المنشورات

علم المعاني- نشأته وتطوّره

علم المعاني هو أحد علوم البلاغة الثلاثة المعروفة: المعاني والبيان والبديع. وقد كانت البلاغة العربية في أول الأمر وحدة شاملة لمباحث هذه العلوم بلا تحديد أو تمييز. وكتب المتقدمين من علماء العربية خير شاهد على ذلك، ففيها تتجاور مسائل علوم البلاغة ويختلط بعضها ببعض من غير فصل بينها.
وشيئا فشيئا أخذ المشتغلون بالبلاغة العربية ينحون بها منحى التخصص والاستقلال، كما أخذت مسائل كل فن بلاغيّ تتبلور وتتلاحق واحدة بعد الأخرى. وظل الأمر كذلك حتى جاء عبد القاهر الجرجاني في القرن الخامس الهجري «471 هـ» ووضع نظرية علم المعاني في كتابه «دلائل الإعجاز» ونظرية علم البيان في كتابه «أسرار البلاغة»، كما وضع ابن المعتز من قبله أساس علم البديع.
عبد القاهر الجرجاني إذن هو واضع أصول علمي المعاني والبيان ومؤسسهما في العربية، وقد جعل من مباحث كلا العلمين وحدة يمكن النظر فيها نظرة شاملة والعجيب أنه لم يحدث بعده تغيير يذكر في هذين العلمين، لأنه استطاع أن يستنبط من ملاحظات البلاغيين قبله كل القواعد البلاغية فيهما، وكان ذلك إيذانا بأن تتحول تلك القواعد من بعده إلى قوانين جامدة. وقد فتن البلاغيون بعمله فراحوا يرددون كلامه ويقفون عنده لا يتجاوزونه إلى عمق أو ابتكار، كأنما البحث في البلاغة قد انتهى بعبد القاهر الجرجاني.
نقول ذلك لأن جهود البلاغيين من بعده انحصرت في جمع قواعد علوم البلاغة التي وضعها، وفي ترتيب أبوابها، واختصارها. وكان هذا الاختصار يصل أحيانا من الغموض والصعوبة إلى حيث يحتاج إلى شرح يوضح غامضه، ويذلل صعابه، فيقبل عليه الشراح، ومنهم من يتوسع في الشرح إلى الحد الذي يجعل الإلمام بحقائق العلم أمرا عسيرا. وهكذا وصلت البلاغة نتيجة لذلك إلى أقصى ما يمكن من اختصارات وأقصى ما يمكن من شروح.
ومن أوائل من اتجهوا إلى الاختصار والتلخيص الفخر الرازي «606 هـ» في كتابه «نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز»، فقد اختصر فيه كتابي «دلائل الإعجاز» و «أسرار البلاغة» لعبد القاهر. وفي ذلك يقول: «لما وفقني الله
لمطالعة كتابي دلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة، التقطت منهما معاقد فوائدهما، وجمعت متفرقات الكلم/ في الضوابط العقلية».
وظهر بجانب الرازي وفي عصره عالم ضرب بسهم وافر في الفلسفة والمنطق وأصول الفقه والاعتزال واللغة والبلاغة، وكان له تأثير خطير على البلاغة العربية.
ذلك العالم هو سراج الدين أبو يعقوب يوسف بن محمد السكاكي المتوفى سنة 626 للهجرة، صاحب كتاب «مفتاح العلوم» الذي جعله أربعة أقسام: قسما في علم الصرف، وقسما في علم النحو، وقسما في علوم البلاغة، وقسما في علم الشعر لقد سارت دراسة البلاغة قبل السكاكي على منهاج من عدم الفصل بين فنونها، لما في ذلك من خدمة الأدب وإمداده بأسباب القوة والجمال والوضوح. وكان لهذا المنهاج أثره وقيمته في إيقاظ المواهب وإرهاف الملكات الفنية لصناعة الأدب، وإقدار أصحابها على التذوق الأدبي والتمييز بين جيد الكلام ورديئه.
ذلك كان مسار الدراسات البلاغية قبل السكاكي: تنبيه إلى مواطن الحسن والجمال من الكلام، وشحذ لملكات صنّاعه الفنية، ومحاولات للكشف عن العناصر الجمالية في البيان العربي، وتربية لملكة الذوق، وتمكين كل ذي موهبة أدبية من أن يقرأ ويفهم، ويستحسن ويستقبح، ويوازن ويفضل، أو بعبارة أخرى من أن ينقد العمل الأدبي ويحكم عليه.
في هذا المنهاج لم تكن محاولة الاهتداء إلى العناصر الجمالية في البيان العربي غاية في حد ذاتها بمقدار ما كانت وسيلة لشحذ الملكات، وتنمية الذوق، وإرهاف الحس، وتكوين البلغاء والنقاد.
وعلى العكس من ذلك كان منهاج السكاكي في دراسة البلاغة، فقد أصّل منهاجه فيها على أسس منطقية حولت البلاغة من فن إلى علم له قواعده ونظرياته التي إن نجحت في تكوين طبقات من البلاغيين فقد فشلت في تكوين البلغاء.
ومن هنا كانت خطورة منهاج السكاكي الذي يعد في تاريخ البلاغة بداية طور الجمود في دراستها. لقد خيل إليه أنه بمنهاجه المنظم المقنن يصلح من شأن البلاغة فإذا به من حيث لا يدري يفسدها ويسيء إليها.
وشهرة السكاكي في البلاغة مصدرها القسم الثالث من كتابه «مفتاح العلوم»، فقد أفرد هذا القسم من كتابه للكلام عن علمي المعاني والبيان ولواحقهما من البلاغة والفصاحة والمحسنات البديعية بنوعيها اللفظي والمعنوي.
فمن خلال مجهودات البلاغيين من قبله وبخاصة عبد القاهر الجرجاني «471 هـ»، والزمخشري محمود بن عمر «538 هـ» والفخر الرازي «606 هـ» استطاع السكاكي تحقيق أمرين: أحدهما أن ينفذ إلى عمل ملخص دقيق لما نثره أولئك البلاغيون في كتبهم من آراء، وكذلك لما توصل إليه هو من أفكار، وثانيهما أن يصوغ كل ذلك في صيغ مضبوطة محكمة، مستعينا فيها بقدرته المنطقية في التعليل والتعريف والتقسيم والتفريع والتشعيب. وبهذا تحولت البلاغة في مفهومه أولا وفي تلخيصه ثانيا إلى علم بأدق المعاني لكلمة علم، فهي عنده قوانين وقواعد صبت في قوالب منطقية جافة باعدت بينها وبين وظيفتها الأساسية من إمتاع النفس، وإرهاف الحس، وتنمية الذوق، والتمكين لذوي المواهب الأدبية من القدرة على الخلق والإبداع.
وقد عرّف السكاكي علم المعاني بقوله: «إنه تتبع خواص تراكيب الكلام في الإفادة وما يتصل بها من الاستحسان وغيره، ليحترز بالوقوف عليها عن الخطأ في تطبيق الكلام على ما يقتضي الحال ذكره»

 

مصادر و المراجع:
1-سحر البلاغة وسر البراعة
المؤلف: عبد الملك بن محمد بن إسماعيل أبو منصور الثعالبي (ت ٤٢٩هـ)
2-أسرار البلاغة
المؤلف: أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الفارسي الأصل، الجرجاني الدار (ت ٤٧١هـ)
3-الإيضاح في علوم البلاغة
المؤلف: محمد بن عبد الرحمن بن عمر، أبو المعالي، جلال الدين القزويني الشافعي، المعروف بخطيب دمشق (ت ٧٣٩هـ)
4-الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز
المؤلف: يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم، الحسيني العلويّ الطالبي الملقب بالمؤيد باللَّه (ت ٧٤٥هـ)
5- عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح
المؤلف: أحمد بن علي بن عبد الكافي، أبو حامد، بهاء الدين السبكي (ت ٧٧٣ هـ)
6-تلوين الخطاب لابن كمال باشا دراسة وتحقيق
المؤلف: أحمد بن سليمان بن كمال باشا، شمس الدين (ت ٩٤٠هـ)
7-الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم
المؤلف: إبراهيم بن محمد بن عربشاه عصام الدين الحنفي (ت: ٩٤٣ هـ)
8- معاهد التنصيص على شواهد التلخيص
المؤلف: عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن أحمد، أبو الفتح العباسي (ت ٩٦٣هـ)
9-حاشية الدسوقي على مختصر المعاني لسعد الدين التفتازاني (ت ٧٩٢ هـ) [ومختصر السعد هو شرح تلخيص مفتاح العلوم لجلال الدين القزويني]
المؤلف: محمد بن عرفة الدسوقي
10- جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع
المؤلف: أحمد بن إبراهيم بن مصطفى الهاشمي (ت ١٣٦٢هـ)
11-علوم البلاغة «البيان، المعاني، البديع»
المؤلف: أحمد بن مصطفى المراغي (ت ١٣٧١هـ)
12- بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة
المؤلف: عبد المتعال الصعيدي (ت ١٣٩١هـ)
13-علم البديع
المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)
14-علم البيان
المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)
15- علم المعاني
المؤلف: عبد العزيز عتيق (ت ١٣٩٦ هـ)
16-البلاغة العربية
المؤلف: عبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني الدمشقي (ت ١٤٢٥هـ)
17-البلاغة الصافية في المعاني والبيان والبديع
المؤلف: حسن بن إسماعيل بن حسن بن عبد الرازق الجناجيُ رئيس قسم البلاغة بجامعة الأزهر (ت ١٤٢٩ هـ)
18- النظم البلاغي بين النظرية والتطبيق
المؤلف: حسن بن إسماعيل بن حسن بن عبد الرازق الجناجيُ رئيس قسم البلاغة بجامعة الأزهر (ت ١٤٢٩ هـ)
19-من قضايا البلاغة والنقد عند عبد القادر الجرجاني
المؤلف: حسن بن إسماعيل بن حسن بن عبد الرازق الجناجيُ رئيس قسم البلاغة بجامعة الأزهر (ت ١٤٢٩ هـ)
20- أساليب بلاغية، الفصاحة - البلاغة - المعاني
المؤلف: أحمد مطلوب أحمد الناصري الصيادي الرفاعي
21-الأسلوب
المؤلف: أحمد الشايب
22- المنهاج الواضح للبلاغة
المؤلف: حامد عونى
23-خصائص التراكيب دارسة تحليلية لمسائل علم المعاني
المؤلف: محمد محمد أبو موسى
24- البديع عند الحريري
المؤلف: محمد بيلو أحمد أبو بكر
25- شرح مائة المعاني والبيان
المؤلف: أبو عبد الله، أحمد بن عمر بن مساعد الحازمي
26-البلاغة ٢ - المعاني
كود المادة: LARB٤١٠٣
المرحلة: بكالوريوس
المؤلف: مناهج جامعة المدينة العالمية
الناشر: جامعة المدينة العالمية
27-علوم البلاغة «البديع والبيان والمعاني»
المؤلف: الدكتور محمد أحمد قاسم، الدكتور محيي الدين ديب

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید