المنشورات
فأشهد عند الله أن قد رأيتها … وعشرون منها إصبعا من ورائيا
زعموا أنّ هذا البيت لشاعر يدعى سحيما عبد بني الحسحاس، وأنه من القصيدة التي مطلعها:
عميرة ودع إن تجهزت غازيا … كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
وزعموا أن عمر بن الخطاب سمع منه القصيدة، ولم يعبه إلا في تقديم الشيب على الإسلام. وهذا كله كذب وبهتان. فكيف يسمعها عمر، وفيها هذا البيت المفحش، ولو أن الشاعر قاله في زوجته حليلته ما كان مرضيا. فهذا البيت يقول: إنها كانت تحتضنه بيديها ورجليها، فأصابع اليدين عشرة، وأصابع القدمين عشرة، والمجموع عشرون ومما يدلك على أن هذا البيت مصنوع، أنه جاء بالقافية نفسها، بصورة أخرى يقول:
توسدني كفّا وتثني بمعصم … عليّ وتحوي رجلها من ورائيا
وهنا تكون الأصابع التي وراءه عشر فقط لأن إحدى يديها تطوقه، وكفها وسادة له، وتحوي قدما واحدة وراءه.
وقد استشهدوا بالبيت للفصل بين العدد وتمييزه (عشرون - منها - إصبعا) وذلك للضرورة. ولو كان الذي قال هذا البيت شاعرا ما اقترف هذه الضرورة القبيحة - وإنما هذه صناعة نحوي سمج.
قلت: في التعليق على أبيات سابقة له: إن الأدباء، ورواة الأدب، لا يهمهم إلا أن يقال: إن هذا الشعر منسوب لفلان، ولا يحققون في قصة الشعر، ولذلك فإنهم يسخرون من عقول القرّاء عند ما يسجلون أحداثا كاذبة في كتبهم تنافي وتخالف الواقع التاريخي.
فزعموا أنّ سحيما هذا أحرقه أهل عميرة التي يشبب بها بالنار. ومتى كان هذا؟ في عهد الخلفاء الراشدين. ألم يكن هناك خليفة يحكم بما أنزل الله؟ وهل هناك حدّ للزنى أكثر من الرجم؟ ثم إنّ سحيما لم يثبت عليه الزنى، وإنما قال شعرا يذكر أنه فعل الفاحشة بعمرة. فهلّا ساقوه إلى الخليفة - وكان في أيام عثمان كما زعموا - فإن أقرّ على نفسه رجم إن كان محصنا وجلد وغرّب إن كان أعزبا. وإن لم يقرّ، ولم يشهد عليه شهود غرّب عن موطنه الذي فيه الحبيبة، كما روي أن عمر كان يفعل. وينقل ابن حجر في الإصابة - وهذه غريبة منه - سبب قتله: أن يهوديا أسر امرأة من بني الحسحاس وجعلها في حصن له، فبلغ ذلك سحيما فأخذته الغيرة فخلص المرأة من اليهودي، وأوصلها إلى قومها.
فأرادت أن تكافئه، فكان بينهما هوى، وغزل ففطنوا له وقتلوه خشية العار.
أما القتل خشية العار، فهذا إما جاهلي، وإما أن يكون في العقود المتأخرة عن صدر الإسلام، لأن القصاص في عصر الخلفاء الراشدين، لم يكن إلا بحكم شرعي. وتقول قصته أنه قتل في عهد عثمان، وأنه خلّص امرأة من يهودي .. الخ. أين كان هذا اليهودي صاحب الحصن؟ والمعروف المشهور الثابت أنه لم يبق يهوديّ في الجزيرة العربية في عهد عمر بن الخطاب: أما المدينة التي تدور فيها أحداث قصته فقد خلت من اليهود تماما في العهد النبويّ، وبقيت قلّة في خيبر ووادي القرى، فلما تولى عمر أجلاهم، لأن رسول الله قال: لا يجتمع في جزيرة العرب دينان: فأين كان هذا اليهودي الذي يأسر الفتيات وله قوة وحصن؟.
وقد يقول قائل: ما بالك تخلط في هذا المعجم بين الشواهد النحوية والتاريخ؟ قلت:
وما أرهقت نفسي في إخراج هذا المعجم. إلا من أجل هذا، لأنني وجدت أكثر ما يرّوج من التاريخ الكاذب، عن طريق الشواهد النحوية.
وقولي هذا، لا يطعن في هذه الشواهد كلّ الطعن، ولكنني أطعن فيما حاكوه حول الشاهد من القصص.
فالبيت الشاهد، قد يكون قاله الشاعر المنسوب إليه ولكن الأدباء عند ما دونوا هذه الأشعار وصلتهم في عهد متأخر عن زمن قولها فأرادوا أن يقدموا مناسبة القول بين يدي النصّ، فضلوا وأضلوا، لأنهم لا يملكون أخبارا مسندة إلى زمن الشاعر. فلجأوا إلى أهل القصة وأخذوا منهم ما قالوه دون تحقيق.
مصادر و المراجع :
١- شرح الشواهد الشعرية في أمات الكتب النحوية
«لأربعة آلاف شاهد شعري»
المؤلف:
محمد بن محمد حسن شُرَّاب
3 سبتمبر 2023
تعليقات (0)