك الملوك، هذا جمل ينفخ. وأشتر بلغتهم: الجمل. وأف، حكاية النفخ. قال طليحة: فأضحكني تفسيره العربية بالفارسية. [يلاحظ أن كسرى لم يعلق على معنى الغناء]. قال: ثم غناه المغني بشعر فارسيّ لم أفهمه، فطرب كسرى، وملئت له كأس، وقام فشربها قائما، ودارت الكأس على جميع الجلساء.
قال طليحة: «وكان الترجمان إلى جانبي، فقلت له: ما هذا الشعر الذي أطرب الملك هذا الطرب؟ فقال: خرج يوما متنزها، فلقي غلاما حسن الصورة، وفي يمينه ورد، فاستحسنه وأمر أن يصنع له فيه شعر، فإذا غناه المغني ذلك الشعر طرب، وفعل ما رأيت.
فقلت (طليحة): ما في هذا مما يطرب حتى يبلغ فيه هذا المبلغ؟ فسأل كسرى الترجمان عما حاورني فيه، فأخبره. فقال: قل له: إذا كان هذا لا يطرب، فما الذي يطربك أنت؟ فأدى إليّ الترجمان قوله، فقلت: قول الأعشى:
ما بكاء الكبير بالأطلال ... البيت
فأخبره الترجمان بذلك، فقال كسرى: وما معنى هذا؟ فقلت: هذا شيخ كبير مرّ بمنزل محبوبته فوجده خاليا قد عفا
وتغيّر، وجعل يبكي. فضحك كسرى وقال:
وما الذي يطربك من شيخ واقف في خربة وهو يبكي؟ أو ليس الذي أطربنا نحن أولى بأن يطرب له.
قال طليحة: فثقل عليه جانبي بعد ذلك» اه. [الخزانة/ 9/ 514].
قلت: وعلى هذه القصة تعليقات وأسئلة؟
1 - قوله: كسرى، ولا نعلم من كسرى الذي كان في هذه القصة، فإن كسرى لقب، وليس اسما، وكان كسرى نفق في العهد النبوي، وتولى ابنه شيرويه.
فأيهما كان كسرى؟
2 - قوله: «فتغنىّ المغني ... الخ بشعر عربي في حضرة كسرى. فهل كان يغني المغنون في بلاط كسرى بالعربية. وفي عيد من أعياد الفرس؟
3 - طليحة الأسدي توفي سنة 21 هـ، وهو الذي قدم على النبي صلّى الله عليه وسلّم سنة 9 هـ وأسلم، ثم ارتد بعد رجوعه إلى موطنه. وعاد إلى الإسلام في زمن عمر، وشارك في معارك الفتح، واستشهد بنهاوند.
4 - يبدو في القصة الفرق بين الذوق العربي في الغزل، والوقوف على الأطلال، والذوق الفارسي، أو الذوق المولّد في العصر العباسي الذي كان يهتم بالولدان.
5 - ومهما كان من أمر هذه القصة، فهي قابلة للأخذ والردّ والنقد، وأترك للقارئ إعمال الفكر النقدي فيها.
مصادر و المراجع :
١- شرح الشواهد الشعرية في أمات الكتب النحوية
«لأربعة آلاف شاهد شعري»
المؤلف:
محمد بن محمد حسن شُرَّاب
31 أغسطس 2023
تعليقات (0)