المنشورات

فإن ترفقي يا هند فالرّفق أيمن … وإن تخرقي يا هند فالخرق أشأم فأنت طلاق والطلاق عزيمة … ثلاث ومن يخرق أعقّ وأظلم فبيني بها أن كنت غير رفيقة … وما لا مرئ بعد الثلاث مقدّم

هذه الأبيات من أبيات المسائل الفقهية النحوية، ولا يعلم قائلها، وإذا صحت الروايات التي تقال حولها، فإنها ترجع إلى القرن الثاني الهجري، لأن أكثر الروايات تذكرها زمن الرشيد، وقد توفي في العقد الأخير من القرن الثاني، ويذكر من أبطال رواياتها أبو يوسف القاضي صاحب أبي حنيفة، وقد توفي سنة 182 هـ.
وقوله: فإن ترفقي: الرفق الملاءمة والملاطفة، ضد العنف. والخرق: بضم الأول وفعله من باب «قتل» ومن باب «فرح» إذا فعل شيئا فلم يرفق به، فهو أخرق وهي خرقاء والاسم الخرق بالضم. وأيمن: وصف بمعنى ذي يمن وبركة لا أنه أفعل تفضيل. وكذلك الأشأم، معناه ذو شآمة ونحوسة.
والعزيمة: بمعنى المعزوم عليه، أي: الذي وقع التصميم فكان واقعا قطعا. وهو في الاصطلاح: ضدّ. الرخصة. وأعقّ: أفعل تفضيل من العقوق ضد البرّ.
وقوله: ومن يخرق أعقّ. أعق: جواب الشرط ولكنه حذف الفاء والتقدير فهو أعقّ.
وهو من ضرورات الشعر القبيحة.
وقوله: فبيني: من البينونة، وهي الفراق. وضمير بها للثلاث أي: كوني ذات طلاق بائن بهذه التطليقات الثلاث. لكونك غير رفيقة.
أن: مفتوحة الهمزة مقدر قبلها لام العلة. ومقدّم: مصدر ميمي، أي: ليس لأحد تقدّم إلى العشرة والإلفة بعد إيقاع الثلاث. وقيل: معنى مقدّم: بمعنى مهر مقدّم. أي ليس له بعد الثلاث مهر يقدمه لمطلقة ثلاثا إلا بعد زوج آخر. فيكون مقدّم اسم مفعول ...
وتروي كتب النحو أن الرشيد أمير المؤمنين، كتب ليلة إلى أبي يوسف بهذه الأبيات.
وسأله: ماذا يلزمه: إذا رفع الثلاث وإذا نصبها حيث روي البيت الثاني: هكذا.
فأنت طلاق والطلاق عزيمة ثلاثا.
فأنت طلاق والطلاق عزيمة ثلاث.
قالوا: فتخوّف أبو يوسف الإجابة، لأنها مسألة نحوية فقهية. فسأل الكسائي عنها.
ويظنّ أنّ القصة مصنوعة، وصانعها من أنصار الكسائي، لأنه لا تليق نسبة الجهل إلى
أبي يوسف، وهو الإمام الذي أخذ علم أبي حنيفة. ولا يظنّ أن فقيها مجتهدا من أهل القرون الأولى، يحتاج إلى سؤال غيره في مسألة نحوية، فما تصدّر أبو يوسف هذه المنزلة إلا وهو متضلع من فنون العربية،. ولذلك نقل آخرون أن المرسل بالفتوى الكسائي إلى محمد بن الحسن، ولا دخل لأبي يوسف فيها.
وسواء أصحت القصة أم كانت ملفقة، فإننا نتطلع إلى المعاني التي تنشأ عن وجوه الإعراب ولا يهمنا من الذي قال وأفتى. فكلّ من ذكر في القصة، من أهل العلم، ولا نفضّل واحدا على آخر. ونبدأ في بيان الجواب:
الوجه الأول: أنت طلاق والطلاق عزيمة ثلاثا: برفع عزيمة ونصب «ثلاثا» وهنا يقع الطلاق ثلاثا. ويكون قوله «والطلاق عزيمة: مبتدأ وخبر، فكأنه قال: والطلاق مني جدّ غير لغو.
وقوله «ثلاثا: معناه: أنت طالق ثلاثا وما بين - طالق - وثلاثا: جملة معترضة.
الوجه الثاني: أنت طلاق والطلاق عزيمة ثلاث: بنصب عزيمة، ورفع ثلاث. وهنا تطلق طلقة واحدة. والطلاق: مبتدأ. ثلاث: خبر - عزيمة: بالنصب على إضمار فعل تقديره: أعزم عليك عزيمة. أو التقدير: والطلاق إذا كان عزيمة ثلاث -. فقوله: أنت طالق. مبتدأ وخبر، يكون قد أخبرها بطلاقها. ثم أخبر أن الطلاق مداه ثلاث طلقات.
وقال ابن هشام في المغني: الرفع والنصب محتمل لوقوع الثلاث ولوقوع الواحدة.
أما الرفع: فلأن أل: في الطلاق إما لمجاز الجنس كما نقول: «زيد الرجل» أي هو الرجل المعتدّ به. وإما للعهد الذكري كقوله تعالى: فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ [المزمل: 16]. أي: وهذا الطلاق المذكور عزيمة ثلاث. فعلى العهدية: تقع الثلاث.
وعلى الجنسية: تقع واحدة.
قال: وأما النصب: فلأنه محتمل لأن يكون على المفعول المطلق، وحينئذ يقتضي وقوع الطلاق الثلاث. إذ المعنى: أنت طالق ثلاثا - ثم اعترض بينهما بقوله: والطلاق عزيمة. ومحتمل لأن يكون «ثلاثا» حالا من الضمير المستتر في عزيمة وحينئذ لا يلزم وقوع الثلاث لأنّ المعنى. والطلاق عزيمة إذا كان ثلاثا، فإنما يقع مانواه ...
ثم قال: والذي نواه وأراده الشاعر. (الثلاث) لأن البيت الثالث يقول: فبيني بها.
[شرح أبيات المغني/ 1/ 324].




مصادر و المراجع :

١-  شرح الشواهد الشعرية في أمات الكتب النحوية «لأربعة آلاف شاهد شعري»

المؤلف: محمد بن محمد حسن شُرَّاب

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید